حين تصبح الحِملان أُسُودا.. صراع الأضداد للمتاجرة بالحياة البريّة

قيس قاسم

يجري في شمال كينيا صراع شديد بين الصيادين والمتاجرين بالحيوانات البرية -خاصة الفِيلة- وبين حُراس المحميّات الطبيعية، وهو صراع لا ينتهي بالضرورة بانتصار طرف على آخر كليا، ففيه تجري أحيانا عمليات تبادل للمواقع، حيث يصبح الصيادون والمتاجرون بأنياب الفيلة العاجية حُراسا، فيما يترك عدد من الحُراس وظائفهم.

كيف تصبح الحِملان أسودا، وما هي محركات تلك الدورة العجيبة؟ ذلك ما يقترح المخرج الأمريكي جون كاسبي متابعته في وثائقي أخذ شكل فيلم روائي ربما هو الأندر في أسلوب سرده وتجسيده لقصة أبطاله الحقيقية، والذي استحق عليه مديحا نقديا كبيرا وحضورا لافتا في كبريات المهرجانات السينمائية الدولية.

التعبير الشعبي “الحَمَل الذي صار ذئبا” أو “الحِملان التي صارت أسودا” مهما اختلفت في تنويعاتها فإن دلالاتها واحدة تقريبا؛ تشير إلى عملية تحوّل من هيئة إلى أخرى وفق تَغيُّر الظروف، وأحيانا للدلالة على التلوّن والحيلة.

في الوثائقي الأمريكي “حين تصبح الحِملان أسودا” إشارة إلى تحوّل المُطارَد الضعيف إلى مُطارِد قوي يُرمز له بالأسد بعد أن كان حمَلا. ولأن الأمثال والأقوال تنبع من تجارب الناس فقد وجد صانعه في تجربة شخصيات حقيقية ما يستحق النقل والتوثيق. وعبر هذه التجربة يمكن رصد ما يجري في غابات ومحميات القارة الأفريقية، وقياس مدى نجاح عمليات الحدّ من الاتجار بأنياب فِيلتها العاجية الغالية الثمن، والتعرف على المشاكل الاقتصادية الجدّية التي تدفع البعض ليكون صيادا غير قانوني، وآخر حارس محمية لا يحصل على ما يسدّ به رمقه.

“إكس” الملك

يُعطي الوثائقي للصياد و”الوسيط” في عمليات بيع أنياب الفِيَلة العاجية للتجار اسم “إكس” (X)، فيما يحتفظ الحارس باسمه الحقيقي “أسان”. يعيش الاثنان شمالي كينيا، لكن التركيز سيكون على “إكس” أكثر، وذلك لحجم دوره في عمليات المتجارة.

يتباهى “إكس” بقدراته الذهنية وشجاعته، فالناس يعرفونه ويحترمونه في منطقته، حيث يصف نفسه بـ”الملك”، وذلك لما يملكه من مال وسطوة.

لا يثق “إكس” إلا بصديقه الصياد “لوكاس”، فالأخير يصطاد بنفسه، حيث يُسلّم أنياب الفيلة لـ”إكس”، وبدوره يبيعها إلى كبار التجار الذين نسمع أصواتهم عبر الهواتف المحمولة وهم يتحدثون إليه ولا نرى وجوههم.

واحدة من أساليب الصيد المُحرّمة استخدام السهام المسمومة، حيث يقوم “لوكاس” بإعدادها بنفسه من جلود ضفادع قوية السُمية، ويكفي السهم الواحد لقتل فيل عملاق خلال دقائق قليلة، وتلك الطريقة تُصعّب على الحراس ملاحقة الصيادين، فهي تتم بصمت ودون ضجة.

ينتظر الحارس "أسان" مولوده الجديد وهو في أشدّ الحاجة إلى المال
ينتظر الحارس “أسان” مولوده الجديد وهو في أشدّ الحاجة إلى المال

أوصاف غير متطابقة

ينتظر الحارس “أسان” مولوده الجديد وهو في أشدّ الحاجة إلى المال، فراتبه الشهري مثل بقية زملائه الحراس لا يصل بانتظام، وقد يتأخر شهرين أو أكثر مما يزيد من صعوبة عيشه، فحاجته تجبره على مواصلة العمل الخطير، والخطورة متأتية من المواجهات المسلحة المتكررة بينهم وبين الصيادين، والتي غالبا ما يفقدون خلالها رجالا لهم.

يواظب الوثائقي طيلة زمنه على التنقل بين “الأسد” الحارس الفقير المُعتاز، وبين “الحَمَل” الوسيط الغني. نقل تفاصيل حياتيهما تُثير سخرية مُبطّنة لأوصافهما، فلا الصياد في حقيقته حمل وديع ولا الحارس أسد مُتجبّر متمكن.

أوصاف في بداية مسار الوثائقي تبدو غير متطابقة، لكنها مع الوقت تأخذ في تحديد ملامحها بدقة أكبر، وهذا ما أعطى الوثائقي حيوية رائعة. إلى جانب توفره على شرط مهم من شروط إنجاح العمل الوثائقي الملازم لشخصيات واقعية، والذي يتمثل في قدرة صانعه على إقناعها بصدقيته وأمانته، فالثقة العالية المتولدة هنا جعلت “أبطاله” يتحركون أمام الكاميرا بعفوية، لقد نسوا وجودها تقريبا، فتبادل الثقة واجبة لأيّ عمل سينمائي يرتكز مضمونه السردي والحكائي على شخصيات واقعية تعمل في ظروف خطيرة.

مطاردات رجال الشرطة وحرّاس المحميات للصيادين يكتنفها العنف وعدم التساهل
مطاردات رجال الشرطة وحرّاس المحميات للصيادين يكتنفها العنف وعدم التساهل

عنف ومطاردات

مطاردات رجال الشرطة وحرّاس المحميات للصيادين يكتنفها العنف وعدم التساهل، فمن خلال تصويرٍ حيٍّ لبعض هذه المطاردات يتكشف حجم العنف المستخدم في ملاحقتهم، فما إن يلقي الحرّاس القبض على بعضهم حتى ينهالوا عليهم بالضرب الذي يفضي أحيانا إلى الموت.

شدة المطاردة وعنفها تُولّد ردود فعل معاكسة بنفس الحجم، وهذا الوضع ينعكس على أهالي الحراس الذين يخافون عليهم من انتقام الصيادين، ويخشون من خسارتهم لهم ولمصادر عيشهم الشحيحة أصلا.

يُجري الوثائقي مقارنة بين الشخصيتين عبر تصويره لتفاصيل عيشهم اليومي، فبينما يلهو “إكس” بماله ويصرفه على أولاده وعلى متعه الشخصية، لا ينفكّ الحارس عن شكواه من ضيق الحال، ففقره يولد له العديد من المشاكل مع عائلته ومرؤوسيه، والذي بدوره يدفعه للتوتر والعصبية التي تنعكس على أولاده وزوجته. الاسترخاء المتمثل في مضغ “إكس” طيلة الوقت لمخدر “القات” الغالي الثمن، يقابله توتر وخلافات يعيشها “أسان” في بيته وخارجه.

ينتقل الوثائقي ليرصد ردود فعل الناس على إبادة الفِيَلة وبقية حيوانات غاباتهم التي ألِفوا وجودها منذ آلاف السنين
ينتقل الوثائقي ليرصد ردود فعل الناس على إبادة الفِيَلة وبقية حيوانات غاباتهم التي ألِفوا وجودها منذ آلاف السنين

وعي جديد وقديم

إلى الخارج ينتقل الوثائقي ليرصد ردود فعل الناس على إبادة الفِيَلة وبقية حيوانات غاباتهم التي ألِفوا وجودها منذ آلاف السنين، حيث ينقل خطابا مسجلا للرئيس الكيني يهدد فيه الصيادين وتجار الحيوانات، وينبه فيه إلى مخاطر زوال الحياة البريّة سلبا على كينيا نفسها، وما تحدثه من اختلال بيئي بدأت تظهر ملامحه على ندرة الحياة البرية وانقراض أنواع كثيرة من الحيوانات، مما يعني خسارة كينيا للكثير من ثرواتها الطبيعية وإرثها الحضاري.

والناس بدورهم يزدادون معرفة بمخاطر الصيد غير القانوني، وينتظمون في جمعيات لحماية الحيوانات المتضررة من هذا الصيد، وفي المقابل لا يأبه تجار العاج للتحذيرات، ويستمرون في الضغط على “إكس” لتزويدهم بما يجود عليهم صيده من ثراء وثروة. وكثرة الطلب تكشف عن نشاط تجاري واسع يتخطى حدود كينيا إلى بقية أنحاء العالم.

وإلى جانب زيادة الوعي البيئي هناك يسرب الوثائقي موروثاث وتقاليد تتعامل مع الفِيلة بوصفها “كائنات اجتماعية” قريبة في التعبير عن مشاعرها من الإنسان، ففقدان فيل واحد من القطيع يصاحبه حزن عميق بين بقية أفراده، ويتحول ذلك الحزن -حسب اعتقادهم- إلى شرّ يُطارد قاتلها أينما حلّ. كل تلك العناصر التوعوية تتضافر لتشكل جبهة شعبية ضد الصيادين غير القانونيين والتجار الجشعين.

يكشف الوثائقي عن علاقات عشائرية تلعب دورها في استمرار عمليات الصيد
يكشف الوثائقي عن علاقات عشائرية تلعب دورها في استمرار عمليات الصيد

تواطؤ غير مُعلَن

في المقابل وبالضد من وعي الناس يكشف الوثائقي عن علاقات عشائرية تلعب دورها في استمرار عمليات الصيد، من بينها علاقة القرابة بين “إكس” والحارس “أسان”، وهي علاقة تسمح بوجود تواطؤ غير مُعلَن يلعب الصياد عليه لتحييد الحارس أو حتى إقناعه بالمشاركة معهم.

لا يُفصِح الوثائقي عن مشاركة صريحة بين “إكس” و”أسان”، لكنه يكشف عن تعاون يأخذ شكل تحذيرات يوصلها الحارس إلى قريبه يجنبه عبرها السقوط في فخ رجال الشرطة، وفي المقابل يقدم “إكس” خدمات للحارس الفقير كتعويض عنها.

لن يدوم الحال هذا طويلا، حيث ستطرأ على الصداقات والقرابة تَغيُّرات، فشدة مراقبة رجال الشرطة والحراس لنشاط “إكس” قللت كثيرا من فرص نجاحه، ففي إحدى المرات كاد صديقه أسان يسقط بين أيديهم، فيدفعه خوفه لترك العمل وترك صاحبه القديم الذي يجد نفسه منبوذا بين سكان المناطق التي كان يعيش فيها “مَلِكا”.

الفقر وعدم توفر ضمانات اجتماعية يدفع الكثير من سكان تلك المناطق للمتاجرة المربحة
الفقر وعدم توفر ضمانات اجتماعية يدفع الكثير من سكان تلك المناطق للمتاجرة المربحة

فقر وتهديد

تدريجيا يجد “إكس” نفسه معزولا ومضغوطا عليه لتقديم المزيد من العاج للتجار، ففي النهاية يقرر ترك عمله، ويتطوع للعمل حارس محمية. هكذا صار الحمل أسدا، أو هكذا استبدل الصيّاد دوره ليصبح مُطارِدا جديدا لبقية صيادين ما زالوا مُصرّين على فعلٍ أدرك هو خطورته وعدم جدواه في النهاية.

لا ينحصر التحوّل به فقط، بل نرى أن قريبه الحارس -وبسبب عدم حصوله على الحد الأدنى من العيش- يترك عمله ويبحث عن عمل آخر، وجوع عائلته وراء قراره، مما يحيل إلى أسباب استمرار وجود الصيادين وعمليات الاتجار بالحيوانات.

الفقر وعدم توفر ضمانات اجتماعية يدفع الكثير من سكان تلك المناطق للمتاجرة المربحة، وذلك بقتل الحيوانات واستغلال ما هو ثمين فيها لبيعه في الأسواق السوداء، إلى جانب عدم اهتمام أجهزة ضباط الشرطة بمعاناة رجال الحماية البسطاء، فهم يهددونهم بالطرد حين يطالبون بحقوقهم، وذلك بتذكيرهم بوجود طلب متزايد على وظائفهم، وإذا ترك رجال الحماية عملهم فإن هناك آلافا غيرهم يمكنهم أخذ أماكنهم.

طور الأحداث وحركة الشخصيات والموسيقى والمؤثرات الصوتية كلها في خدمة الروائي
طور الأحداث وحركة الشخصيات والموسيقى والمؤثرات الصوتية كلها في خدمة الروائي

الروائي والروح الوثائقية

تطور العلاقات وتبادل المراكز يتم كله في سياق سرد روائي رائع مكتمل الاشتغال السينمائي، لدرجة أن المُشاهد ينسى أن ما يراه أمامه هو فيلم وثائقي، فكل ما فيه عدا روحه روائي.

تطور الأحداث وحركة الشخصيات والموسيقى والمؤثرات الصوتية كلها في خدمة الروائي، أما التقصّي الذي فيه فهو وثائقي بامتياز، حيث يحيل إلى الأسباب ويبحث في أبعاد الظاهرة التي يدرسها، فعمليات الصيد غير الشرعية والاتجار بالعاج وجلود الحيوانات لن تتوقف بالرقابة والحراسة المشددة فحسب، بل هناك حاجة دائمة لتجفيف منابع بروزها، من بينها توفير حياة لائقة للبشر المقيمين قرب المحميات والغابات، إضافة لمحاربة تجارتها عالميا، إلى جانب العمل المستمر لتوعية الناس بالمخاطر الناتجة عن الإخلال بالتوازن البيئي.

كل ذلك يُسرّبه الوثائقي عبر قصة شخصين حقيقيين، فكل ما يحيط بهما شديد الصلة بموضوع يحتمل المزيد من البحث السينمائي الجادّ كالذي تميز به فيلم “حين تصبح الحِملان أسُودا”.