“حُرّاس بورما الحُرّة”.. مواجهة الملائكة والشياطين في جبهات الحرب

عبد الكريم قادري

قبل وفاتها وضعت جزءا من عباءتها على رأسها حتى تحميها من عيون القنّاصة ونيرانهم، كان عمرها أربع سنوات أو أقل، وببراءة مَنْ في سِنّها لم تعِ بأن أمها قد قُتلت، وصارت وحيدة تُحيط بها مجموعة من الجثث الدامية، تسمع دوي الهاون وأزيز الرصاص ولا تُبالي.

وفي الجهة الأخرى كان المنقذ يراقب بمنظاره هذا المشهد المأساوي ويبكي بمرارة، لأنه في تلك اللحظة وصل إلى ذروة مخاطر عمله الذي دام 24 سنة كاملة. كل المؤشرات تدل بأن من المستحيل إنقاذ الصغيرة وسط تلك النيران الكثيفة، لكنه استشار قلبه ليتخذ أصعب قرار في حياته كلها، “هل سأجازف وأضحي بحياتي من أجل هذه الطفلة؟”.

اقتطع مخرجا الفيلم الوثائقي “حرّاس بورما الحُرّة” (Free Burma Rangers) المشهد أعلاه واتخذاه مدخلا تشويقيا لعملهما، وذلك لكسب شريحة أوسع من الجمهور الذي يبحث دائما عن الإثارة، وهو النوع الذي توفر لهم في هذا الفيلم على مدار ساعة و45 دقيقة، من خلال مشاهد متنوعة ومرعبة تحبس الأنفاس، خاصة وأن التصوير حدث في مناطق اشتباك حقيقية بعيدا عن الخيال الذي تصنعه السينما الروائية بواسطة الديكورات المصنوعة والسيناريوهات المكتوبة بدقة.

لكن في هذا الفيلم كان الواقع أكثر حدّة وإثارة ورعبا من الخيال، بعد أن صوّر العالم الحقيقي الذي نعيش فيه الآن، حيث تكثر الحروب الأهلية ومناطق النزاع والاختلاف والتمييز العنصري والإبادة الجماعية، والمواجهات العرقية التي تحدث في معظم قارات العالم.

 

“ديفيد يوبانك”.. جندي المارينز الذي أسس منظمة إغاثية

نقل فيلم “حُرّاس بورما الحرة” (2020) للمخرجين “برنت جودجيل” و”كريس سنكلير” صور المواجهات الدامية عن طريق عدسة أفراد منظمة “حرّاس بورما الحُرّة” (Free Burma Rangers)،  والمعروفة اختصارا بـ(FBR)، وهي منظمة إنسانية إغاثية خدماتية طبية تجتمع بين أعضائها أعراق وديانات وبلدان واتجاهات مختلفة، وغرضها الأول هو الانتصار للمظلومين.

لقد تأسست المنظمة في بورما أيام الحرب الأهلية العرقية التي كانت تحدث فيها، وذلك عن طريق جندي المارينز “ديفيد يوبانك” الذي استجاب لنداء والده المبشر ورجل الدين بعد أن تأثر بالوضع المأساوي هناك، فلم يكن من الابن الذي خرج حديثا من الجيش سوى تلبية نداء والده والسفر إلى بورما (حاليا اسمها ميانمار)، وهناك بدأ مغامرته الإنسانية مع زوجته “كارن” التي قررت أن تتزوجه وتشارك معه في هذه المغامرة، ليكون عملهما في بادئ الأمر تقديم الإسعافات الطبية الأولية للجرحى من السكان المضطهدين، وبعدها بدأ يتطوع له بعض الأطباء والمسعفين ومعتنقي هذا الاتجاه حتى يدربهم ليكونوا مستقبلا في الصفوف الأولى في المواجهات، حيث يقومون بإسعاف كل من يحتاج للتّطبيب، وقد سمى منظمته باسم “حراس بورما الحرة”.

إن اختيار ديفيد لاسم “حُرّاس” (Rangers) جاء تيمنا بفريق الكرة الذي كان “ديفيد” يحبه، لتتطور المنظمة مع الوقت وينخرط فيها المئات من الأفراد الذين قام بتدريبهم وتنظيمهم وتأطيرهم بطريقة جيدة، حتى أصبحوا يواجهون الجيش البورمي ويحمون أنفسهم من الحكم العسكري، ويقدمون المساعدات ويداوون آلاف الجرحى من النازحين والفارين من القصف.

أما عملهم الأساسي فقد كان توثيق حالات التصفية والقتل التي تحدث من خلال الصورة، وإرسالها إلى المنظمات الدولية ووكالات الأنباء حتى تكون شاهد إثبات وحجة دامغة في حقهم، وقد كانت هذه المنظمة تنشط داخل الحدود البورمية عند انطلاقها، لكن بعدها توسعت وأصبحت تتشكل في كل مناطق الحروب، مثل أفغانستان وسوريا والعراق، وغيرهما من مناطق النزاع والحروب في العالم.

عائلة جندي المارينز “ديفيد يوبانك” تهجر المخيم بعد تعرضهم لهجوم من الجيش البورمي

 

“أنا وأسرتي نواجه الظلم بصدور عارية”.. ضريبة العمل الخيري

عادة ما يرسم المشاهد العشرات من علامات الاستفهام والتعجب أمام هذه المنظمات الإنسانية والإغاثية التي لا تنتمي ظاهريا لأي جهة حكومية أو دولية، وينظر لها بريبة إن لم يتهمها بشكل مباشر بصلتها أو عمالتها لأجهزة استخباراتية لدول معين، وهذا الشكّ هو أمر طبيعي، ومن حق أيّ فرد أو جهة أن تحسّ به لأنه الشك المشروع، نظرا لما يحدث في العالم واتعاظا بما حدث سابقا، حيث ترتدي بعض الجهات والمنظمات أقنعة العمل الإنساني من أجل التخريب وتمرير أجندات معينة تغالب بها جهة عن أخرى.

لكن بطل هذا العمل الإنساني “ديفيد يوبانك” أحسّ بأن هذا السؤال سيطرح من قبل الأعضاء الذين يعملون معه، أو حتى من المشاهدين الذين سيقفون على هذا الفيلم الوثائقي وتفاصيله، لهذا كان رده بطريقة عملية وميدانية، بعد أن أظهر للعالم بأن زوجته تشاركه في هذا العمل الإنساني ومقتنعة به، وأكثر من هذا فقد أنجب ثلاثة أطفال في هذه المخيمات المؤقتة التي أقامها في جبال بورما الكثيفة من أجل تدريب الأعضاء ورعاية المتضررين، وأصبح يتنقل معهم من قرية لأخرى وسط الوديان والجبال الكثيفة والخطيرة.

كانت الأسرة تواجه الموت المحقق يوميا في مناطق النزاع، سواء في بورما التي عاشوا فيها طويلا، وذاقوا فيها الويلات بعد أن نجحوا من الموت عشرات المرات، أو في العراق من خلال المواجهة المباشرة التي حدثت مع داعش، وذلك خلال الحرب التي دارت بينهم وبين الجيش العراقي بالموصل، إذ كان “ديفيد يوبانك” في الميدان يُغيث الأفراد والأسر الذين أنقذهم من الموت المحقق، رفقة زوجته التي كانت هي الأخرى تتعامل اجتماعيا مع أسر الضحايا والأسرى الذين كانوا تحت رحمة داعش، وكذلك كان يفعل ابنه وابنته التي كانت ترافقه ميدانيا وتخاطر بحياتها ومراهقتها في المواجهات المصيرية التي يقوم بها لإنقاذ الجرحى وإسعافهم كما في المشهد الذي تحدثنا فيه أعلاه.

ومن الطبيعي أن يزيح المتلقي تلك الشكوك عندما يقف على تلك المشاهد المصورة ميدانيا، لأن المغيث لا يمكن أن يتلاعب بمصير أسرته لخدمة أجندة معينة تُدفع له للقيام بهذا، كما أن أموال العالم لا تعوّض الأسرة حين تفقد فردا منها، أو حين يحاصر الموت جميع الأفراد، ليكون شعار “ديفيد يوباك” الذي لم يقل أو يعبر عن هذا الأمر بالكلمات، بل أجاب عنه بالأفعال “أنا وأسرتي نواجه الظلم بصدورنا العارية”.

جندي المارينز “ديفيد يوبانك”، وهو الرجل الذي نذر نفسه لخدمة ضحايا الحروب

 

عين الكاميرا.. أجنحة الحقيقة المحلقة في سماء العالم

تنطلق فكرة الوثائقي “حُرّاس بورما الحُرّة” من خاصية أساسية، وهي عملية التوثيق عن طريق الكاميرا لإظهار الحقيقة، وتعيدنا هذه الفكرة إلى عملية تأسيس السينما الجزائرية إبان الثورة الجزائرية، حيث قال أحد قادتها بأن العمليات التي نقوم بها والجرائم التي ترتكبها فرنسا غير موجودة في نظر العالم، لهذا يجب توثيقها بالكاميرا حتى تصبح موجودة.

وانطلاقا من هذا المُعطى تغيّرت معطيات الثورة بعد تأسيس خلية السمعي البصري فيها، وكذلك هذا الفيلم الذي يعتمد على تصوير دور المنظمة، وفي الوقت نفسه يوثّق الجرائم التي ترتكبها بعض الجهات، وإرسالها إلى المنظمات الدولية لمحاسبتها والضغط عليها.

ومن هنا تحوّل دور الكاميرا كراصدة للحقيقة تزودها بأجنحة وتجعلها تحلق عاليا حتى يراها العالم، ومن بين الأشياء المهمة التي رصدتها استعمال المدنيين في بورما من قبل الجيش في التحمل وقطع مسافات طويلة في الغابات، حيث كان يقول وقتها بأنه لا يستعمل المدنيين، لتكون الصور دليلا يثبت عكس ما يدّعيه.

وقد ازداد اهتمام “ديفيد يوبانك” بالكاميرا والتصوير، حيث جعل أحد مساعديه يقيم بهذه الوظيفة المهمة، وفي الوقت نفسه يؤسس من خلال الصورة إلى مساره في هذه المنظمة، وقد عرف قيمة التصوير مع الوقت، وأهميته في إثبات الحقائق لقتل التأويل الخاطئ والمتلاعب.

 

مقابلة الأبطال.. توظيف الأرشيف السمعي البصري

اكتسب فيلم “حُرّاس بورما الحُرّة” جودته الفنية من الأرشيف السمعي البصري الذي وفّرته المنظمة، حيث جرى ترتيبه وفقا للسياقات الزمنية التي تخدم المتن، ولدعم هذه الرؤية وربط تلك المشاهد بخيط جامع؛ أجريت بعض المقابلات المباشرة بين الفاعلين الأساسيين، ومن بينهم الضيف الرئيسي “ديفيد يوبانك” وعائلته ومساعدوه، حيث تحدثوا وفق سياقات ما أفرز من الأرشيف، ليكون رافدا بصريا يخدم مدة الفيلم واتجاهه، وهذا لبناء سياق زمني ومكاني موضوعي يخدم أهداف الفيلم ورؤيا المخرجين.

وقد ولّد هذه الأسلوب المونتاج الذي قام بإعادة تأليف لغة مُغايرة ساندت ما هو موجود، مع شحن مشاعر المشاهدين عن طريق موسيقى “برادفورت نايت”، وكل هذه المعطيات جاءت لخدمة السيناريو الذي أعدّه “برنت قودجيل” الذي شارك أيضا في الخارج.

 

وحدة الجيوش من أجل الإنقاذ.. مشاهد مؤثرة

حافظ فيلم “حُرّاس بورما الحُرّة” على المسافة الفنية والمساحات السينمائية للعمل، وأكثر من هذا فقد خلق جوّا من اللحظات الإنسانية النادرة صنعتها دموع “ديفيد يوبانك” المتدين الملتزم الذي قام بإنقاذ طفلة من الموت المحقق من بين رصاص داعش.

ورغم أن عملية الإنقاذ هذه في عُرْف الحروب تُعتبر مستحيلة، والقيام بها نوع من الطيش، فإن “ديفيد” استطاع أن يطلب من الجيش الأمريكي أن يرمي دخان حجب الرؤية في ساحة المعركة، كما وفّر له الجيش العراقي دبابة تقوم بتغطيته، لهذا قام بإنقاذ الطفلة ومن معها، ليختتم الفيلم بلقاء “ديفيد يوبانك” مع العشرات من الذين قام بإنقاذهم من الموت المحقق، وهي اللقاءات التي سال فيها الكثير من دموع الحسرة والتأثر.