“خروج”.. قصص متطرفين نبذوا العنف والتشدد

قيس قاسم

انضمت المُخرجة النرويجية “كارين وينتر” في بداية شبابها إلى إحدى التنظيمات اليمينية المتطرفة، وبعد فترة من العمل في صفوفها غيَّرت قناعاتها وقررت ترك التنظيم وإجراء مراجعة ذاتية لتجربتها؛ أرادتها أن تكون تحليلة تفكيكية تتجاوز الشخصي إلى العام، وذلك من خلال ذهابها لمقابلة آخرين مثلها انتموا في مرحلة من حياتهم إلى حركات متشددة مختلفة التوجهات الأيدولوجية والفكرية، ليأتي بحثها شاملا تصل حصيلته إلى أكبر قطاع من الناس.

اختارت كارين لتحقيق ذلك السينما وسيلة لكتابتها، فجاء وثائقيها “خروج.. ترْك التطرف وراء الظهر” مزيجا من الذاتي والعام، فكل قصة من قصص التاركين تنظيماتهم فيها خصوصية، تجمعها في الوقت نفسه مشتركات عامة مع غيرها.

 

خوف وتردد.. مُشتَركات الخروج

من بين أكثر المُشتَركات الجامعة لتاركي العمل في التنظيمات المتشددة؛ الخوف وعدم اليقين من صحة الخطوة التي أَقدموا عليها، فالخوف يأتي غالبا من انتقام الجهات التي عملوا معها، والتي من منهاجها ممارسة العنف ضد “المارقين” عليها، وبالتالي يعرف هؤلاء الخارجين أكثر من غيرهم ما الذي قد يأتي منها.

هذا السبب دفع كارين شخصيا للتكتم على ماضيها وعدم مصارحة الآخرين به لفترة طويلة. أما التردد فنابع من قوة الإيمان المترسخ، وخاصة للذين أمضوا فترة طويلة من حياتهم فيها وتشبعوا بقناعات فكرية ليس سهلا التخلي عنها.

أما الفضاء المُتخذ فيه قرار الابتعاد فغالبا ما يكون السجن. والمفارقة أن هذه المساحة تشهد دوما حراكا نشطا لتيارات متشددة داخلها، وأيضا هجرا مُعاكسا لأعداد من المنتمين إليها.

كانت الموسيقى والأفلام الدعائية والشعارات النازية الجذابة تعمل عملها بالعقو
كانت الموسيقى والأفلام الدعائية والشعارات النازية الجذابة تعمل عملها بالعقو

 

شعارات نازية جذابة

من تجربتها تعلمت كارين كيف تؤثر الأيدولوجية على عقل المقتنع بها، وتتذكر وهي تعود إلى ألبومات صورها الشخصية وتفتح صناديق قديمة احتوت على موسيقى ومنشورات نازية دعائية كان مستحيلا من دونها الاندفاع في العمل والإخلاص للتنظيم إلى حدّ التضحية بالنفس.

كانت الموسيقى والأفلام الدعائية والشعارات النازية الجذابة مثل “المخدرات” تعمل عملها بالعقول، وبشكل خاص عقول “المراهقين” مثلها. فـ”كارين” انضمت إلى حركة النازيين النرويجيين الجدد وهي في سن السادسة عشرة، ومرّت بفترة يسارية قصيرة لكنها هجرتها، وذهبت إلى اليمين المتطرف الذي أغوت ديناميكيته وعنفه الاندفاع الشبابي الكامن في داخلها.

في مُفتتح وثائقيها تُعلن كارين عن ندمها على دخولها ذلك العالم المليء بالعنف والكراهية
في مُفتتح وثائقيها تُعلن كارين عن ندمها على دخولها ذلك العالم المليء بالعنف والكراهية

 

ردّات فعل نافعة

في مُفتتح وثائقيها تُعلن كارين عن ندمها على دخولها ذلك العالم المليء بالعنف والكراهية، وتُعلن أيضا عن الصراع الداخلي الذي مرّت به يوم اتخذت قرار تركه بالقول: لا أعرف من أين أتتني الشجاعة لأترك ذلك العالم؟

تجتمع أغلبية تجارب من هجر التنظيمات المتطرفة على أن الدافع الرئيسي لهجرتهم لها هو ردة فعل عنيفة شخصية على ممارسة ما همجية وقاسية شاهدوها بأنفسهم أو قاموا هم بها، وأخرى نابعة من فعل إيجابي غير متوقع من جهة “مُعادية” ظنّ المتطرف أنها لن تأتي منه أبدا.

كما تساهم منظمات مدنية بمساعدة الراغبين في التخلص من ارتباطاتهم التنظيمية، فتغيير المواقف الناتجة عن تولد قناعات فكرية جديدة أو بسبب مراجعات نظرية؛ نادر الحدوث، على الأقل في الحالات المعروضة في الوثائقي، فليس من السهل تغيير القناعات الفكرية واستبدالها أخرى بها.

وفي الأغلب الأعمّ تأتي القناعات الجديدة كردّ فعل على سلوك لا يتقبله المتطرف شخصيا، فيترك أثره فيه ويدعوه للتفكير بما هو صانعه بنفسه وبالآخرين. واللافت في اشتغال كارين السينمائي تجنبها إطلاق أحكام عامّة ونهائية، فليس ثمّة بحث بصري واحد قادر على حسم موضوعات إشكالية معقدة مثل التطرف، وهذا جعلها تميل للعرض أكثر، تاركة الأحكام والتقييم لمُشاهِد فيلمها.

أكثر النتائج التي توصلت إليها المخرجة جاءت بعد مقابلتها شخصيات أوروبية مثلها
أكثر النتائج التي توصلت إليها المخرجة جاءت بعد مقابلتها شخصيات أوروبية مثلها

 

“إينغو”.. فوهرر برلين

أكثر النتائج التي توصلت إليها المخرجة جاءت بعد مقابلتها شخصيات أوروبية مثلها؛ بعضهم ما زال يختفي في الظل خوفا، وآخرون أعلنوا موقفهم ولا يعرفون ماذا ينتظرهم، مثل الألماني إينغو هاسيلياك المسمى “فوهرر برلين”.

وجاءت التسمية لشدة شراسته واندفاعه في مهاجمة المهاجرين والمسلمين، وكراهيته لكل جنس غير “الآري الأبيض”. وقد دفع ظهوره المستمر وتحوله إلى نموذج مُلهم للشباب المتطرف أحد الصحفيين لمقابلته وإجراء حوار طويل معه نُشر في كتاب، وكانت المفاجئة فيه إعلان ندمه على ما فعل.

يشرح إينغو في حديثه مع الوثائقي النرويجي في شقته الباريسية التي هرب إليها خوفا من انتقام النازيين الألمان الجدد؛ ظروف المقابلة وما دعاه ليعلن توبته فيها. فقد هزّه في عام 1993 مشهد حرق النازيين لشقة عائلة مسلمة تركية أدت لموت ثلاث نساء وطفلين حرقا؛ ضميره، ودعاه إلى التفكير ببشاعة ما يُقدم هو وغيره عليه.

ردود فعل التنظيم على تركه كانت عنيفة، فقد ضربوا أخته وهاجموا عائلته وظلوا يوجهون لهم رسائل تهديد، وفي باريس لم تنقطع رسائلهم إليه.

ردة فعل ديفد على تفجيرات باريس جعلته يُعيد النظر في سلوكه
ردة فعل ديفد على تفجيرات باريس جعلته يُعيد النظر في سلوكه

 

العنف ليس حلا

ولدى سؤال النرويجية “كارين وينتر” إينغو عما إذا كان قد تخلّص من تأثيرات الماضي يجيب بالنفي. ثمة صراع شديد داخله ما زاله مستمرا، فهجْر التنظيمات المتطرفة بعد العمل الطويل في صفوفها ليس بالأمر الهيّن، قطعا ليس بالنسبة للجميع، فهناك من تخلّص من عُقَدِها وعاد ليمارس حياة سوية كما يخبرها الفرنسي ديفد الذي ترك مسيحيته وأشهر إسلامه بعد انضمامه إلى تنظيم إسلامي مُتطرف.

فردة فعل ديفد على تفجيرات باريس جعلته يُعيد النظر في سلوكه، وتجربة السجن أوصلته إلى مهاجرين عرب ومسلمين لم يرتضوا قتل المدنيين الأبرياء، فتجربته تجمع بين إعادة الوعي من خلال القراءة الكثيرة ومساعدة آخرين له في معتقله، والتي توصّل خلالها لنتيجة مفادها أن العنف لا يحلّ المشاكل بين الإثنيات والشعوب والديانات، وأن التفاهم بين البشر ممكن شرط التخلص من الأحكام المُسبقة على الآخر مهما كانت جنسيته ودينه، وعدم اللجوء للعنف وسيلة لحلّ الخلافات والصراعات.

حكاية "مانويل" الذي كان يُسمى "مسدس" بسبب تهوّره وخطورته؛ مختلفة لتعقيدات كثيرة فيها
حكاية “مانويل” الذي كان يُسمى “مسدس” بسبب تهوّره وخطورته؛ مختلفة لتعقيدات كثيرة فيها

 

“مانويل”.. شبح باكستانية حامل

حكاية “مانويل” الذي كان يُسمى “مسدس” بسبب تهوّره وخطورته؛ مختلفة لتعقيدات كثيرة فيها، فحياته رغم تركه التنظيم اليميني المتشدد في ألمانيا لم تستقر، حيث ينتقل مع ابنه الصغير من بيت إلى آخر خوفا من إيذاء المتشددين لابنه.

وحكاية تركه التنظيم مشوقة وذات دلالات عميقة، فبعد ضربه امرأة باكستانية مسلمة حامل، ونظراتها المتوسلة إليه وهي تنزف؛ أخافته، فقرر التوقف عن ممارسة العنف. وما زاد من قناعته بخطأ مواقفه العنصرية هو تضامن سجناء مُهاجرين ودفاعهم عنه يوم تعرّض للضرب من ألمان داخل السجن.

لم يُصدق أن “الحيوان” –وهو اللقب الذي كان يُسمي به المُهاجر- يقف بشجاعة ليدافع عن “الإنسان”، لقد حطمت مواقفهم قناعاته وأجبرته على إعادة النظر في كل ماضيه الأسود، فيقول بنفسه “لم أتوانَ عن حرق بيوت المهاجرين وضربهم وفعل كل ما يُسيء إليهم، أما الآن فكل ما أريده هو حماية ابني والتخلص من نظرة المرأة (الباكستانية) التي تَسببتُ بإسقاط جنينها من بطنها”.

ردة فعل ديفد على تفجيرات باريس جعلته يُعيد النظر في سلوكه
ردة فعل ديفد على تفجيرات باريس جعلته يُعيد النظر في سلوكه

 

“أنجيلا”.. من النقيض إلى النقيض

المرأة المنتمية لتنظيمات مُتشددة لها بعض الخصوصية النابعة من خصوصية وضعها وحساسيته، فالكثير من أولئك النساء مررن في مرحلة المراهقة بتجارب عاطفية قاسية، وفي نماذج النسا الأوروبيات المشاركات في الوثائقي النرويجي المهم والعميق اثنتان تعرضتا للاغتصاب، أما البقية وحسب شهاداتهن فقد ترعرعن في عوائل مفككة ووجدن أنفسهن وحيدات، وكي يملأن الفراغ الداخلي سارعن بالانتماء إلى مجاميع متطرفة حتى يجدن معنى لحياتهن، ويكسرن الوحدة المؤلمة التي كانت تُحيط بهن.

إلى بريطانيا تذهب المخرجة لمقابلة “أنجيلا” التي قضت سنوات من عمرها في تنظيم يميني بريطاني، فقد اعترفت بأن المحرك القوي لدخولها كان الخوف؛ الخوف من الوحدة والعزلة ومن عيش ذكريات الاغتصاب المؤلمة.

كانت “أنجيلا” مشحونة بكراهية الآخرين، وكانت بيئة خصبة للأفكار العنصرية تجاه المهاجرين، وقد صدقت أنها أفضل من غيرها وتتفوق عليهم، لكنها صُدمت بعدما رأت الرعب المُرتسم على وجوه ضحايا تفجيرات “أوكلاهاما” عام 1995 بسيارات مفخخة على يد جماعات اليمين المتشدد في أمريكا، وحينها بدأت تراجع نفسها. وكان من بين الضحايا طفل حمله رجل إطفاء وكان بين الموت والحياة، وقد أخافت هذه الصورة “أنجيلا” فقررت بدء حياة جديدة بعيدا عن العنف.

وجاءت قصة إعادة النظر بموقفها من السود بعد فعل إنساني قدمته سجينات سود، فحين دخلت “أنجيلا” السجن تعرفت عليها بعض النساء من اللواتي أساءت إليهن، ومع ذلك التزمن الصمت ولم يخبرن بقية السجينات بحقيقتها. فحماية السجينات السود لها هزّ كيانها وجعلها تُعيد النظر بكل مواقفها، واليوم هي مُهددة من قبل المنظمة المتطرفة التي كانت تعمل بها، لكنها في الوقت نفسه تنشط في مجال العمل لمكافحة العنصرية في بلدها والعالم.

حكاية ترك مانويل التنظيم مشوقة وذات دلالات عميقة
حكاية ترك مانويل التنظيم مشوقة وذات دلالات عميقة

 

خيط رفيع

تشير تجربة المخرجة إلى أن هناك خيطا رفيعا يفصل بين استمرار المتردد بترك التنظيمات وبين العدول عن قراره، فتجربتها وتجربة غيرها أكدت وجود مثل هذا الخيط. فبعد تردد وحيرة قررت حسم أمر تركها التنظيم النرويجي المتطرف، وذهبت إلى اليسارية السويدية التي أقنعتها في مراهقتها بالعمل في صفوف اليسار الإسكندنافي.

“خيانة” المخرجة لها لم تقابلها السويدية بالصدّ، بل استقبلتها في بيتها واحتضنتها، وهو ما ساعد على مُضيّها في طريق الابتعاد عن التشدد، تقول المخرجة: إن أيّ رد فعل قوي أو صدّ قاسٍ كان يكفي لعودتي للتنظيم.

وهذا الموقف يؤكد في الوثائقي على ضرورة مساعدة الراغبين في ترك العنف، وإتاحة الفرصة لهم للمُضي في تحقيق ذلك.

من العوامل المساعدة التي ساهمت هي بنفسها في تشييدها دون أن تدري؛ عملية تأسيس الجمعيات التي تساعد من يريد العودة عن التطرف
من العوامل المساعدة التي ساهمت هي بنفسها في تشييدها دون أن تدري؛ عملية تأسيس الجمعيات التي تساعد من يريد العودة عن التطرف

 

الأخذ بيد تارك التطرف

من العوامل المساعدة التي ساهمت هي بنفسها في تشييدها دون أن تدري؛ عملية تأسيس الجمعيات التي تساعد من يريد العودة عن التطرف. وتسرد المخرجة قصة استشارتها بروفيسورا في علم الاجتماع والحركات المتطرفة، وكيف أنه استلهم من مصارحتها له فكرة تأسيس جمعية لمساعدة الراغبين في ترك التشدد اسمها “الخروج.. نرويج”، وتوسعت الجمعية لاحقا لتشمل دولا أخرى.

في آخر مقابلة مع أنجيلا تسألها المخرجة: هل كل شخص يمكن أن يكون متطرفا؟

وكان جوابها واضحا: نعم إذا توفرت الظروف لذلك.

أخذت المخرجة هذا الجواب إلى البروفيسور الذي وافق على التشخيص مع بعض التحفظ، فالظروف التي تجعل من المرء متطرفا معقدة ومتشابكة، ولا بدّ من توفر عوامل كثيرة وفي مساحة صغيرة تستطيع استيعابها كلها.

في طريق عودتها من عند البروفيسور فكرت المخرجة بمانويل الألماني وحياته الصعبة التي تجمعت الظروف كلها لتجعل منه متطرفا، ورغم تركه التنظيم ما زال مُطارَدا، الأمر الذي جعلها تفكر بصوت عالٍ وبشيء من الخوف: كيف لو تسنى لهؤلاء المتطرفين استلام السلطات يوما، ماذا سيفعلون بالعالم؟