“خطوة الثعلب”.. رؤية ساخرة للمجتمع الإسرائيلي

خالد عبد العزيز

يُقدم الفيلم تشريحا نافذا مشوبا بسخرية لاذعة من السياسة والجيش الإسرائيلي على وجه التحديد

“لماذا نقاتل هنا؟ أهناك أي هدف؟ نحن نقاتل في حرب نفسية يا سيدي، نحن في حرب مع المجهول، ومن هو المجهول الذي أنت في حرب معه؟ لو كنت أعرف أيها القائد لما أطلقت عليه وصف المجهول”، بهذا المونولوج الداخلي يصف أحد الجنود في الفيلم الإسرائيلي “فوكستروت” (Foxtrot) أو “خطوة الثعلب” حاله وحال رفاقه الذي يتسم بالعبثية، تلك العبثية التي تُغلف الحياة في المجتمع الإسرائيلي بصفة عامة، ليبدو الفيلم الذي كتبه وأخرجه صامويل معاذ، وحاز على جائزة لجنة التحكيم الكبرى في الدورة الـ74 من مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي؛ مهموما بنقد الذات.

يُقدم الفيلم تشريحا نافذا مشوبا بسخرية لاذعة من السياسة والجيش الإسرائيلي على وجه التحديد، كاشفا عن عوار النظام العسكري الهشّ من الداخل، ليُصبح الفيلم وكأنه مرآة للمجتمع، ذلك المجتمع الذي يشعر بأنه في حالة حرب دائمة مع عدو وهمي نابع من مخاوفه الذاتية أكثر ��ن كونه عدو حقيقي يُهدد أمنه وسلامته.

تدور أحداث الفيلم في إطار من الإثارة حول ميخائيل فيلدمان (ليور أشكيناز) الذي يتلقى خبر وفاة ابنه المجند في الجيش الإسرائيلي يوناتان (يوناتان شياري)، ويكتشف فيما بعد أن الخبر غير صحيح، ليتأجج الصراع بمحاولة الأب انتزاع ابنه من وحدته العسكرية ليتأكد من سلامته وبقائه على قيد الحياة.

 

جندي مفقود في مؤسسة ينهشها الضعف

يبدأ الفيلم بمشهد نرى فيه مُقدمة شاحنة عسكرية تسير ببطء في طريق طويل مُمتد، وكأنها أنف غراب يحمل نذير شؤم. ثم ننتقل للمشهد التالي؛ بضعة جنود يطرقون باب ميخائيل فيلدمان يُخبرون الأسرة بنبأ وفاة الابن في إحدى العمليات العسكرية، لتتحول حياة الأسرة الهادئة إلى عاصفة من الأحداث المحمومة التي لا تبدو لها نهاية قريبة.

اختار السيناريو أن تدور الأحداث في خطّيْ سرد متصلين منفصلين في الوقت نفسه لكل منهما زمنه ووحدته وعالمه القائم بذاته، الخط الأول الذي يبدأ به السرد تدور أحداثه في الماضي في منزل يوناتان المجند في الجيش الإسرائيلي، حيث يتلقّى الأب ميخائيل فيلدمان خبر وفاة ابنه، لينتقل الفيلم فورا ودون تمهيد إلى قلب الأحداث وبؤرة الصراع، فخبر وفاة مُجند أمر طبيعي ومعتاد رغم جُرعة الحزن المُصاحبة للخبر، لكن أن يأتي نبأ جديد بأن الابن لا يزال على قيد الحياة وما حدث كله خطأ فهنا تكمن المشكلة.

نجد أن الفيلم يُكيل منذ البداية سلسلة متصلة من السخرية من المؤسسة العسكرية التي في ظاهرها القوة والصلف، ومن الداخل ينهش فيها الضعف والفساد، بل يبدو رجالها وكأنهم أشبه بالشخصيات الكاريكاتورية المُنبعثة من أفلام الرسوم المتحركة، لا يُمكن بأي حال أن تُؤخذ على محمل الجد.

ففي أحد المشاهد نرى أحد الجنود وهو يُحاول تهدئة الأب فيلدمان، ويطلب منه أن يشرب كوبا من الماء كل ساعة للحفاظ على أعصابه، ويَضبط هاتف فيلدمان لينبهه بتناول جرعة الماء، وكأن الماء سيُخلصه من حزنه عن ابنه المفقود.

خلق السيناريو مواقف مُتعددة تُبرز معاناة الأب المكلوم، في مقابل اصطناع جنود الجيش الحزن على زميلهم

عسكرية متعالية ومدنية لامبالية

خلق السيناريو مواقف مُتعددة تُبرز معاناة الأب المكلوم، في مقابل اصطناع جنود الجيش الحزن على زميلهم، كل موقف يحوي عقبة ما، وكل عقبة تخرج من رحم الأخرى، ففي المشاهد الأولى من الفيلم تسمع الأم خبر وفاة ابنها لتسقط مغشيا عليها، وتتقدم الكاميرا ببطء نحو لوحة كبيرة تُزين الحائط لا تحوي سوى خطوط دائرية تتوالد من بعضها البعض، مثل المتاهة وكأنها تُشير لحياة الأسرة التي ستتحول تلقائيا إلى كابوس لا يظهر أي سبيل للخروج منه.

نصل إلى المشهد الأبرز الذي يُعبر عن منطق تعامل الجنود مع الأب، حيث يُخبر الجندي ميخائيل بأن ابنه لا يزال على قيد الحياة وبأن ما حدث فقط تشابه أسماء. يثور الأب على الجندي، يطلب منه أن يرى ابنه الآن ليتأكد من صحة الخبر، تشتد وتيرة الحوار بينهما لتصل إلى طريق مسدود، فما كان من الجندي إلا أن يترك المنزل وهو يصف الأسرة بأنهم “جهلاء”، في مقابل الأب الذي يرى بأن كل ما يجري أمامه عبثي.

كل منهما يرى الآخر من زاوية مختلفة، العسكري مقابل المدني، العسكرية بكبريائها وتعاليها المعتاد في مقابل النظرة اللامبالية من المدني لكل ما هو عسكري، كل منهما يرى أنه على حق.

جرعة سخرية أخرى

أما الخط الثاني الذي يحيكه السرد فتدور أحداثه في الماضي كذلك، عند النقطة الحدودية التي يُقيم فيها يوناتان. في هذا الجزء يواصل الفيلم استكمال جرعة السخرية من الجيش الإسرائيلي بجرأة يُحسد عليها. يوناتان الذي يؤدي واجبه بحراسة المعبر الحدودي برفقة ثلاثة من زملائه المجندين، يعيشون في ظروف بالغة الصعوبة، بدءا من المعبر القابع في الصحراء الذي لا يعبره سوى الجمال الشاردة في الصحراء، ونادرا ما تمر عليه أيّ سيارات.

تبدو وجوههم وجلة يعلوها الخوف من مجهول ما، حالة الحرب الدائمة هي المُسيطرة عليهم، يقضون يومهم في الوقوف الرتيب أمام المعبر، أو في تجاذب أطراف الحديث. وفي الملجأ أو محل الإقامة نجد أن الماء الممزوج بالوحل يُحيط به من كل جانب، وبالداخل لا يختلف عن الخارج كثيرا، فالحوائط ملوثة باللون الأسود والدماء، والمكان كله تحفه القذارة والإهمال.

في هذا الجزء من الفيلم يكشف السيناريو عن حيلة السردية التي قدمها، فالسرد متعرج لا يسير على خط واحد

سردية مُتعرجة بين الماضي والحاضر

ينحصر السرد في الجزء الأول والثاني من الفيلم في الماضي قبل الوفاة الحقيقية ليوناتان، والتي ستُكتشف مع نهاية الفيلم بعد مراوغة، ثم ينتقل السرد مع الجزء الثالث إلى الحاضر بعد وفاة الابن، لنجد أن الفيلم يتلاعب بالمتفرج.

ففي هذا الجزء من الفيلم يكشف السيناريو عن حيلة السردية التي قدمها، فالسرد متعرج لا يسير على خط واحد، مثل لوحة بازل لا تكتمل إلا مع النهاية، قطعة من الماضي وقطعة من الحاضر، حتى نصل إلى نهاية الفيلم الذي ينتهي من حيث بدأ؛ بمقدمة الشاحنة العسكرية وهي تصطحب بداخلها يوناتان العائد إلى منزله، لكنه لن يعود أبدا.

ميخائيل فيلدمان مهندس معماري ثري ينتمي للجيل الثاني في إسرائيل

شخصيات مأزومة

ميخائيل فيلدمان مهندس معماري ثري ينتمي للجيل الثاني في إسرائيل، وهو الجيل اللاحق لجيل المهاجرين الأوائل للأراضي المحتلة، يُمثل نموذجا للمواطن الإسرائيلي الذي ينتمي لكيان استعماري سلطوي يُقدم الوهم لمواطنيه، وهم الحرب المزعومة التي لا تنتهي مع عدو شبحي وهمي، وليس للإنسان حق الاعتراض، حتى على كوارثه الشخصية التي تلحق به، فمصلحة الوطن فوق كل شيء، هكذا تُدار الأنظمة الاستبدادية.

في أحد المشاهد نرى ميخائيل وهو يكبت انفعاله وحزنه على ابنه، يُمدد جسده على الفراش ويبدأ جسده في التشنج والاهتزاز بينما وجهه مُدثر بالأغطية، ينهض بعدها خشية أن يراه أحد، ليفاجأ بالكلب ينظر له بحنوّ، فما كان منه إلا أن أصاب الكلب بضربة قاسية جعلته يتلوّى من الألم ويركض للخارج.

وفي مشهد آخر نراه وهو يفتح صنبور المياة الساخن على يده ويضع يده على فمه حتى لا يصرخ من فرط الألم، ثم ينهار في نوبة بكاء هستيرية سرعان ما يوقفها بحزم، فليس له الحق في التعبير عن حزنه.

رغم ذلك حاول ميخائيل في الماضي -حينما كان شابا- التعبير عن عدم اكتراثه باستبداله رقعة قديمة من التوارة بمجلة إباحية، هذه الرقعة التي تتوارثها عائلته، فكل أب وأم يُسلمانها للابن عند دخوله الجيش، لتصبح فعلة ميخائيل تحوي تمردا رمزيا ضد التقاليد المتوارثة، حيث يُفضل إرضاء شهوته على حساب بلده، وكأنه يسخر من المؤسسة العسكرية.

خلقُ السيناريو للصراع يدور في فلك ثنائية الفرد والسلطة

ثنائية الفرد والسلطة

انعكس هذا النموذج اللامبالي على الجيل الجديد، فالابن يوناتان ما هو إلا امتداد للجيل السابق، لا يختلف في شيء عن سابقه بل إنه يفوقه في اللامبالاة وانعدام القيمة.

خلقُ السيناريو للصراع يدور في فلك ثنائية الفرد والسلطة، السلطة التي تخلق عدوا بأي طريقة ممكنة حتى وإن كان وهما، لتجعل المواطن يُسبح بحمد القوة العسكرية، في مقابل الفرد الذي لا يرى ولا يشعر بأي أمان رغم الإجراءات والاحتياطات الأمنية الكثيفة، فكل منهما في قارب منفصل عن الآخر، السلطة بغطرستها ورؤيتها الدائمة بأن الصواب حليفها والفرد بأنانيته ورغبته في تحقيق ذاته.

قدم المخرج صامويل معاذ صورة حية بالرموز والدلالات المتسقة والمعبرة دراميا

رموز الصورة

قدم المخرج صامويل معاذ صورة حية بالرموز والدلالات المتسقة والمعبرة دراميا، ففي أحد المشاهد نرى ميخائيل فيلدمان والكاميرا تلتقطه من علوّ داخل الحمام الضيق، مُعبرة عن أزمته وحصاره النفسي، فأغلب الإطارات (الكادر) التي تحوي ميخائيل قريبة للغاية، فهي كاشفة عن تعبيرات وجهه التي أجاد أداءها بحرفية وتمكن.

كما حاولت الكاميرا أن تُعبر عن الإحساس بالضعف والضآلة التي يشعر بها الجنود، ففي أحد المشاهد نرى يوناتان برفقة زملائه أثناء عودتهم إلى الملجأ الخاص بهم والكاميرا ترصد حركاتهم البطيئة في الوحل الذي يُحيط بالملجأ من زاوية علوية، معبرة عن ضعفهم وإحساسهم بالهوان في المستنقع الذي يُحيط بهم، أو آخر العالم كما يصفه يوناتان في أحد المشاهد.

يشكو أحد الجنود من درجة ميل مبنى الملجأ، والذي تزداد درجة ميله لليسار يوما بعد يوم، مما سيؤدي به للغرق في الوحل بالنهاية، وتصبح الكاميرا هي الأخرى مائلة نحو اليسار ليشعر المتفرج بما تشعر به الشخصيات، وتصبح الصورة مُعبرة ليس عن حال هؤلاء الجنود فقط، لكن عن وضع المؤسسة العسكرية الإسرائيلية كلها الملطخة بالفساد.

ففي مشهد آخر نرى قائد المجموعة يصل إليهم بعد أن قاموا بارتكاب جريمتهم عن طريق الخطأ، وضرب سيارة أحد العابرين بعد تشككهم في احتوائها على قنبلة يدوية، لنجد أن حذاءه الأسود اللامع قد تلطخ بالوحل، كما يقف هو الآخر بزاوية مائلة داخل الملجأ.

اختار المخرج أن يكون عنوان الفيلم “خطوة الثعلب” الدال على الرقصة الشهيرة التي تعتمد على أربع خطوات؛ خطوة للأمام ثم لليمين، وخطوة للخلف ثم لليمين مرة أخرى، ليأتي العنوان مُعبرا وبليغا عن وضع عام تعيشه إسرائيل، وضع يحكمه المراوغة والخوف، ولا تفلح معه أي سبل أمنية طالما لا تحقق العدل والأمان والسلام الحقيقي.