“خلية النحل”.. امرأة شجاعة تستعيد الحياة لشعب كوسوفو

قيس قاسم

حرب الإبادة هي الحرب التي شنها الجيش الصربي ضد سكان كوسوفو إبان ما يسمى بحرب البلقان أواخر تسعينيات القرن المنصرم، وقد قَتل فيها آلافا من سكانها وهجر الكثير منهم بعد أن أُحرقت قرى بأكملها، وظل الكثير من ضحاياها مفقودين لا يُعرف مصيرهم، وحتى بعد انتهائها بسنوات ظل أهاليهم يطالبون الحكومة الصربية والمنظمات الدولية لمعرفة الأماكن التي قتلوا فيها، أو المقابر الجماعية التي طمرت أجسادهم تحتها.

الفيلم الروائي الكوسوفي “خلية النحل” يدخل عبر نص سينمائي جميل ومؤثر كتبته المخرجة “بليرتا باشولي” إلى تلك المنطقة المؤلمة من مشهد حرب البلقان، وذلك من خلال قصة حقيقية لامرأة تدعى فهرية وجدت نفسها فجأة من دون زوج، فهي لا تعرف مصيره، وعليها إعالة طفليها وجَدّهم المُقعد على كرسي متحرك وسط جو غير مُرحِب كثيرا بمحاولتها الخروج للعمل في ظل غياب الزوج في مجتمع قروي محافظ.

فهرية.. انتصار المرأة القوية التي تُنتج العسل

لا تميل المخرجة الكوسوفية إلى الخوض في تفاصيل الحرب، بل تسعى لعرض آثارها على المجتمع الكوسوفي بأسلوب غير مباشر، مُركِزة بشكل خاص على النساء اللاتي يأتين إلى المشهد الواسع من الحكاية، وذلك من خلال قصة واقعية تُضفي على الروائي مصداقية إضافية، وتُحرر نصه من مهمة البحث عن مسوّغات يبرر بها المشهد المنقول من قرية كوسوفية ذات أغلبية مسلمة خسرت الكثير من رجالها، وكان على النساء تدبير أمور عوائلهن من دونهم بعمل شريف، لكن يجد بقية الناجين من الرجال صعوبة القبول به.

 

قبل الحرب كان الرجل هو من يقوم بإعالة عائلته، تساعده الزوجة في ذلك، لكن الأمر تغيّر بعد الحرب، ومع ذلك لم يقبلوا به بسهولة، لهذا وقف الكثير منهم موقفا سلبيا من محاولة فهرية (الممثلة يلكا غاشي) العمل أولا في منحلة زوجها لإنتاج العسل في حديقة المنزل وبيعه في السوق، ولأن مردوده لا يسد رمق عائلتها قررت العمل كسائقة سيارة أجرة، فكان رفضهم للفكرة هذه المرة أقوى من قبل.

يوميات المجتمع الكوسوفي.. سرد بصري مزين بألوان نسوية

أسلوب معالجة هذا الفيلم المعروض في الدورة الأخيرة لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي للقصة الحقيقية هادئ وتدريجي، فهو يصعد من الأبسط نحو المعقد، ومن خلال قصص جانبية يعرض مشهدا محزنا للحرب وتبعاتها المدمرة.

تجنبه الخوض في تفاصيل الحرب يوفر للسرد مناخا مناسبا لعرض أحوال المجتمع الكوسوفي، وبشكل خاص المرأة فيه، ولهذا ففيلم “خلية النحل” فيه من النسوية الكثير، لكنه لا يقدمها على غيرها من العناصر المكونة للمشهد الحياتي الواقعي، ويستند في ذلك إلى رؤية إخراجية تعرف كيف تلملم التفاصيل، وتقدمها في النهاية كصورة صادقة ومحببة لواقع يتغير، يقبل الناس شروطه الجديدة بانفتاح وتسامح إنساني من دون ادعاء.

فهرية تعمل في منحلة زوجها لإنتاج العسل في حديقة المنزل وتبيعه في السوق

 

يأتي هذا في سياق سرد بصري متعدد المستويات يركز على الواجبات الإضافية التي فرضتها الظروف على نساء القرية، وتتوزع بين تربية الأطفال والبحث عن عمل يؤمن لهن عيشا كريما، إلى جانب مشاركتهن النشطة في مظاهرات سلمية تطالب الحكومة والسياسيين بالعمل بشكل أكثر جدية لملاحقة ملف المفقودين وعدم نسيانه.

بقايا الجثث في الشاحنة.. شجاعة الزوجة وجبن الأب

يتأتى رفض الأب من خوفه قبول فكرة موت وغياب ولده إلى الأبد، فالتشبث بالأمل حتى لو كان وهما ينعكس سلبا على علاقته مع زوجة ابنه التي لا تكف عن البحث، لكن بدافع معرفة الحقيقة مهما كانت قاسية، لأن بها وحدها يمكنها المُضي في عيش حياتها والتعامل مع الواقع كما هو، وليس كما يبدو الآن غامضا ومجهولا.

يظهر التناقض جليا بين أفراد العائلة من خلال موقف فهرية وموقف صهرها من العمل، ومن كل نشاط تقوم به مع بقية نساء القرية، فهو مثل بقية الرجال لا يحب فكرة خروجها من المنزل، لأنه على ثقة من أن ابنه سيعود حتما، وأنه سيقوم بواجبه نحو عائلته، هكذا كان يحاججها دوما، ويؤنبها لعدم إيمانها الكلي بفكرة عودته حيا، كما هو متيقن تماما.

أوهام الأب المتشبث بالأمل.. تناقض أفراد العائلة

يتأتى رفض الأب من خوفه قبول فكرة موت وغياب ولده إلى الأبد، فالتشبث بالأمل حتى لو كان وهما ينعكس سلبا على علاقته مع زوجة ابنه التي لا تكف عن البحث، لكن بدافع معرفة الحقيقة مهما كانت قاسية، لأن بها وحدها يمكنها المُضي في عيش حياتها والتعامل مع الواقع كما هو، وليس كما يبدو الآن غامضا ومجهولا.

فهرية مع والد زوجها العجوز المقعد الذي لا يحبذ فكرة خروجها من المنزل لأجل العمل لأنه على ثقة بأن ابنه سيعود يوما

 

يظهر التناقض جليا بين أفراد العائلة من خلال موقف فهرية وموقف صهرها من العمل، ومن كل نشاط تقوم به مع بقية نساء القرية، فهو مثل بقية الرجال لا يحب فكرة خروجها من المنزل، لأنه على ثقة من أن ابنه سيعود حتما، وأنه سيقوم بواجبه نحو عائلته، هكذا كان يحاججها دوما، ويؤنبها لعدم إيمانها الكلي بفكرة عودته حيا، كما هو متيقن تماما.

لغة الفيلم.. دلالات رمزية ترسم تفاصيل النص العميقة

يأتي التصعيد الدرامي للأحداث من خلال إشارات صغيرة مرات، ومن خلال قصص جانبية مرات أخرى، بينما الدلالات الرمزية تظل حاضرة طيلة زمنه، مثل النهر الذي صار مثل مقبرة بعد أن رمت القوات الصربية في أعماقه الكثير من جثث الضحايا.

ومن الدلالات الرمزية أيضا موقف النحل العدائي من مربيته الجديدة فهرية، ويأتي من خلال تكرار مشهد لسعه لها دون رحمة، وكأنه يرفض أن تقوم هي بتربيته بدلا من زوجها الذي كان يعرف كيف يتعامل معه.

حتى قلة منتوجه من العسل، ربما هي ترميز لعجز عام يشعر هو به كما تشعر بقية سكان القرية.

هريس الفلفل الأحمر.. صناعة منزلية تحولت إلى تجارة

وسط الوضع المرتبك الذي يعيشه سكان القرية كان الناس يجدون لأنفسهم رغم ذلك حلولا مناسبة، يأتي بعضها من منظمات تطوعية وجمعيات نسوية تساعد النساء على إيجاد عمل لهن.

فمرة وفرت إحداهن سيارة قديمة للراغبات في الحصول على إجازة سوق العمل كسائقات أجرة، ولم تقبل بالمهمة سوى فهرية التي دخلت الدورة ونجحت فيها، وقد واجهت صعوبات بعدها في قبول الآخرين لعملها الشريف، ومع ذلك راحت تطور أفكارا تجارية كان من بينها صناعة هريس الفلفل الأحمر منزليا.

لحظة فرح نادرة لنساء القرية بعد أن حقق منتوجهن من هريس الفلفل الأحمر مبيعا جيدا

 

بالتدريج اقتنعت بقية النساء بالمشاركة فيه، ولجودة المنتوج تحسن بيعه، لكن كان هناك دوما من يريد استغلال النساء وحاجتهن لمال يسددن به رمق أطفالهن وأسرهن.

تحولات المواقف.. إرث طويل من التسامح والتعايش

تحدث مواقف دراماتيكية كثيرة تفضي إلى قبول تدريجي لفكرة مشاركة المرأة للرجل في إعالة العائلة، ويبدأ من والد زوجها الذي يشرع بمساعدتها، والبقية يسمحون لزوجاتهم بالعمل في منزلها.

أخذت حدة الصراعات داخل العائلة تقل، فالابنة المراهقة أدركت خطأ موقف زملائها في المدرسة من والدتها التي كان ينعتونها بأسوأ الألقاب، والابن الصغير تجاوز حزنه على والده وراح يعيش طفولته.

تنبع التحولات في المواقف من موروث طويل من التسامح تجذر في سلوك أبناء القرية، وفي اللحظات الحاسمة كان يظهر ويحسم الكثير منها.

ترميم الصورة في المنزل الجديد.. خطوة الجد إلى المستقبل

ربما في التسامح الذي يظهر في مواقف الفيلم إشارة إلى الروح الكوسوفية المتسامحة والرغبة في تجاوز الماضي بكل أحزانه نحو المستقبل المنتظر.

مطالبة الحكومة بعمل أكبر للبحث عن المفقودين

 

يأتي التعبير عنه دراميا من خلال سماح الجَد للفريق الطبي بأخذ عينة من دمه لفحص شفرته الوراثية، ومن خلال إعادة تأطير صورة ولده التي انكسر زجاجها مرة، وقد عاد هو بمساعدة حفيدته على تركيب إطار جديد لها، لتبقى ذكراه حاضرة في بيتهم، ويظهر أنه ليس بيتهم الأول، بل أنهم أجبروا على الانتقال إليه بعد أن أحرقت القوات الصربية بيتهم الأصلي في القرية.

تلميحات ذكية تعزز مشهد إبادة جماعية جرى في تلك البقعة من الأرض، وعلى سكانها استعادة حياتهم مرة أخرى بشجاعة تشبه شجاعة امرأة اسمها فهرية هوتي من قرية كروشه أي مادي الصغيرة.

منتوجات من المنزل إلى العالم.. قصة نجاح حقيقية

يعود الفيلم الجميل والمؤثر إلى فهرية عبر صور وتسجيلات فيلمية تُظهر شخصيتها الحقيقية، وكيف نجحت في تأسيس شركة لصناعة هريس الفلفل الأحمر منزليا، ومع الوقت توسعت وصارت علامة تجارية مطلوبة في عدة أسواق عالمية.

الجمع بين قصتها الحقيقية والفيلم الروائي مقنع وسلس، وفيه من النسوية الكثير، لكن الغالب عليه هو الجانب الإنساني الطافح بالأمل والمتشبث بالحياة، والأهم عند صانعته عدم نسيان الماضي، بل لا بد من مكاشفة جريئة له حتى لا تتكرر مأساته ثانية.

لهذا نرى مشهدا ختاميا يسبق التسجيلات الفيلمية يظهر فيه أهالي الضحايا والمفقودين وهم في تظاهرة سلمية يطالبون فيها الحكومة والأمم المتحدة بعدم الكف عن البحث عنهم والكشف عن مصيرهم، فبهذا وحده يمكن للناس المضي في حياتها والنظر للمستقبل بعيون دامعة، لكنها مفعمة بالأمل.