خَسارة العراق..!

بعد أن قدّمت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في العام الماضي إستعادة مُفَصَّلَة لحرب عام 2003 في  العراق والسنوات التي أعقبتها (الأولى للمؤسسة الإعلامية الغربية الحكومية)، في برنامج تسجيلي من عدّة حلقات حمل عنوان “حرب العراق”، جاء الدور على قناة “PBS” الأمريكية الحكومية، لتبحث في الظروف التاريخية التي قادت إلى الفوضى التي يعيشها العراق الآن. وإذا كان البرنامج البريطاني توسّع في بحثه ليشمل السنوات القليلة التي سبقت حرب عام 2003، فإن الفيلم التسجيلي “خَسَارَة العراق” (عرض أخيراً ضمن برنامج “الخط الأول” التسجيلي الذي تُقدمه القناة الأمريكية)، بدأ من إسقاط تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس في قلب بغداد في التاسع من شهر أبريل من عام 2003، كنقطة رمزية وتاريخية مفصليّة، ليُحلّل بعدها أداء الحكومة الأمريكية، طارحاً السؤال الذي يبدو إنه يَهمّ مشاهديه الأمريكيين بالدرجة الأساس وهو: كيف خَسَرنا العراق…؟

” في هذه الأراضي، التي يتجوّل عليها اليوم مقاتلي تنظيم داعش بحرية، سال كثير من الدم الأمريكي والذي يبدو أنه ذهب هباءً”، هكذا علّق أحد المحللين السياسيين الأمريكيين على الإجتياح غير المسبوق لتنظيم داعش لأراضي عراقية شاسعة في الشهرين الأخيرين. بهذا يكون الإنتصار “الداعشي” في العراق لمُعْظَم من تحدث في الفيلم، هو هزيمة كبيرة ومُخجلة للحكومة الأمريكية. هذه المُقاربة هي التي ستهمين على الفيلم التسجيلي، وغابت أو نَدَّرَت التحليلات عما تعنيه إنتصارات داعش للعراقيين أو سكان المنطقة. صحيح أن الفيلم سينتقد في سياقه أداء الحكومات الأمريكية في العراق، الا أنه بالمقابل يُقدم العراق كمنطقة ميؤوس منها، وأنه كان يتأرجح لسنوات على حافات الهاوية، رغم ذلك، فخسارته على هذا النحو تُعَّد قاسيّة وفادِحَة للولايات المتحدة الأمريكية ومستقبلها في منطقة الشرق الأوسط.

وإذا كان برنامج “حرب العراق” التسجيلي البريطاني جَمَع مجموعة مُعتبرة من الشخصيات السياسية (منهم توني بلير ونوري المالكي والعديد من الشخصيات المعروفة الأخرى) التي رَسَمت معالم الحَدث العراقي، يروي “خَسَارَة العراق” تاريخ الحرب كما عاشه أمريكيين، فيغيب عن الفيلم العراقيون او البريطانيون. في المقابل ينجح البرنامج في الحصول على مقابلات مع بعض الكتاب الذين أصدروا كتباً عن الحرب ( منهم راجيف شاندراسيكاران الذي كتب الكتاب التحقيقي المعروف ” حياة امبراطورية في مدينة الزمرد: داخل المنطقة العراقية الخضراء”). هؤلاء سيضفون الكثير لمحتوى البرنامج والذي كان يمكن أن يكون رواية رسمية أمريكية عادية للأحداث.

يعتبر الفيلم التسجيلي أن السقوط الرمزي للنظام العراقي، والذي حدث في ساحة الفردوس في بغداد، كان يحمل بدوره العديد من البشارات بأيام صعبة مُعقدّة، فالعراقيين الذين كانوا متجمعين حول التمثال وقتها، عجزوا عن إسقاط التمثال بأنفسهم، لذلك تدخلت القوة الأمريكية القريبة من الساحة. لكن ما جرى بعدها أبرز ما يُمكن إعتباره فهماً متضارباً للمستقبل، والذي سيطبع علاقة الحكومية الأمريكية بالعراق، فالجندي الأمريكي الذي صعد إلى قمة التمثال لفّ الوجه المعدني له بالعلم الأمريكي، ليعود ويستدرك بعدها، ويستبدله بالعلم العراقي. من هذه الحادثة سينتقل البرنامج إلى أخرى، وهي عمليات السلب التي أعقبت سقوط النظام العراقي، كعلامة أخرى على الفوضى التي ستهيمن على العراق في السنوات اللاحقة. يقوم الفيلم بعدها بالمرور على أبرز المحطات التي شهدها الوجود الأمريكي، مستعيناً بشخصيات لعبت أدواراً مُهمة وقتها، مثل بول بريمر، والذي حكم العراق فعلياً لما يقارب العام ( من الحادي عشر من مايو 2003 ولغاية الثامن والعشرين من يونيو 2004). لم يَعدّ بريمر يتذكر بعض الأحداث المهمة التي وقعت أثناء حكمه، كالمعارضة التي واجهها من مستشاريه لقراره بإلغاء الجيش والقوات الأمنية العراقية، والتي يُعتقد بأنها كانت أحد الأسباب في انطلاق المقاومة المُسلحة ضد الوجود الأمريكي. لكن مساعدة لبريمر تتذكر جيداً، الهلع الذي هيمن على فريق الحكم الأمريكي في أيام خدمتهم الأخيرة، حتى إن الطائرة التي نقلتهم نهائياً من العراق، أُستبدلت وغيرت وجهتها خوفاً من أي عمليات للمقاومة العراقية المسلحة.

يتبع فيلم “خَسَارَة العراق”، التسلسل الزمني التصاعدي للأحداث التي مرّت بالعراق، فيوليّ أهمية لعنف حركات المقاومة، والتي قادها في البداية مقاتلون سُنّة، سرعان ما انضم إليهم شيعة ( التيار الصدري). يُظهر الفيلم الطريق المسدود الذي وصلت إليه كل محاولات الحكومة الأمريكية للتهدئة، وحتى ما بدا بأنه انتصار، بجذب مقاتلين سُنّة إلى قوات ما سُميّت لاحقاً “الصحوة” في العامين الأخيرين الذين سبقا الإنسحاب الأمريكي، لم يُوقف أبداً المقاومة المسلحة. في النهاية اختارت الحكومة الأمريكية، والتي وصل إليها الرئيس الجديد باراك أوباما، الإنسحاب من العراق في عام 2011. يستمر الفيلم بعدها في متابعته  لوضع العراق بعد الإنسحاب، ويُقدم تردّيه كنتيجة لسياسات حكومية أمريكية سابقة وفشل النخب السياسية العراقية في توحيد العراقيين تحت راية واحدة، إضافة إلى التدخل المُستمّر لدول إقليمية في الشأن العراقي. كل هذا سيقود إلى الانهيار النفسي والرمزي الكبير للحكومة العراقية، والذي كشفه انهزام جيشها في الموصل العراقية قبل شهرين. يستعين الفيلم بأفلام أرشيفية عن تنظيم داعش، من المتوفرة على شبكة الإنترنيت، وبها سيُنهي زمن الفيلم المتشائم كثيراً حول مستقبل العراق.

ولم تقتصر تغطية  قناة “PBS ” الأمريكية لموضوع العراق على فيلم “خَسَارَة العراق”، هي أفردت – وكجزء من تقليد للقناة يترسخ من سنوات –  مساحات واهتمام لافتين للعراق على موقع البرنامج على شبكة الإنترنيت، فقدمت تغطيات مُصوّرة وصحفية من البلد، قام ببعضها الصحفي الأمريكي مارتن سميث، والذي عاد الى العراق بعد أكثر من عشر سنوات من عمله الصحفي هناك في بداية الحرب، ليجد الوضع في بغداد على حاله تقريباً، حتى إنه كان شاهداً على إنفجار إنتحاري في أحد أحياء بغداد المُهمة. إضافة الى تغطياته الصحفية من بغداد، أنجز الصحفي الأمريكي مجموعة تقارير عن تنظيم داعش، محاولا التوصل إلى سرّ نجاحاته العسكرية الأخيرة. هناك أيضاً على موقع البرنامج، تقارير مُوسعّة عن المشهد السياسي العراقي، وتقرير عن الأكراد العراقيين، ودورهم القادم في التصدي لداعش، وبورتريه عن السياسي العراقي المثير للجدّل نوري المالكي.