“دائرة الانتقام” و”العرّاب”.. الشرير الإنسان في السينما المصرية والعالمية

الفنان المصري هشام عبد الحميد

لا شك أن تطور المجتمعات والمفاهيم العامة لعلم الجمال شكل نقلة نوعية في الوعي الجمعي للمتلقي في الفن السابع وغيره من الفنون، وذلك بعد أن كان مفهوم الشر يُقدَّم من منظور الفلسفة الأرسطية المثالية، وهي تتلخص بأن الشر والخير مطلقان.

لكن بعد تطور العلوم وتباين الفلسفات وبظهور الفلسفة المادية بدأ التناول الدرامي ينحو منحى آخر، حيث كان هذا جزءا من متغيرات سياسية واجتماعية وثقافية طرأت على العالم، تأثرا بالفلسفة المادية وتناولها الجمالي للفن والأدب.

وهنا ظهرت نظرية “بروتولود بريشت”، وهي على نقيض النظرية الأرسطية، واستفادت من هذا التطور المدرسة الأمريكية في الأداء التمثيلي، وخاصة تعاليم “إستيلا إديلر”، ومن بعدها “لي ستراسبورغ” صاحب “أستوديو الممثل” الذي تَخرَّج منه أهم جيل لفن التمثيل، مثل “مارلون براندو” و”جاك نيكلسون” و”بول نيومان” و”جيمس دين” و”آل باتشينو” و”روبرت دي نيرو” و”داستين هوفمان” و”ميريل ستريب”.

 

السينما المصرية.. تطور تاريخي للشرير

بطبيعة الأمر بدأت الكتابة الدرامية تقدم شخوصا غير مُنمطة ولا أحادية الجانب للشخصيات في العمل الفني، وهذا ما انعكس على شخصية الشرير، حيث أصبحت الشخصية الشريرة ذات أبعاد مختلفة، وخاضعة لظروف ولعوامل كثيرة نفسية واجتماعية واقتصادية وسياسية وبالطبع إنسانية، إذ انتفت الأحادية في الشخصية الشريرة.

ومما لا شك فيه أن السينما المصرية كان لها نصيب في تقديم شخصية الشرير بفضل هذا التطور التاريخي الذي ذكرناه سلفا، فمثلا وجدنا شرير الأربعينيات والخمسينيات يختلف اختلافا جذريا عن شرير السبعينيات، ووجدنا شخوصا ارتبطت بالوعي الجمعي في ذلك الوقت بمصطلحات بعينها كمحمود المليجي الذي أُطلق عليه “شرير الشاشة”، بينما حين تطورت شخصية الشرير وجدنا عادل أدهم المشهور بكثير من أدوار الشر يطلق عليه “برنس الشاشة”.

وهنا سنأخذ مثالين عن دور الشرير، الأول محلي عن فيلم “دائرة الانتقام” والثاني عالمي عن فيلم “الأب الروحي”، وذلك لنرى الاختلاف في دور الشرير محليا وعالميا.

 

“دائرة الانتقام”.. اتحاد القاتل والعاهرة في السينما المحلية

إن فيلم “دائرة الانتقام” (1978) مأخوذ عن قصة “ألكسندر داماس ألكونت ليموند كريستو”، وهو من إخراج سمير سيف، وبطولة وإنتاج نور الشريف، بينما كتب السيناريو والحوار إبراهيم الموجي، ومثّل فيه ثلّة من الفنانين مثل ميرفت أمين ويوسف شعبان وعمر الحريري وصلاح قابيل إضافة إلى إبراهيم خان.

لعل الملاحظ أن شخصية البطل المظلوم المغدور من أصحابه الثلاثة تودي به ليدخل السجن ويفقد حبيبته ميرفت أمين التي تتزوج من أحد أصدقائه الذين خانوه وهو يوسف شعبان، حيث يفقد أخته التي تحترف البغاء في سقوط أخلاقي مُروّع لفوضى فترة السبعينيات.

يخرج البطل المقهور المصمم على الانتقام ممن تسببوا في تدمير مستقبله وحلمه لكي يصعدوا على أشلائه ويحققوا ثرواتهم ويصبحوا من كبار رجال المال والأعمال. يأتي انتقامه مروعا فقد تحوّل إلى قاتل شارب للدماء يقوم بقتلهم الواحد تلو الآخر، وتساعده في ذلك عاهرة هي شويكار التي تتعاطف معه، بل تحبه وتسعى لتوديع حياتها الساقطة، وتحلم بالسفر معه خارج مصر، علّهما يعيشان حياة مستقرة.

نحن هنا أمام شخصيتين مُدانتين من المجتمع هما قاتل وعاهرة، لكن مع تحليل ظروف كل منهما نتعاطف معهما، بل وندين الشخوص الأخرى المقبولة ظاهريا من المجتمع.

الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر وتوجههة الاشتراكي وحلمه بالعدالة التي انحرفت في فيلم “دائرة الانتقام”

 

عبد الناصر الذي أخلف وعده.. عصر الفوضى والفساد

لعل كاتب السيناريو إبراهيم الموجي أراد أن يشير إلى الخلفية الاجتماعية والسياسية دونما تصريح بل يكتفي بالتلميح، حيث نجد أنه مع الشر يوجد الحلم والبراءة والحب. ولتفسيري حول التغير في مفهوم الشخصية في هذا الفيلم يجعلني أعود لألقي الضوء على الفترة التي أريد لمنتجي العمل تغطيتها، بالإشارة للتطور الذي حصل بين الستينيات والسبعينيات .

ففي فترة الستينيات أي فترة جمال عبد الناصر والتوجه الاشتراكي والحلم بالعدالة الذي انحرف عن كل ما وعد به من وجهة نظر صانعي الفيلم؛ هنا سُجن نور الشريف بالفيلم وخرج، حيث كانت السبعينيات قد أنضجت عالما من الفساد والتسلط القاسيين، عالما يفور بالفوضى والفساد في دنيا الانفتاح الاقتصادي المنفلت من العقال.

لعله من الملاحظ أن اللصوص الصغار أصبحوا ذوي حيثية ومكانة قوية في هذا المجتمع، أما الصادقين فتحولوا إلى أشرار مارقين بدوافع انتقامية جشعة بسبب انعدام الثقة المطلقة بعدالة القانون. لقد تعاطف الجمهور مع ذاك البطل المهزوم برغم فعله الشرير.

 

“الأنتي هيرو”.. حين تصنع الظروف السيئة الأشرار

ينتهي البطل المجرم بالفيلم نهاية تراجيدية مقتولا على أيدي رجال الشرطة، لكن الجمهور تعاطف مع “الأنتي هيرو” (Anti Hero) بالرغم من كل القتل والدم الذي غطى الشاشة، مثلما تعاطفت الجموع مع “خواكين فينيكس” الذي ارتكب سلسلة من الجرائم المتتالية في فيلم “الجوكر”.

كما تعاطف مع شخصية عادل إمام في فيلم “حتى لا يطير الدخان” برغم فعله الشرير الانتهازي الوصولي، لقد تعاطف الجمهور معه لأن شره ناجم عن الظرف الذي صنع من الشخصية “أنتي هيرو”، وقد وجد الجمهور فيه تنفيسا ولو للحظات، أو وجدوا في تلك الشخصية شيئا من التوق لفعل ما لم ولن يستطيعوا أن يفعلوه، لهذا نجحت الشخصية الشريرة ولاقت قبولا واستحسانا.

 

“العرّاب”.. من مهاجر إيطالي فقير إلى زعيم مافيا

فيلم “الأب الروحي” أو “العرّاب” (The Godfather) هو من قصة “ماريو بوزو” وإخراج “فرانسيس فورد كوبولا”، وفي الفيلم شخصية “دون كورليوني” من بطولة “مارلون براندو”.

يقدم لنا الفيلم بأجزائه الثلاثة كيفية تحول “دون كورليوني” من مواطن فقير مهاجر من إيطاليا عانى من شظف العيش المرير، حتى دفعه إلى أن يسعى للخلاص، ليتحول إلى زعيم من زعماء المافيا.

يأخذنا الفيلم الأيقونة إلى كيفية تدرج العرّاب في سلم الجريمة تحت ضغط الحاجة والظلم، حيث بدأ بجرائم بسيطة كسرقة سجادة من أحد الأثرياء، إلى قتل البلطجي الذي كان يُحصّل الإتاوات من أهل الحي الفقير بنيويورك، وكيف كان البلطجي يُمعن في إذلالهم وقهرهم، إلى أن يسافر العراب إلى بلدته الصغيرة في إيطاليا ليبدأ بالقتل وبالجرائم الشنيعة، حيث سافر ليذبح من تسبّب في مقتل أمه وهو صغير.

تقدم قصة الفيلم المبرر الأخلاقي لدخول “كورليوني” الكبير عالم الجريمة، من عالم الجريمة نفسه المسيطر في كل مكنونات ما حوله. صحيح أنه لا يدافع عن موقعه الإجرامي، لكن الصحيح أيضا أنه يُقدِّم قراءة في أسباب دخوله عالم الإجرام.

ننتقل إلى شخصية “مايكل كورليوني”، (الممثل آل باتشينو)، وهو الابن الأصغر لكنه المفضل للأب، وهو بعيد عن نشاط العائلة الإجرامي، لكن ما إن يسقط الأب مضرجاً في دمائه حتى تستفيق شهوة الانتقام لديه ناهضة معها كل ما يتعلق بإرث بقاء العائلة في زعامة لا يمكن الاستمرار فيها دون عنف الصراع الدموي.

يمثل الأب الذي تعرض لمحاولة قتل من زعماء المافيا الآخرين بالنسبة للابن كل قيم الحب والعطاء، بالرغم من معرفته بنشاطه الإجرامي ومحاولة الابتعاد عن ذلك النشاط، لكن تبدأ شخصية “مايكل” في التحول من إنسان وديع إلى وحش شارب للدماء، فلا يتورع حتى عن قتل أخيه مع أنه وعده بأن لا يفعل.

 

الأب والابن.. نموذجان إنسانيان في عالم الجريمة

نحن أمام نموذجين في فيلم “العرّاب”، الأول هو الأب ودخوله عالم الجريمة تحت وطأة الحاجة الاجتماعية ورداءة الأشرار المستغلين، والثاني هو الابن المحب لأبيه، والذي يتحول بالتدريج في عالم الجريمة انتقاما لأبيه ومحافظة على قوة عائلته، إلى أن يصبح زعيما لواحدة من أخطر وأقوى المافيات في إيطاليا وأمريكا، حيث يصبح “مايكل” خلفا لأبيه مقترفا الكثير من المذابح.

في الجزء الثالث يصبح “مايكل” طاعنا في السن يميل للاستكانة، ويحاول العودة إلى طبيعته الأولى، حيث يبدو وكأنه نادما على كل ما اقترفه من جرائم. يصعب على “مايكل” حتى الحصول على غفران، فالظرف العام السائد وفساد المؤسسات الدينية والسياسية، عدا عن تحالف تلك المؤسسات مع عالم المافيا؛ يجعل رجوعه عن عالمه الإجرامي شبه مستحيل، عندها يعدل عن قرار التوبة، وبالطبع يفقد ابنته بعد محاولة فاشله لقتله.

إن كلا من شخصيتي الأب والابن في فيلم “الأب الروحي” قدمتا شخصية الشرير ببعدها الإنساني غير المعروف من قبل، حيث سُلط الضوء على أعمال رجال المافيا الأشرار، ليس فقط من آل “كابوني”، وإنما أيضا من عصابات المافيا الأخرى في ذلك الوقت.

كان النجاح مدويا وساحقا لفيلم “العرّاب” أو “الأب الروحي”، حيث أصبح أيقونة سينمائية عريقة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، حيث ما زال تأثير هذا الفيلم الساحر إلى الآن مستمرا. تلك النظرة الشاعرية الإنسانية في تناول واقع أدى لمشروعية رجال المافيا. ذلك العمق في تناول شخصية رجل المافيا مبدع بطريقة مذهلة، المافيا ذلك العالم الغامض المظلم المليء بالقتل والخ