دراكولا.. أسطورة الرعب الذي نكّل بالمسلمين

“في والاكيا أمير يُدعى دراكولا، كان حكيما، كما كان رجل حرب متمرسا”.. هكذا وصف الكاتب الإيطالي مايكل بوكينولي فلاد الثالث المدعو “دراكولا” حاكم والاكيا في رومانيا.

قد يبدو الوصف صادما خاصة أن اسم دراكولا ارتبط أساسا في المُخيلة الجمعية لدينا بأمرين أولهما أنه كان شخصية خرافية ولم يكن حقيقيا، وثانيهما أنه يعيش في الظلام ويقتات من دماء قتلاه.

لكن وقائع التاريخ تصدمنا بأن دراكولا شخصية حقيقية أضفى عليها الروائيون والسينمائيون صفات أقرب إلى الخيال لأغراض فنية، بل إن هذه الوقائع المثبتة تتحدث عن تنكيله بجيوش المسلمين التابعة للإمبراطورية العثمانية وقتل منها عشرات الآلاف.

كان هذا الرجل فلاد الثالث ذو الملامح الحادة الذي يسدل شعره على كتفيه؛ ملهما لأكثر القصص رعبا حول العالم، وكان يُدعى “دراكولا”.

اشتركت كل الحضارات والشعوب في سرد قصص الرعب، ومحاولة خلق شخصيات مخيفة تفننت في رسم صفات خارقة لها تفوق الطبيعة من ناحية، وشريرة من ناحية أخرى، مثل الغول والتنين والشبح والروح الشريرة، وبدأت شيئا فشيئا تأخذ صفات وتجليات بشرية مثل سحرة القرون الوسطى وفرانكشتاين ومصاصي الدماء وطبعا دراكولا.

تحولت هذه القصص من الوعي الجمعي لشعوب أوروبا وآسيا وأفريقيا إلى قصص ومسرحيات وأفلام كان أهمها على الإطلاق رواية “دراكولا”.

ارتبط اسم أمير رومانيا فلاد الثالث باسم شخصية “الكونت دراكولا” التي استلهمها الكاتب الإنجليزي برام ستوكر في كتابه “دراكولا” الصادر سنة 1897 ميلادية، وأصبحت رواية ستوكر فيما بعد ملهمة لمئات من الأعمال السينمائية التي تداخلت فيها الحقيقة والأسطورة حول شخصية فلاد دراكولا.

 

في مقال بعنوان “خوف لا يهدأ ورغبة لن تفنى.. في تمثّلات دراكولا السينمائية” يقول الكاتب هشام روحانا “منذ ذلك الوقت بدأت هذه الرواية تشكل مُستودعاً لا ينضب لصِناعة السينما، فيتزايد اللُجوء إليها في أيامنا المعاصرة هذه ويزداد اللجوء إليها في فترات الأزمات العامة، كفترة الكساد الكبير في الولايات المتحدة أواخر عشرينيات وأوائل ثلاثينيات القرن الماضي، كما في فترة ظهور وباء نقص المناعة المكتسب (الإيدز)، وذلك ليس فقط كما قال الدكتور إيدغار فانس -أحد شخصيات فيلم الثالوث “بليد”- بأن مصاص الدماء يُشكّل مَنبعا لبعض أكثر أفكارنا تحريما؛ حُمّى الافتراس والسادية الجنسية، بل وأيضا لأن حِكايته مُنذ نشأتها الأولى ترتبط ارتباطا داخليا وثيقا مع بنية الانقسامات الاجتماعية المُتشكّلة على مستوى الطبقة والجنس والدين، وتعبر عنها”.

هذا ما جعل هوليود تنهمر انهمارا على قصص مصاصي الدماء لنجد فيلم “مقابلة مع مصاص الدماء” (Interview with vampire) وفيلم “الثالوث” (Blade) وفيلم “سيرك مصاص الدماء” (Vampire Circus) وفيلم “نوسفيراتو” (nosferatu) بالإضافة لفيلم المخرج ستيفن سبيلبيرغ “دراكولا” المقتبس عن الرواية الأصلية. وغيرها مئات الأفلام والمسرحيات الأخرى.

دراكولا.. أصل الحكاية

يعني لقب دراكولا حرفيا “ابن التنين”، وتحول معناه فيما بعد إلى “ابن الشيطان”، وقد ورثه الأمير فلاد تيبيس عن أبيه فلاد الثاني، والذي انتمى سنة 1431 ميلادية إلى تنظيم فرسان يدعى “تنظيم التنين”، وهو تنظيم أسسه الإمبراطور الروماني في بداية القرن الـ15 ميلادي.

ولد فلاد الثالث -أو فلاد دراكولا- سنة 1431 في مقاطعة سيغيشوارا التابعة لإقليم ترنسلفانيا في رومانيا، والتي أصبحت قبلة سياح الغرب الباحثين عن المغامرة والرعب والمقتفين لأثر دراكولا.

اكتسب فلاد دراكولا كُنية أخرى بعد وفاته وهي فلاد تيبيس أي فلاد المُخوزِق أو الأمير المُخوزِق التي ألصقها به العثمانيون لسببين، الأول نسبة إلى طريقة الخَازوق التي اعتمدها في إعدام خصومه والمخالفين للقانون، وهي إدخال وتد في مؤخرة الضحية ليخرج من فمه، والثاني أنه بعد حملة عَدوّه السلطان العثماني محمد الثاني على مقاطعة والاكيا، حيث أَعدم فلاد الثالث ضحايا من الجنود العثمانيين والمؤيدين لهم بتعليقهم على الخوازيق.

اتسمت حياة فلاد الثالث بتناقضات جمة، كان سببها بالأساس وفاة أبيه وأخيه المُكنى فلاد الراهب، وكانت هذه التناقضات هي المحرك الخفي لصناعة ذلك الأمير القاسي إلى حد المرض، وقد ساهمت الإمبراطورية العثمانية إلى حد كبير في صناعة هذا الشيطان المُكنى دراكولا، فقد قضى فيها جزءا من طفولته.

في سنة 1443 بعد أن اعتلى والد فلاد الثاني عرش والاكيا بمساعدة السلطان العثماني مراد الثاني، أرسله والده صحبة أخيه المُكنى “رادو الوسيم” إلى مدينة أدرنة شمال غرب تركيا، ولم يكن قد تجاوز فلاد الثالث حينها سن الثانية عشرة، وكان ذهاب الأميرين للعيش في أدرنة بمثابة الضمان الذي طلبه السلطان مراد الثاني لولاء حاكم والاكيا.

وفي كتاب “دراكولا الأمير ذو الأوجه الكثيرة.. حياته وتاريخه” للمؤرخَين الروماني رادو فلوريسكو والأمريكي ريموند ماك نلّي عن حياة فلاد الثالث في أدرنة العثمانية، ذكر الكاتبان أنه تلقى تدريبا على في فنون القتال والحرب، كما درس الأدب والقرآن والفلسفة طيلة بقائه في البلاط الملكي، وترعرع مع السلطان محمد الثاني الذي أصبح فيما بعد عدوّه اللدود، وانقلبت حياة فلاد الثالث رأسا على عقب بعد مقتل أبيه وأخيه “ميرتشيا” اللذين قُتلا بالتآمر بين نبلاء بلاده وولي عهد المجر.

وربما ما حدث لأخيه بدأ يُكوِّن ذلك الجزء الأسود والشيطاني في لاوعي فلاد الثالث، حيث تم التنكيل بجثة أخيه البكر وريث عرش ترنسلفانيا، بعد أن فقئت عيناه ودفن حيا، حينها قرر فلاد الذي لم يتجاوز السادسة عشرة آنذاك العودة لخلافة والده، في حين بقي شقيقه رادو الوسيم في البلاط العثماني، وأصبح رادو بدوره عدوّه حين حاول الإطاحة به بالتحالف مع العثمانيين.

دراكولا مصاص الدماء.. هل هي شخصية حقيقية أم مجرد خرافات وأساطير

وبعودة فلاد الثالث إلى وطنه استعان بالإمبراطورية العثمانية لاعتلاء العرش في المرة الأولى، لكن حكمه لم يدم طويلا بعد أن تآمر عليه الحاكم المجري يوحنا هونياد الذي كان يُضمر للعثمانيين عداء مقدسا إلى درجة أنه حاز على لقب “بطل المسيح” الذي أطلقه عليه البابا بيوس الثاني.

تمكن فلاد دراكولا من استرداد عرشه في العام 1456، ووضع خلال رجوعه الثاني إلى والاكيا تَحدّيين، الأول إصلاح حال البلاد بعد أن عانت من ويلات الحرب والاغتيالات، والثاني الانتقام من النبلاء الذين لم يغفر لهم خيانتهم لأبيه والتنكيل بأخيه.

وقد رسم هذان التحديان صورة فلاد دراكولا القريبة من مصاص الدماء، فقد فرض النظام عن طريق الإعدام، ووُصف بالعدل والقسوة معا، فقد أطلق سراح كل المساجين المحكومين قبل استلامه العرش في المرة الثانية، حتى يضمن التساوي بين الجميع وخضوعهم للقانون ذاته الذي يعاقب الذين يخالفونه بالموت معلَّقين على الخوازيق، كما انتقم من نبلاء والاكيا شر انتقام إما بالإعدام أو بعزلهم عن مناصبهم التي وهبها لأشخاص من عامة الشعب الذين لا تجري في عروقهم دماء النبلاء.

وقد وثقت مخطوطات ألمانية واقعة إعدام نحو 30 ألفا في مدينة براشوف في عام 1459 بالخوازيق، ويُقال إنه تناول غداءه وسط الجثث المتعفنة وغمس خبزه في دمائهم.

دراكولا.. بطل قومي أم مجرم حرب؟

نذر دراكولا نفسه لمحاربة العثمانيين الذين ساندوه أول مرة للاستيلاء على العرش بعد مقتل والده وأخيه، وكانت الحروب التي خاضها ضدهم باسم المسيحية، حتى إن فلاد كان القائد الوحيد الذي ساند بقوة قرار البابا بيوس الثاني خلال مجمع مانتوفا سنة 1459 بشن حملة صليبية على الإمبراطورية العثمانية.

كان إصرار فلاد دراكولا على شن تلك الحملة قد أعطاه حظوة لدى البابا، وهو ما قد يفسر الصورة المقدسة لدراكولا المؤمن والمناقضة تماما لصورة مصاص الدماء أو الشيطان.

تمثال لفلاد الثالث في رومانيا
تمثال لفلاد الثالث في رومانيا

وقد صورت مخطوطات رومانية وبلغارية في أواخر القرن الخامس عشر فلاد دراكولا باعتباره بطلا قوميا دافع عن استقلال بلاده ووصفته بالحاكم العادل الذي انتهج أساليب قاسية للدفاع عن مصالح والاكيا، وبررت ذلك بأنه وجّه حملاته العسكرية إلى عدو واحد هو الإمبراطورية العثمانية، وأن تلك الحروب كانت مقدسة وكان هدفها حماية دينه، فقد خاض كل حروبه ضد العثمانيين تحت راية الصليب والمسيحية، واعتبرت تلك الوثائق أن هذا الدفاع مشروع وأن قسوة أساليبه في الدفاع عن مصالح بلاده لا تنفي عنه صفة العدل.

كان كره دراكولا للعثمانيين كبيرا وخاصة بعد اعتلاء السلطان محمد الثاني العرش، ومن مفارقات الدهر أن القائدين ترعرعا معا في بلاط أدرنة، وربما زاد هذا التقارب في الصغر كل هذا الكره في الكبر، حتى إن دراكولا تحدى السلطان العثماني برفضه دفع الجزية وتعامل بقسوة مع رُسله الذين أوفدهم السلطان إلى والاكيا، حيث أشيع أن الرُسل العثمانيين رفضوا نزع عمائمهم عند تحية القائد فلاد دراكولا، فأمر بتسميرها على رؤوسهم بواسطة مسامير، كما انتقم من حمزة باشا مبعوث السلطان العثماني الذي أعدمه وعلقه رفقة جنوده على خوازيق.

لقد عمل دراكولا بكل ما أوتي من قوة على محو تاريخ تحالفه خلال فترة زمنية قصيرة مع العثمانيين، وبذل في سبيل ذلك جهده في التنكيل بهم وفي محاربتهم، فكأنه كان يريد التخلص من عقدة ذنب بسبب ارتباطه بهم خلال فترة شبابه.

وضع فلاد دراكولا هذا العداء نصب عينيه وشحذ كل ما لديه من عتاد وجيش ومن خبرة وعلم في مجال الحروب لإلحاق الهزائم بالعثمانيين، ووصل به الأمر إلى اعتناق الكاثوليكية بدل الأرثوذوكسية، حتى يتمكن من خطب ودّ ملك المجر الكاثوليكي واكتساب ثقته للوقوف معه في حربه على العثمانيين.

لم يكن هذا العداء من طرف واحد بل كان متبادلا، فبعد مقتل حمزة باشا حشدت الإمبراطورية العثمانية جيشا كبيرا لإزاحة فلاد دراكولا عن العرش وقاد شقيقه رادو كتيبة عثمانية خلال تلك الحملة ضد دراكولا.

كان فلاد معزولا ولم يجد دعما من الممالك المسيحية بما في ذلك المملكة المجرية، ورغم قوة عدوه لم يستسلم وقام بتجنيد الأطفال والنساء لمواجهة الجيش العثماني، واستعمل أساليب متطورة لمهاجمة عدوه حتى يرجح كفة الحرب له، فلجأ إلى حروب العصابات تارة، وإلى استعمال “سلاح بيولوجي” بدائي عن طريق إرسال المصابين بالطاعون إلى معسكرات العثمانيين حتى تنتشر العدوى بينهم.

أيقن دراكولا أن عدوه الأوحد هم العثمانيون، لذلك لم يكن لديه مانع في التحول إلى الكاثوليكية حين عرض عليه ملك المجر ذلك خلال مدة سجنه في المجر بعد هزيمته وتولي أخيه رادو العرش في والاكيا بمساعدة العثمانيين.

فرغم أن فلاد كان وحيدا في مواجهة أعدائه ولم يلق دعما من الإمبراطوريات المسيحية، بل وصل به الحد إلى السجن بتهمة الخيانة العظمى، لم يكف عن البحث لاسترجاع العرش وإعادة بناء والاكيا وطرد العثمانيين منها.

وبقي على هذا الحال إلى أن قتل في بداية العام 1477 وعلق رأسه على خازوق في أدرنة، ولكن لم يعرف مكان دفنه الحقيقي وبقي قبره مجهولا.

دراكولا.. ملاك أم شيطان؟

كان دراكولا بطلا قوميا عادلا وكائنا داميا شيطانيا في آن واحد، كانتا صفتين متناقضتين التصقتا به بسبب الصراعات الدينية المتأججة آنذاك بين الإمبراطورية العثمانية المسلمة والإمبراطورية المجرية المسيحية، وبين الكنيستين الكاثوليكية برعاية روما والأرثوذوكسية برعاية روسيا القيصرية.

فقد كان فلاد دراكولا بطلا قوميا للرومانيين، وكان مسيحيا صادقا بالنسبة للبابا، ولكنه لم يكن جديرا بالثقة بالنسبة للمجريين الكاثوليك، وكان سفاحا مخوزقا بالنسبة للعثمانيين، وشيطانا ماردا بالنسبة لغرب أوروبا.

كان دراكولا بطلا قوميا عادلا وكائنا داميا شيطانيا في آن واحد
كان دراكولا بطلا قوميا عادلا وكائنا داميا شيطانيا في آن واحد

ولقد صَوّرت لوحتان فلاد دراكولا في صورة شيطان حارب المسيح وأنبياءه، فجسدت اللوحة الأولى فلاد في صورة الحاكم بيلاطس البنطي وهو يحكم على يسوع بالصلب، والثانية لفلاد دراكولا في صورة الحاكم الروماني لمدينة باتراس وهو يأمر بصلب القديس أندراوس (وهو أحد الأنبياء المبجلين لدى الأرثوذوكس).

كما صورته كتب روسية بطلا قوميا ومسيحيا مخلصا، وقد يكون تفسير ذلك تبنيه الأرثوذوكسية، حتى إنه لا يزال بطلا في الوقت المعاصر في العديد من مناطق أوروبا، إلى درجة تباهي الأمير تشارلز وريث العرش البريطاني بأنه يحمل دماء دراكولا، فقد قال في تصريح صحفي نقله موقع قناة إي بي سي في أكتوبر/تشرين الأول 2011 إنه سليل فلاد الثالث.

ومع كل هذا التناقض الغريب، تخرج حقيقة واحدة لصاحب القبر المجهول؛ أنه سيبقى صاحب أشهر شخصية رعب في التاريخ ومَعين لا ينضب لآلاف الكتاب والمخرجين حول العالم.