“دولة الصبيان”.. سباق أشبال أمريكا للوصول إلى العرش

محمد موسى

تحالفات تُسيرها المصالح، وكذب وتدليس من البعض، ومواقف محافظة جدا للكثيرين، والطموحات الصادقة بالتغيير تتلاشى أمام أول التحديات الصعبة؛ هكذا بدا الحال في مخيم “دولة الصبيان” (Boys State) الذي نَقَلَ يومياته هذا الفيلم التسجيلي، ويحمل اسم المخيم نفسه، وهو من إخراج “جيسي موس” و”أماندا ماكبين”.

يُوفر هذا المخيم الفرصة كل عام لطلاب مدارس ثانوية أمريكية لتجربة الحياة السياسية في الولايات المتحدة عبر إفساح المجال لهم لتأسيس حكومتهم الخاصة واختيار ممثلين ورؤساء عنهم، ويجري كل ذلك على حسب القوانين الأمريكية ذاتها التي تنظم الحياة السياسية في الولايات المتحدة.

يُشكل مخيم “دولة الصبيان” إحدى الظواهر المهمة في الحياة السياسية والطلابية في الولايات المتحدة، فهذه التجربة التي تمولها جمعية المحاربين الأمريكيين القدامى منذ عام 1935 أضحت إحدى ساحات الاختبار المهمة لاكتشاف سياسيين وشخصيات المستقبل في الولايات المتحدة.

تكفي مراجعة قائمة الذين شاركوا في المخيم عبر تاريخه لتأكيد هذه الفرضية من الرئيس الأمريكي السابق “بيل كلينتون” إلى وزير الدفاع الجدلي “ديك شيني” مرورا بمدير شركة “آبل” الأمريكية الحالي “تيم كوك”، إضافة إلى عدد من الشخصيات المهمة الأخرى.

 

مقابلات الطلاب.. منافسة شرسة للوصول إلى التاريخ

يبدأ الفيلم التسجيلي بمشاهد لمقابلات الطلاب مع لجنة الاختيار للمخيم، ويجتهد الطلاب في تلك المشاهد على إظهار أفضل ما عندهم، فيتحدث البعض عن عائلته وانغماسها بالسياسة أو العمل الاجتماعي العام.

ويركز البعض الآخر على علاقة عائلته التاريخية مع الجيش الأمريكي على أمل أن يثير هذا تعاطف لجنة الاختيار المتألفة من جنود سابقين، بينما تحدثت قلة من الطلاب الذين ظهروا في الفيلم عن نشاطهم السياسي والاجتماعي العام.

تمرّ عمليات الاختيار بطريق صعب وطويل، وعلى لجان الاختيار رفض عشرات الآلاف من الطلبات التي تصلها من كل الولايات المتحدة، وتكتفي أحيانا بطالب واحد من كل مدينة أمريكية، ويتنقل المخيم كل عام بين الولايات الأمريكية.

التنوع العرقي يظهر بين الطلاب الذين شاركوا في مخيم تكساس، بينما هيمن العرق الأبيض على المشاركين

 

ولاية تكساس.. أسبوع من التخييم في أمريكا الصغرى

يصور الفيلم المخيم عندما حل على ولاية تكساس الأمريكية التي تمثل بتركيبتها السكانية المتنوعة مثالا عن الولايات المتحدة الأمريكية اليوم، وهذا ما يبدو في التنوع العرقي بين الطلاب الذين شاركوا في مخيم تكساس، وإن هيمن العرق الأبيض على المشاركين في المخيم.

صُوِر الفيلم على مدار أسبوع كامل، وهو الزمن الذي يستغرقه المخيم، وبقي الفيلم في أجواء المخيم، ولم يخرج منها إلا في مناسبات قليلة جدا، حيث صور بيوت بعض الطلاب، وأحيانا سجل الرحلات التي قطعها بعضهم للوصول إلى موقع المخيم.

وعلى الرغم من أن الفيلم بدأ بمشاهد واسعة ومونتاج سريع للتعريف قدر الإمكان ببعض الذين شاركوا في هذه التجربة الخاصة، فإن العمل سرعان ما ركز على أربع شخصيات استأثرت بالكثير من وقت هذا الفيلم التسجيلي الطويل.

 

“أنا مدمن سياسة”.. إيمان مطلق بعظمة أمريكا

ليس من الواضح أسلوب العمل أو التحضيرات التي قام بها المخرجان وفريقهما من المصورين، أو ضخامة المادة المصورة، ذلك أن الفيلم يظهر في مقدمته حوارات مع طالبين في منزل عائلتهما قبل أن يبدأ المخيم.

ندرك لاحقا عبر أحداث الفيلم أن هذين الطالبين سيكون لهما دور كبير في العملية السياسية الافتراضية التي ستجري في المخيم، فهل كانت مجرد صدفة، أم أن الفيلم صور حوارات أخرى مع عدة طلاب في بيوتهم، ولم يستخدمها لأن أولئك الطلاب لم يكن لهم دور مهم في المخيم؟

من بين الطلاب الذين حازوا على حصة من الاهتمام في افتتاحية الفيلم طالب يدعى “بن”، وقد فقد ساقيه وإحدى يديه عندما كان طفلا بسبب المرض، بيد أن هذا لم يوقف حماسته وطموحاته، فتصور الكاميرا الشاب من غرفة نومه وهو يبحث في الإنترنت عن أشهر الخطب السياسية في التاريخ الأمريكي.

توقف “بن” عند خطبة للرئيس الأمريكي الراحل “رونالد ريغان”، وقد كشف هذا الخيار عن معتقدات الشاب السياسية المحافظة، إذ يصف نفسه قائلا: “أنا مُدمن سياسة”، أما عن أكبر مشاكل هذا الشاب -الذي لم يتجاوز عامه السابع عشر- فهي عدم تقدير البعض لعظمة الولايات المتحدة.

كان حلم “بن” الالتحاق بالجيش الأمريكي، لكنه حلم لم يتحقق بسبب وضعه الصحي، بيد أنه ما زال يأمل أن يخدم الولايات المتحدة عبر الانضمام لأحد أجهزتها الأمنية، وسيكون له دور لامع في مخيم ولاية تكساس، بل يُمكن القول إنّه سيغير بوصلة التنافس في المخيم، مما يُشير لشخصية مُثيرة ربما سنسمع عنها في المستقبل.

الصبي الهادئ الطبع “سيتفن” الذي يُعتبر أحد الشخصيات الملهمة في مخيم ولاية تكساس

 

مكسيكي يحمل حقيبته وحيدا.. صوت متوازن في محيط محافظ

على خلاف “بن” المولود في أسرة بدا عليها الثراء المادي “ولد ستيفن” في الفقر، فأمّه مهاجرة من المكسيك، وكانت حتى سنوات قليلة لا تملك الأوراق القانونية للإقامة في الولايات المتحدة، بيد أن هذا لم يثن عزيمتها، فربت عائلة متماسكة، وتدرجت في سوق العمل الصعبة في ولاية تكساس من عاملة في محطة بنزين إلى صاحبة المحطة.

يُعرف الفيلم بالطالب “ستيفن” في مشهد شاعري لافت، إذ صوره وحيدا يحمل حقيبته وهو يتجه إلى الحافلة التي ستأخذه إلى مخيم الصبيان، وسيكون هذا الصبي الهادئ الطبع الذي يتحدث بصوت منخفض لكن بنبرة حازمة؛ أحد الشخصيات الملهمة في مخيم ولاية تكساس، ويترشح لمنصب مهم، ويكون أحد الأصوات القليلة العاقلة في محيط تهيمن عليه الأفكار المحافظة التي تقترب أحيانا من الشعبوية والتطرف.

“هذه فرصتك لتكون ما تريد”.. حماس اللقاء الأول

كان أحد المشرفين يتحدث في اللقاء الجماعي قائلا: هذه فرصتك لتكون ما تريد، فالذي يجلس إلى جانبك الآن ربما يقود حزبك أو مدينتك في المستقبل.

بدا الحماس واضحا على الجميع في اللقاء، إذ إنهم مقبلون على تجربة اجتماعية ستكون لها مآلات كبيرة على مستقبل بعضهم، فالفائز في انتخابات المدينة سيحصل على منحة مالية من جمعية المحاربين القدامى، ولا تتوقف الأمور عند المنحة المالية، إذ قد يحدد ما يحدث في المخيم مسار حياة كثير من المشاركين فيه.

قُسم المشاركون بعد اللقاء الجماعي بين حزبين رئيسين هما “القوميون” و”الفيدراليون” ليتماهى هذا التقسيم مع النظام السياسي الفعلي في الولايات المتحدة، ويجب على الحزبين التنافس بينهما للفوز بمنصب رئيس الولاية، كما أن التنافس سيكون داخل الحزب الواحد، إذ يتبارى المرشحون على منصب رئيس الحزب ومناصب أخرى مهمة.

على اليمين الطالب “بن” الذي فقد ساقيه وإحدى يديه عندما كان طفلا بسبب المرض يُحاور رينيه “رينيه” الطالب الأسود

 

ترشيحات المنافسة الانتخابية.. خطة سير المخيم الحافلة

لا يمنح المخيم أي فرصة للمشتركين فيه لالتقاط أنفاسهم، إذ إن عليهم أن يبدؤوا يوم وصولهم في تحديد مرشحي كل حزب، ويبرز في اليوم الأول طلاب معينون تصدروا الصفوف للتنافس على المناصب المهمة.

ومن الطلاب الذين ركز عليهم الفيلم “بن” و”ستيفن” و”روبرت” الشاب المنافق الذي سيغير جلده عدة مرات، و”رينيه” الطالب الأسود الشديد النباهة والبلاغة، وسيكون مسؤولا عن التخطيط لحزب “القوميين”.

يرافق الفيلم أبطاله وهم يأخذون خطواتهم الأولى على صعيد مستقبلهم السياسي في المخيم، إذ على المرشحين الحصول على العدد الكافي من الترشيحات ليتنافسوا في السباق الانتخابي، وستكون هذه مهمة صعبة، لأن الطلاب لم يتعارفوا بعد جيدا، كما أنهم لم يسمعوا حتى ذلك الحين خطب المرشحين أو برامجهم الانتخابية.

“رينيه” الطالب الأسود الشديد النباهة يتحدث عن تاريخه العائلي كشاب ولد في أسرة أمريكية من أصول أفريقية أمريكية

 

خطب البرامج الانتخابية.. إشكالات أمريكا الكبرى بعيون الصبيان

كان بعض المشاركين في المخيم يسأل المرشحين عن آرائهم بخصوص قضايا جدلية كثيرا مثل السلاح وامتلاكه في الولايات المتحدة والإجهاض والمهاجرين غير الشرعيين.

بدت إجابات معظم المرشحين عن هذه القضايا وكأنها تريد أن ترضي المزاج العام في المخيم الذي همين عليه التحفظ، حتى “ستيفن” الذي كان يملك أفكارا ليبرالية متسامحة كان يغلف أفكاره بطبقة من الغموض حتى لا يغضب البعض، وكان يُجيب إجابات عامة ركزت على حرية الأمريكي في اختيار ما يشاء.

عندما تبدأ فقرة خُطب المرشحين للتعريف ببرامجهم الانتخابية يتكشف معدن كل مرشح، إذ يبرز “ستيفن” بخطبة مؤثرة مرّت على حياته الشخصية وتاريخ عائلته، والقيمة الرمزية للحلم الأمريكي الذي جذب أُمّه المهاجرة التي نجحت في تشييد حلمها الأمريكي الخاص رغم كل الصعاب.

كما وازت خطبة “رينيه” خطبة زميله “ستيفن” في القوة، إذ إنه تناول أيضا تاريخه العائلي كشاب ولد في أسرة أمريكية من أصول أفريقية أمريكية، والطريق الخاص الصعب الذي قطعه، فقد عاش في بيئة صعبة في مدينة شيكاغو قبل أن ينتقل إلى ولاية تكساس حيث عاش في بيئة للأمريكيين البيض ليواجه ما يحمله هذا الأمر من تحديات خاصة.

“روبرت” الشاب المنافق الذي سيغير جلده عدة مرات يجلس في الوسط

 

منافسة القوميين والفيدراليين.. صراع المناصب والمواقف

بعد أن أُعلن عن المرشحين في المناصب المتخيلة في دولة المخيم بدأت رحلة جديدة من التنافس، وستكون كاميرا الفيلم على كثب من تفاصيلها، فبعد الإعلان عن مرشحي الحزبين يبدأ التنافس بينهما للفوز بالمناصب الكبرى في حكومة ولاية تكساس، وهذا سيقود إلى نوع مختلف من المنافسة يقوم على الاختلافات في الرؤى بين الحزبين.

بدا أن الحزبين في دولة المخيم قد صُنفا بحسب الاختلافات في النظر للقضايا الجدلية التي تشغل أهل المخيم والأمريكيين بشكل عام، فالحزب القومي اختار موقفا غير متشدد تجاه قضايا امتلاك السلاح وحق النساء في الإجهاض والمهاجرين.

بينما كان موقف الفيدراليين أكثر تشددا حيث رفضوا أي تقييد لبيع السلاح وكانوا مع منع الإجهاض ليشبه موقف الحزب الجمهوري الأمريكي، بينما اقترب الحزب القومي من أفكار الحزب الديمقراطي.

لن يكون الطريق هينا على “ستيفن”، وهو المرشح الوحيد الذي يحمل مواقف ليبرالية، وستزيد الأمور صعوبة على الفتى ذي الأصول المكسيكية بعد أن نشر المنافسون له صورا وفيديو وهو يشارك في تظاهرة في ولاية تكساس كانت تدعو إلى تنظيم بيع السلاح في الولاية.

دافع “ستيفن” عن موقفه بقوة وفصاحة، وذكّر بضحايا القتل الجماعي في مدارس أمريكية في السنوات الأخيرة، وهو كان من أهم أسبابه تجارة السلاح المنفلتة في الولايات المتحدة.

 

تشدد في العلن ومرونة في الخفاء.. خطب ود الجمهور

يمنح الفيلم اهتماما خاصا بالطالب “روبرت” الذي خسر في السباق الانتخابي في الحزب القومي لصالح “ستيفن”، وقد غلب الحماس على “روبرت” في خطبته وتقاطعاته مع زملائه في المخيم، ولم يخف الشاب الأمريكي مواقفه المحافظة، وبدا أنه فخور بها، فهو يرى الإجهاض جريمة، إذ إن هناك في الولايات المتحدة من يبحث بقنوط عن أطفال لتبنيهم، فلماذا يقتل الأجنة عبر الإجهاض.

كشف “روبرت” في لحظة مكاشفة مع المخرجين بأنه في الحقيقة مع حق المرأة بالاحتفاظ بجنينها أو إجهاضه، لكنه قال ما قال في خطبته حتى يرضي جموع الطلاب المحافظين.

أما “رينيه” فواجه تحديات مختلفة في المخيم بسبب لون جلده الأسود، إذ شن الحزب المنافس حملة شخصية على الشاب النبه، ووضعوا صورة كارتونية له تهزأ من ملامحه السوداء، كما أن قناة المخيم التلفزيونية التي حاورت جميع المرشحين تجاهلته، وهذا بقي في بال الشاب الذكي.

جمهورية المخيم الصغيرة.. انتصار للأفكار المتشددة

انهزم الحزب القومي أمام نظيره الفيدرالي بعد سباق انتخابي حامٍ، وبعد أن لعب “بن” دورا مهما في التشويش وبث الإشاعات وتخوين الحزب المنافس، ويمكن قراءة فوز الحزب الفيدرالي في المخيم بأنه انتصار للأفكار المتشددة، وهو الذي يسير عكس السائد، إذ إنه من المعروف أن جيل الشباب في الولايات المتحدة قريب من الأفكار الليبرالية، ومن النادر أن تحظى المواقف المحافظة بشعبية كبيرة بين فئات الشباب.

يكشف الفيلم في خاتمته عن الطرق التي سلكها المتنافسون في مخيم الطلاب، وبعد انتهاء تجربة المخيم، إذ بقي معظمهم في مجال العمل العام، أما “ستيفن” الشاب الذكي فيبدو أنه سيكون صاحب مستقبل سياسي في ولايته وربما في الولايات المتحدة، حيث إنه انضم للحزب الديمقراطي في ولاية تكساس.

 

طاقة المخيم المتقدة.. انعكاس للحياة السياسية الأمريكية

تفرض الفترة الزمنية المحدودة للمخيم خيارات صعبة على مخرجي الفيلم، إذ كان عليهما أن يصورا ويتابعا مجموعة كبيرة من الشخصيات في فترة تعد قياسية في عرف السينما التسجيلية، كما فرضت طبيعة الفيلم والمناسبة التي يتناولها الحد الأدنى من الأخطاء التقنية، إذ لا يمكن إعادة الحدث نفسه من أجل الفيلم.

تنتقل الطاقة الكبيرة في المخيم للفيلم وتغلفه بروح حيوية كثيرا، وهو أمر تعززه الانتقالات السريعة للمونتاج والكاميرا التي كانت لا تهدأ.

يكاد مخيم الطلاب أن يكون عالما مُصغرا عن الحياة السياسية في الولايات المتحدة، كما يبرز الفيلم القوى الخفية والظاهرة التي تحرك العملية السياسية الأمريكية التي يجب عليها التمسك بمواقف محافظة لا حياد فيها لإرضاء أغلبية أمريكية هي في الغالب بيضاء ومحافظة رغم ما يبدو أحيانا من تغييرات طرأت على طبيعة المجتمع الأمريكي في العقود الأخيرة.