“ديغول”.. عقبات في طريق الجنرال الذي غيّر تاريخ فرنسا

حين يخرج فيلم روائي ينتمي إلى أفلام السيرة الذاتية تُعقد مقارنات، ويُشار إلى أعمال سابقة تناولت الشخصية الشهيرة موضوع السيرة، لكن مع بدء العروض الفرنسية لفيلم “ديغول” للمخرج الفرنسي “غابرييل لي بومين” -بعد إعادة فتح دور السينما- تنبّه الناس فجأة إلى عدم وجود أفلام روائية سابقة عن هذا الزعيم الفرنسي.

إنَ أفلام السيرة الذاتية هي نوع سينمائي يلقى شعبية متزايدة في العالم، لكنه إن تناول “ديغول” وثائقيا فهو لم يقترب منه روائيا على الرغم من مرور 50 سنة على رحيله، فهل ثمة خشية من تناول سيرة غنية كهذه، أم إن نظرة الفرنسيين إلى الزعيم الراحل فيها من التبجيل والتقدير ما يمنع أيا كان من مقاربة سيرته قبل مرور عدة أجيال؟

فـ”شارل ديغول” شخصية محورية في القرن العشرين له مكانة يحترمها ويقدرها الجميع، لأنه زعيم كبير في شخصيته رجال عدة، ويصعب تجسيده على الشاشة بمهابته وتكوينه الجسدي ونظرته الخاصة، وأمام عظمته وغنى تاريخه، لذلك فإن عمل فيلم سيرة ذاتية كاملة عنه كما يقول المخرج في حوار ترويجي للفيلم: لهو مخاطرة كبرى لم تواجهها السينما وجها لوجه.

الجنرال ديغول قائد أوصل فرنسا للنصر أمام الألمان وعرف كيف يقول لا في مرحلة حساسة يضعف فيها الرجال أمام المجهول، وكانت هذه المرحلة بالذات محطّ اهتمام المخرج وكاتب السيناريو “غابرييل لي بومين”، ففي الوقت الذي غرق فيه “ديغول” في وحدة شبه كاملة مجردا من مناصبه ورتبه العسكرية وقاطعا مع مسيرته المهنية كضابط في الجيش، وحين كان عليه أن يبدأ من جديد بعد كل ما حققه تبرز خصائصه كإنسان، ويمكن التوغل في دواخله.

هي أيضا مرحلة مثيرة للاهتمام دراميا حيث قطع لماضي وخلق مستقبل جديد، كما أنها مرحلة حرجة وكلها مخاطرة تبين فيما بعد أن كل الخطوات والخيارات التي تمت خلالها كانت صائبة، وهي تلك التي أصبح فيها “ديغول” الرجل الذي غير التاريخ، إنها تلك المرحلة الحرجة التي سبقت نداء “ديغول” للفرنسيين بمقاومة الاحتلال الألماني في 18 يونيو/حزيران من عام 1940.

بين الماريشال والعقيد.. مواجهة مد الاحتلال الألماني

تدور أحداث الفيلم في الفترة التي دامت أسابيع معدودة من نهاية مايو/أيار حتى 18 يونيو/حزيران 1940، وفيها كان “شارل ديغول” عقيدا يُنظر إلى نظرياته وكتاباته حول الحرب بازدراء من قبل زملائه، ولم ينجح في إيصال أفكاره التي حملت معاناته أيضا من الحرب العالمية الأولى حيث سجن لمدة سنتين حسب ما وصفه في كتابه “قفزة في المجهول”.

اختار “ديغول” المغامرة والتخلي عن حياته الماضية تاركا كل شيء خلفه، وتحمل كل المخاطر وأعباء تجريده من الجنسية ومن المناصب والحكم بالموت من الحكومة الفرنسية آنذاك، فحين اشتدت الحرب وانهار الجيش الفرنسي واقترب الألمان من باريس انتشر الذعر في الحكومة التي كانت تخطط لقبول الهزيمة، لكن ثمة رجل هو العقيد “شارل ديغول” (الممثل لامبير وليسون) الذي كان عائدا لتوّه منتصرا من معركة “مونت كورييه”، وقد رُفّع إلى رتبة جنرال وعين نائبا لوزير الحربية يريد تغيير مسار التاريخ، ويريد أن يُسمع صوتا آخر هو صوت المقاومة.

شارل ديغول يجتمع مع وينستون تشرشل لطلب بث خطاب أسبوعي موجه إلى الشعب الفرنسي من إذاعة “بي بي سي” البريطانية

يبرز الفيلم في لقطات موجزة ومكثفة ومهمة لبناء السرد وتوضيح مسار الشخصية الرئيسية فيه لقاءات المسؤولين -برئاسة “بول رينو” رئيس الحكومة حينها- ونقاشات السياسيين والعسكريين بشأن الموقف من الاحتلال الألماني لفرنسا، كما يبين التباين بين الماريشال “بيتان” -وهو معروف بمواقفه الشجاعة فيما مضى، ولكنه الآن يريد تجنيب فرنسا الحرب- وبين الجنرال ديغول الذي يرفض الاستسلام أمام الجيش الألماني.

“الكلمات هي سلاحي الوحيد الآن”.. خطاب للفرنسيين من لندن

تدبر مؤامرة لـ”ديغول” وهو في لندن للتباحث في شأن دعم بريطاني لفرنسا من أجل المقاومة، فيُعلن العسكريون برئاسة “بيتان” استسلام فرنسا، وحين يرفض الانصياع يُجرّد من مناصبه، وفي لحظة يقرر هذا القائد ترك كل شيء والبقاء قرب عائلته، لكن روح المقاومة سرعان ما تتغلب عليه، فيقرر النضال على الرغم من ضعف الجيش الفرنسي وتقدم الألمان على كل الجبهات.

“إيفون” زوجة شارل ديغول صحبة أولادها الثلاثة فيليب” وإيزابيل” و”آن” تطرق باب النزوح

يقرر “ديغول” الرحيل إلى لندن وحيدا، ولا شيء معه سوى الكلمات كما يقول: “الكلمات هي سلاحي الوحيد الآن”، فهي الوحيدة الباقية لإشعال المقاومة الفرنسية وقد فعلت، لقد استطاع بعزيمته وإصراره إقناع “تشرشل” بمساندته والموافقة على بثّ خطاب أسبوعي من إذاعة “البي بي سي” البريطانية لحثّ الشعب الفرنسي على الكفاح وتنظيم نفسه.

ركائز العلاقة بين القائد وزوجته.. تداخل الشخصي بالعام

كل هذا السرد التاريخي لمسيرة “ديغول” كرجل عسكري وسياسي في فترة محددة، والتعرف على جزء من حقائق تاريخية خلالها لا يعني أن الفيلم تاريخي، وأنه ينظر لـ”ديغول” كبطل كما قد يفعل أي فيلم وثائقي، بل بدا وكأن الهدف منه إلقاء الضوء على شخصية “ديغول” الإنسان في حياته الشخصية والإنسانية بلحظات قوته وضعفه ومغامرته، حيث تتناوب في الفيلم باستمرار لقطات ومشاهد يتداخل فيها الجانب الشخصي مع الجانب العام، ويظهر فيها دور زوجته “إيفون” الجانب الرئيسي في حياته، ولا أدلّ على شخصيتها الحقيقية من اختيارها العيش بتقشف في أحد الأديرة بعيدا عن الأضواء بعد رحيل “ديغول”.

لقد كانت “إيفون” أول مؤيد له، وحين تُفرّق الأحداث بينهما ويبقى “شارل” في لندن تبدأ مع أطفالهما الثلاثة في طرق باب النزوح، وما يبديه السيناريو من جديد هو هذه العلاقة الحميمية بين الزوجين وهذا الرابط القوي بينه وبين أولاده الثلاثة لا سيما أن ابنته “آن” تعاني من متلازمة داون.

يجرؤ الفيلم في لقطة أولى سريعة على إظهار الزوجين في غرفة النوم وهما يستعدان للانفصال بسبب مغادرة الزوج للمعركة، ثم تظهر “إيفون” تعتني به وتربط له حزامه العسكري، وتبدو زوجة “ديغول” من خلال الرسائل المتبادلة التي استخدمها السيناريو كمصدر لتبيان الرابط بينهما إنسانة يقظة وشجاعة ومنخرطة تماما في هموم زوجها وقضايا بلدها، وعلاقتها مع زوجها علاقة الند للند وبينهما تفاهم حقيقي ومشاركة وتبادل آراء، وحب قبل كلّ هذا.

شارل ديغول يلاعب ابنته “آن” التي تعاني من متلازمة داون، وترافقه زوجته “إيفون” خلال رحلتهم إلى إحدى الشواطئ

يستند كلّ منهما على الآخر في السراء والضراء كما كتب لها “ديغول”، فهي صلبة ومصممة وعنيدة كما يصفها أقرباؤها في عدة حوارات في الفيلم، وحين لا تعرف مكان زوجها لصعوبة الاتصالات تقرر النجاة بأسرتها ومحاولة اللحاق به كي تقف بجانبه، وتغامر بركوب سفينة مبحرة إلى إنجلترا تتعرض للقصف الألماني، وحين تصل إلى هناك تكتشف من الصحف أن زوجها قد أعلن نداءه الأول من لندن محفزا الشعب الفرنسي على المقاومة.

كان أداء الممثلة “إيزايبل كاريه” في دور “إيفون” رائعا في تجسيد الحنان والحب والإصرار والقوة، وكانت تمسّ القلوب بنظرتها الدافئة المحبة، وتحافظ في أشد المواقف صعوبة على هذا التوازن بين الحزم والحنان.

“آن كانت نعمة ساعدتني”.. إعاقة تصنع الترابط العائلي

إلى جانب العلاقة الخاصة بين الزوجين التي وفق الفيلم في إبدائها عمد أيضا إلى إبداء علاقة الزوجين بطفلتهما المعاقة “آن”، فكانت كأنها تزيد من متانة ارتباطهما، فقد رفضا معا وضعها في مؤسسة خاصة وقررا الاعتناء بها بكل حب واهتمام.

لقد كانت هي بالذات كنعمة بالنسبة لهما، وهذا ما كتبه “ديغول” في مذكراته “آن كانت نعمة ساعدتني لتجاوز كل الإخفاقات وكل الآخرين، وإلى النظر من علو”، وبوجودها مع أخويها “فيليب” وإيزابيل” بدت العائلة شديدة الترابط.

لكن هذا التركيز على “آن” كان مبالغا به أحيانا سواء في طول وتكرار مشاهدها مع “ديغول” أو في تمرير مشاهد لم تضف شيئا للسرد الدرامي كتوقف “إيفون” طويلا أمام أطفال المصحة المعاقين وجولة الكاميرا عليهم واحدا واحدا.

“لامبر ويلسون”.. تجسيد مغاير لصورة القائد في الأذهان

كانت المهمة الأصعب في الفيلم هي تجسيد دور “ديغول”، فالممثل “لامبر ويلسون” لم يتمكن تماما من إعطاء الدور حقه، وإن كان تأثيره فعّالا وحضوره أقوى في لحظات ضعف الشخصية لا سيما عند إظهار لحظات الشعور بالوحدة لدى “ديغول” خلال اجتماع مجلس الوزراء، كما وهو في الطائرة في الطريق إلى لندن أو عند وصوله لشقته في لندن، أما في ما عدا ذلك فإننا نظل غير مقتنعين تماما بأن كلّ هذه الإنجازات هي من صنع ذاك “لامبير” خاصة خلال المناقشات السياسية ووقوفه أمام تشرشل وإقامته اللندنية.

الممثل الفرنسي “لامبر ويلسون” الذي قام بتمثيل دور “شارل ديغول” في فيلمه

لقد كان موقفه بالذات وهو يردد خطاباته أمام المرآة مبعث تساؤلات، أهو لم يتقن الدور في أسلوب أدائه، أم أن المخرج أراد إظهار “ديغول” على هذا النحو؟ لقد بدا إنسانا فانتازيا بعيدا عن الصورة الجدية التي عرف بها، فأحد مساعدي “ديغول” أخبر المخرج بأنه كان يتمرن على خطاباته، فأظهر المخرج ذلك في لقطات بدا فيها الجنرال شخصا خفيفا بعيدا تماما عن الصورة التي في الأذهان عن “ديغول”.

هنا يكمن سرّ الصعوبة، فالصورة عن الشخصية لا بد أن تحكم المشاهد وهو يرى سيرتها مجسدة على الشاشة، وهذه عقبة كبيرة في أفلام السيرة الذاتية، فالجمهور يريد أن يرى بطله كما عرفه أو كما رسم صورته في تصوراته وخياله، وقد لا يقبل قراءة أخرى للشخصية، لكن المخرج -كما يقول- أراد الاحتفاظ بحرية النظرة والانتقاد حتى، وإيجاد مساحة للروائي، لكن بالطبع ضمن الالتزام بالتاريخي، فقد أعاد بناء مرحلة ولكنها أيضا انعكاس للفترة الحالية.