“ديمقراطية هشة”.. معارك استقلال تايوان سياسيا وثقافيا عن الصين

قيس قاسم

في وثائقيه “تايوان ضد الصين: ديمقراطية هشة” (TAIWAN VS CHINA: A FRAGILE DEMOCRACY)؛ يقترح المخرج الفرنسي “آلان ليفكوفيتش” بحث الصراع المتصاعد بين الصين وتايوان من منظور شامل، يراجع فيه الجوانب التاريخية لبروزه، وأسباب اختلاف المواقف الدولية من الوجود التايواني، وعدم الاعتراف الكامل بها كدولة رغم تمتعها باستقلال ذاتي، وتوفرها على مستلزمات وجودها الذي ترسخ خلال عقود طويلة (شعب، عَلَم، لُغة، عُملة نقدية وغيرها).

من تلك الثغرات “الدولية” و”التاريخية”، تحاول الصين الدخول إلى الجزيرة والسيطرة عليها، انطلاقا من قناعة كاملة عند قادتها في بكين بأن تايوان هي جزء من أراضيها، فهي تابعة لها ولا بد من عودتها إلى أحضانها، متعكزة ومتخذة تجربة “هونغ كونغ” مثالا تراه قابلا للتطبيق في تايوان أيضا، وعلى نفس المبدأ “دولة واحدة بنظامين”.

في حين ترى قطاعات كبيرة من الشعب التايواني -وبشكل خاص أجيال من شبابه- في التجربة ما يؤكد تنصّل الصين عن التزامها بالمبدأ، ومحاولاتها غير المنقطعة للهيمنة السياسية والاقتصادية الكاملة عليها، لهذا يدعون إلى الاستفادة من دروسها، وأبلغها التشبث بالنظام الديمقراطي، والوقوف بشجاعة في وجه التمدد الصيني.

 

إعلان الاستقلال.. مشهد طافح بنشوة الانتصار

اللافت في اشتغال المخرج “آلان ليفكوفيتش”، أنه بالرغم من سعة المادة المقترحة للبحث، قد اختار الصورة وسيلة أساسية للتعبير عنها، حيث يقرن كل مشهد أو مراجعة تاريخية بصور وتسجيلات أرشيفية، وبالنسبة للأزمنة الحديثة يعتمد على نفسه في تسجيل أكبر قدر من الخامات التصويرية، ويرافق طيلة زمنه أشخاصا يلعبون أدوارا مهمة في الحياة السياسية التايوانية.

ينطلق مسار الفيلم من اللحظة التي بدأ فيها آلاف من قادة الدراجات النارية بالتجمع في ليلة 11 يناير/ كانون الثاني عام 2020، وذلك لمشاهدة شاشة كبيرة نصبت في إحدى الساحات تعرض مراسيم الاحتفال بإعلان فوز “تساي إينغ  وين” بالانتخابات الرئاسية، والتعبير عن تأييدهم لمشروعها السياسي المتضمن بند “استقلال تايوان”.

يخفي المشهد الطافح بالفرح وبنشوة الانتصار مخاوف وأسئلة عدة، من بينها إلى متى سيصمد التيار الديمقراطي في وجه الصين؟ وهل ستتغير مواقف الدول والمنظمات الدولية من تايوان وتعترف رسميا بها كدولة مستقلة؟

الناشط السياسي “تسي وي لين” الخائف على الوجود التايواني من المد الصيني في حوار مع جده عن الموضوع ذاته

 

صراع الأجيال.. تايوان بين صينية الأجداد وثورية الأحفاد

في كلمتها أحالت الرئيسة المنتخبة الفضل الكبير بفوزها إلى الجيل الجديد من الشباب، جيل “شبكات التواصل الاجتماعي” الذي منحها صوته، وعمل على تنوير المجتمع بالحقائق، وعرقل الدعاية الصينية ضدها وضد الديمقراطية.

من بين هذا الجيل يتعرف الوثائقي على شاب يُدعى “تسي وي لين”، وقد وقع الاختيار عليه ليكون من المشاركين فيه، لأنه من بين أكثر الناشطين السياسيين خوفا على الوجود التايواني من المد الصيني، ومن بين نخبة “المتسللين الإلكترونيين” الذين يعملون على ترسيخ التجربة الديمقراطية، وذلك من خلال كشف الحقائق وعدم السكوت على أخطاء الحكومة، أو التغاضي عن تجاوزات مسؤوليها. فهو واحد من جيل يعتبر الديمقراطية هي هويته الشخصية في ظل التوزع الكبير في مواقف الأجيال المختلفة من انتمائها الوطني.

يذكّر “تسي وي لين” الشباب بمواقف والده وجده من الصين، وإحساسهم القوي بالانتماء لثقافتها، أكثر من ارتباطهم بالثقافة الديمقراطية التايوانية الجديدة، فذلك التأرجح في الانتماء يخلق وضعا اجتماعيا وسياسيا هشا يخيف الناشط، ويدعوه لتقديم المزيد من البراهين على ديكتاتورية الصين، والخوف من نقلها إلى بلده.

مبرمجون ومتسللون إلكترونيون تايوانيون يراقبون الدعاية الصينية

 

“حراك المواطنين”.. مبرمجون ومتسللون في مواجهة التنين

ينقل “تسي وي لين” تجربته في الصين حين زار صديقا له هناك، وبعد الحديث معه هاتفيا عن مظاهرات ساحة تيانانمن التي باتت تعرف بـ”مجازر 4 يونيو/ حزيران”؛ تبين له أن الاتصال كان مراقبا، وأن كل ما يكتبه يجري تدقيقه من قبل السلطات الأمنية الصينية.

يسجل خلال زيارته لموطن أجداده تفاصيل الحياة فيها، وكيف تتدخل السلطات في أدق تفاصيلها، حيث تنعدم فيها الحريات الشخصية، ويراقب كل من له رأي مغاير لسياسة الحزب الشيوعي الصيني.

تلك الممارسات لا يريد الناشط أن تنقلها الصين إلى بلده تايوان، لهذا قرر الانضمام إلى جماعة “حراك المواطنين” المتشكلة من مبرمجين ومتسللين إلكترونيين تايوانيين، وضعوا نصب أعينهم مراقبة الدعاية الصينية، وفي الوقت نفسه العمل على كشف تحركات السياسيين المؤيدين لها والمنفذين لتوجهاتها.

الحركة الشعبية الشبابية “زهرة عباد الشمس” التي يغني ناشطوها أغنية “النهار يشرق فوق الجزيرة”

 

“النهار يشرق فوق الجزيرة”.. أهازيج الناشطين

يراجع الوثائقي بالوثائق والتسجيلات المظاهرات الحاشدة التي خرجت عام 2014، وتجمعت أمام البرلمان احتجاجا ومنعا للتصويت على إقرار معاهدة تجارية بين تايوان والصين، لكونها تمكن الصين من السيطرة الكاملة على الاقتصاد التايواني.

وقد أثمرت التظاهرات التي طالت أسابيع ظهور حركة “زهرة عباد الشمس” الشبابية التي سرعان ما أصبحت حركة ذات شعبية، ويراجع الوثائقي انبثاقها من خلال مجموعة ناشطة فيها، بينهم مغنٍ مشهور غدت أغنيته “النهار يشرق فوق الجزيرة” نشيدا للمتظاهرين والناشطين.

مرافقة المطرب “سام يانغ” مع أفراد فرقته في شوارع العاصمة تكشف عن عمق شعبية الحركة والتفاف الناس حولها، يجمع بينهم الخوف من عودة الدكتاتورية، ويجدون التذكير بأيامها ترسيخا للديمقراطية، وزعزعة لفكرة “الصين الواحدة” التي تربى عليها جيل سابق من التايوانيين، وأيضا إنهاء للارتباك التاريخي الذي تعيشه الجزيرة.

لقطة أرشيفية من الحرب الأهلية التي نشبت عام 1949، وانتصر فيها الشيوعيون

 

“تشيانغ كاي شيك”.. دكتاتورية الزعيم الهارب إلى تايوان

الارتباك التاريخي مبعثه الزعيم “تشيانغ كاي شيك” الذي جمع بقبضة من حديد الصين وتايوان معا، وبدعم قوي من الحزب القومي “كومنتانغ”، لكن الحرب الأهلية التي نشبت عام 1949 أفقدته السيطرة على الصين، وجاءت بالزعيم الشيوعي الجديد “ماو تسي تونغ”.

بعد انتصار الشيوعيين وإعلانهم “جمهورية الصين الشعبية” بدلا من “جمهورية الصين” القديمة؛ لم يجد الزعيم المهزوم أمامه حلّا إلا الهروب منهم إلى تايوان، وقد تبعه مليونان من مؤيديه، وخلال فترة حكمه للجزيرة رسّخ الزعيم المهزوم حكما ديكتاتوريا استمر طويلا.

يقابل الوثائقي عددا من ضحايا الدكتاتورية الذين قضوا سنوات من أعمارهم في سجونه، وبعد ترسيخ أسس النظام الديمقراطي الجديد أواسط التسعينيات؛ عادوا لنشاطهم السياسي واضعين نصب أعينهم الكفاح دون هوادة، وذلك من أجل منع البلاد من العودة إلى النظام القمعي مرة أخرى.

 

سوق تايوان الرخيص.. ازدهار اقتصادي يرسخ فكرة الديمقراطية

أحدث وجود الحركة القومية القادمة من الصين، مع الأعداد الكبيرة من مؤيديها إلى انشقاق بينهم وبين الأجيال الجديدة التي نشأت على مفاهيم مختلفة، وعاشت فترة من الازدهار الاقتصادي بفضل تحويل الرأسمالية الغربية منذ ستينيات القرن المنصرم هذا البلد إلى سوق ومصنع رخيض لها.

يعود الوثائقي إلى تسجيلات تُظهر حجم الاستغلال البشع للأيدي العاملة الرخيصة، ومع ذلك فإن وفرة فرص العمل وازدهار الاقتصاد جعلتا تايوان واحدة من “النمور الآسيوية الأربعة”.

لقد تسربت القيم الرأسمالية إليها وتأثر الناس بأنماط العيش الغربي، وترسخت خلالها فكرة قوية تربط بين الرفاهية والديمقراطية، وهذا نفسه مبعث قلق جديد يحاول الوثائقي فهمه من خلال مرافقته لشاب ناشط في “حركة زهرة عباد الشمس” وهو يزور عائلته في جنوب تايوان.

في بيت والده يسجل الوثائقي النقاشات الجارية بين الابن ووالده المؤيد لفكرة تخفيف الصراع مع الصين وتمتين العلاقة معها، خاصة وأنها تشهد تطورا اقتصاديا هائلا، يُمَكنها من توفير الرفاهية للمجتمع، وعندها لن توجد حاجة لوجود “ديمقراطية غربية”.

يترجم الشاب كلام والده بعبارة “إنه يقبل التضحية بجزء من حريته مقابل اقتصاد صيني جيد”، أما الجانب الآخر من النقاش فيعود إلى الحنين المتجذر عند الأجيال التي هربت من الصين، وعيشها على حلم  العودة يوما إليها.

حركة “واتش آوت” الإلكترونية الشبابية التي أخذت على عاتقها شن هجوم دفاعي مضاد يعتمد على مصارحة الناس بالحقائق

 

بقعة صغيرة من الوطن الأم.. تايوان بعيون الصين

تعبير والد الشاب يتضمن جزءا كبيرا من رؤية الصين للوجود التايواني، والآلية التي يمكن إخضاعها بالكامل لها من خلال نفوذ اقتصادي وعمل سياسي ودعائي كلفت آخرين مؤيدين لها في الداخل بتنفيذه.

هذا ما يدركه نشطاء “حركة زهرة عباد الشمس”، ويفهمون السر وراء عدم مناقشة الصين بوضوح رؤيتها معهم، بدلا من ضغطها على السياسيين وأصحاب رؤوس الأموال، وذلك لإصدار قوانين تحقق لهم ما يريدون، من دون اعتراف بوجود “تايوان” مستقلة، لأنها لا ترى فيها إلا بقعة صغيرة من الوطن الأم.

للحد من النفوذ الصيني يتبنى وزير “الحكومة الإلكترونية” التايواني مشروعا جديدا يدعو فيه إلى إنشاء “حكومة الشفافية”، ويعني بها عرض كل ما يقوم به مسؤوليها على الشعب للاطلاع عليه، وأن لا تتخذ قرارا ما إلا بعد إشباعه نقاشا مع الناس. هذا ما يعمل عليه مشروعه الذي يجد قبولا كبيرا بين التايوانيين.

“واتش آوت”.. لاعب تايوان في الحرب السيبرانية

في مقابل أنشطة الشباب التايواني تنشط الصين في حربها الإلكترونية، فمقابلة رئيس اللجنة الأمنية الإلكترونية في تايوان تكشف عن حجم “الحرب السيبرانية” التي تشنها الصين، وتنشر من خلالها أفكارا مُضللة، وتُسرّب معلومات كاذبة عن المجتمع والحياة في تايوان.

هذه الحرب سرّعت في ظهور حركة “واتش آوت” الإلكترونية الشبابية الجديدة التي أخذت على عاتقها شن هجوم دفاعي مضاد يعتمد على مصارحة الناس بالحقائق، ونشر كل ما يحصلون عليه من معلومات أكيدة على الجمهور من خلال الإنترنت، وبقية وسائل التواصل الاجتماعي لتوعية الناس بالأكاذيب الصينية.

الجموع تهتف “نحن تايوانيون” بعد أن خسرت تايوان فرصة تاريخية لنيل حريتها عن الصين

 

“نحن تايوانيون”.. بلد يصرخ في وجه عالم يرفض الاعتراف به

وسط هذا الصراع الناشب منذ عقود، يبرز السؤال الإشكالي التالي: لماذا لا تعترف الأمم المتحدة بتايوان دولة مستقلة؟

يرجع الوثائقي إلى الوثائق التاريخية بحثا عن جواب هذا التساؤل، ليجد أن تاريخ تايوان الحديث قد كبّلها ومنع من اعتراف العالم بها دولة مستقلة، باستثناء دول قليلة.

لقد أدى التنافس بين الزعمين “تشيانغ” و”ماو تسونغ” على السلطة في الصين إلى الوضع القانوني الملتبس الذي تعيشه تايوان اليوم، ففي الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول عام 1971، طرحت الأمم المتحدة مشروع التصويت على قرار إقامة دولتين منفصلتين، لكن الصين الشعبية رفضت فكرة التقسيم. القرار جاء في صالحها، ولم يتباكَ عليه القوميون من أنصار الزعيم الهارب إلى تايوان، لأن وجود الصين من دون تقسيم يبقي آمال عودتهم ثانية إلى السلطة القوية.

هكذا خسرت تايوان فرصة تاريخية نادرة لنيل حريتها، وظلّت علاقتها بالعالم مرتبكة، وهذا ما يحاول الجيل الجديد التخلص منه بإعلانه بصوت عالٍ خلال الاحتفال بانتصار ممثلة التيار الديمقراطي في الانتخابات الأخيرة قائلا: “نحن تايوانيون”.