“ذيل الحصان الإلهي”.. أقدار خفية تفتك بأسطورة كرة القدم الإيطالية

د. أحمد القاسمي

قلة هم اللاعبون العباقرة الذين يجعلون كرة القدم ضربا من الإبداع والسحر، واللاعب الإيطالي “روبرتو باجيو” الشهير بجدائل ذيل الحصان هو أحد هؤلاء، لكن أين جدائله من جدائل شمشون الجبار التي تجعله بطلا خارقا لا يُهزم؟

ففي سيرته الرياضية جرح عميق يقضّ مضجعه ويفسد عليه مجده، ذلك ما تعمل المخرجة الإيطالية “ليتيتزيا لامارتيري” على إبرازه وهي تحمل الكاميرا لتنجز فيلم “ذيل الحصان الإلهي” (The Divine Ponytail) الذي أنتج عام 2021.

 

صفوف النخبة.. عقبات قاسية في رحلة المجد الرياضي

لم يكن نجاح “روبرتو باجيو” بالأمر الهيّن، فقد ارتبطت كل مرحلة من مسيرته الرياضية بصعوبات جمّة، وأول هذه العراقيل كانت إصابة قاسية كادت أن تدمر مستقبله الرياضي، فقد علا كعبه وهو بعد في فريق فيتشنزا المغمور، وانتبهت إليه الفرق الكبيرة، لكن حالما أمضى عقده الاحترافي الأول مع فريق فيرونتينا الناشط في صفوف النخبة؛ أصبب إصابة بليغة اعتقد معها أن مساره الكروي انتهى قبل أن يبدأ، فعاش أزمة روحية عميقة جعلته يبحث عن خلاصه في الديانة البوذية، رغم أنه منحدر من عائلة مسيحية كاثوليكية.

ورغم أنّ المرحلة الثانية ستقوده إلى قمة المجد، فقد انتهت بمأساة ألقت بظلالها الثقيلة على حياته لاحقا، فقد عاد إلى فريق فيرونتينا، ثم استدعي إلى المنتخب، وأوشك الوعد الذي قطعه لوالده وهو صغير أن يتحقّق، وهو أن ينتقم لإيطاليا من البرازيل التي هزمتها بنتيجة ثقيلة استقرت على أربعة أهداف لواحد في نهائي كأس العالم 1970 بالسويد.

فها هو الطفل الصغير الذي أخبر والده ببراءة أنه سيهزم البرازيل يوما ويعود إلى روما بالكأس، يصبح بالفعل لاعب كرة قدم دوليا، يبلى البلاء الحسن ويقود المنتخب إلى نهائي كأس العالم 1994 في الولايات المتحدة الأمريكية ضد البرازيل.

 

كأس العالم.. تبخر أحلام الثأر لروما من البرازيل

تبدو مواجهة البرازيل مصادفة مذهلة لا نكاد نرى لها مثيلا إلا في الخرافات، فلم يكن أحد يعلم وقتها أن قدرا خفيا كان يرفع “باجيو” إلى الأعلى لتكون وقعته أشد، فقد انتهت المقابلة النهائية إلى التعادل، وعُهد إلى “باجيو” بتسديد ركلة الترجيح الحاسمة، وإذا بالكرة تذهب عالية جدا لتتبخر معها أحلام الثأر، فكان الخطأ الجسيم الذي سيظل يدفع ضريبته على مدار مسيرته.

وتكون المرحلة الثالثة قاصمة، فقد كان يُمني النفس بمشاركة رائعة في نهائيات كأس العالم 2002 التي نظّمتها اليابان، علّها تضمّد الجراح القديمة. وعند انطلاق الموسم الرياضي تكون بدايته مذهلة مع بريشيا، فريقه الجديد الذي يصارع من أجل البقاء في دوري الدرجة الأولى.

لكنه حين يصل إلى قمة العطاء يُصاب بتمزق الرباط الصليبي الأمامي في ركبته اليسرى، ثم بإصابة ثانية بعد أن يتعافى من الأولى، ومع ذلك يعود ثالثة لينقذ الفريق من الهبوط في الجولة الأخيرة، لكن الناخب الوطني “جيوفاني تراباتوني” يتخلى عنه، رغم اعتقاد مختلف النُقّاد الرياضيين بجدارته بقيادة الفريق في طوكيو.

200 غرزة في الرباط الصليبي في القدم اليسرى للاعب الإيطالي “روبرتو باجيو”، حيث اعتبر حينها أن مسيرته الكروية قد انتهت

 

قطع الرباط الصليبي.. هدف حياة على وشك الانهيار

يجد السيناريو في نهائيي كأس العالم اللذين جمعا بين إيطاليا والبرازيل سنتي 1970 و1994 خيطا ناظما يشد مختلف الأحداث، ويؤثر عميقا في البناء النفسي لشخصية “باجيو”، فيجعل الأول مناسبة يعد فيها الصبي والده بالثأر.

لوعده هذا تتحول كرة القدم من لعبة تستهوي الصبي إلى مبرّر وجود وهدف حياة يقاتل من أجله، وغاية تجري إليها كل تصرفاته، لذلك يتمنى الموت عندما أصيب بقطع في الرباط الصليبي، ويعتبر أن مسيرته الكروية قد انتهت وهو ينتقل حديثا إلى دوري الدرجة الأولى.

ثم يعلمنا الفيلم لاحقا أن الأب اختلق حكاية الوعد وغرسها في ذهن ابنه ليوجد له حافزا ذاتيا للتألق، وتفهم أن الفيلم اصطنع الحدث برمته ليخلق مؤثرات درامية تشدّ المتفرّج، وتجعله يتعاطف مع اللاعب، وينتهي النهائي الثاني بالجرح النفسي العميق الذي عرضنا سابقا، وسيكون له الأثر الكبير على شخصيته، فيقضي بقية مسيرته الرياضية محبطا ومنكسرا، معتقدا أنه عجز عن الإيفاء بوعده لوالده.

علاقة متشنجة بين اللاعب “روبرتو باجيو” والمدرب الوطني الشهير “إريكو ساكي”

 

تحفيز الأب البارد.. بحث عن صورة المدرب الحاضن

لبناء شخصية اللاعب الفيلمية خيط ناظم ثان كثيرا ما يتقاطع مع الخط الأول المتمثل في نهائيي كأس العالم، ويتمثل هذا الخيط في العلاقة القُلّب مع الأب، فقد كان له أسلوب غريب في تحفيز ابنه قوامه التجاهل واللامبالاة، وهذا ما جعل الفتى في رحلة بحث دائم عن الاعتراف بتميّزه.

ينتظر جلوسه إلى طاولة الأكل مثلا ليزفّ له خبر إمضائه عقد الاحتراف مع جمعية فيرونتينا، فيتحوّل الغذاء إلى وليمة احتفال تلقائية، فإذا به يتعاطى مع الخبر ببرود، مذكرا إياه أن هذا العقد لن يكسبه مكانة خاصة في قلبه مقارنة ببقية إخوته السبعة.

ستتسبب هذا العلاقة في تعامل صعب مع مدربيه، فقد كان يبحث عندهم عن صورة الأب الحاضن، ثم سريعا ما يحوّل العلاقة إلى رغبة في قتلهم رمزيا، وكذلك كانت علاقته مع “إريكو ساكي” و”جيوفاني تراباتوني” وغيرهما.

وهذا ما انتبهت إليه صحيفة “الجريدة” التي تصدر بميلانو، فتذكر أن عمل المخرجة “ليتيتزيا لامارتيري” ليس فيلما رياضيا صرفا “فأكثر من كونه يعرض ثورة بطل يبدو فيلم ذيل الحصان الإلهي أشبه بحصة علاج نفسي، مدارها على علاقة مؤلمة بين صبي منغلق على نفسه ووالده الصارم غير القادر على تشجيع ابنه”.

ركلة الترجيح التي فوتت على إيطاليا الثأر من البرازيل والفوز بكأس العالم من قبل اللاعب “روبرتو باجيو”

 

ركلة فوتت الثأر.. لمسة الخطأ التراجيدي في الفيلم الروائي

لماذا يلجأ صانع الأفلام إلى الشكل الروائي للحديث عن اللاعب “روبرتو باجيو”؟ هل يريد رسم بورتريه خاص به وتقديم حزمة من المعلومات ذات الصلة بحياته؟ ألم يكن النمط الوثائقي أنسب، خاصة أن المادة الأرشيفية غزيرة، وأن زوايا تقديم شخصيته متعددة، وأن اللاعب على قيد الحياة ويمكن أن يعمّق الحديث في عدة محاور.

لقد كان من اليسير على المخرجة أن تقدّم المادة من منطلق معالجة جمالية مُعينة، وتضمنها لوجهة نظرها حول مسيرة اللاعب، لكن يبدو أنها تتطلع إلى أكثر من عرض سيرة اللاعب، فقد اختارت النمط الروائي بحثا عن مؤثرات درامية، وتحقيقا لوظائف تربوية، ويبدو أنها وجدت في حياة “روبرتو باجيو” قصة مؤثرة تلهم أحباء كرة القدم، وتصرفهم إلى القيم الأصيلة أكثر مما تعرض وقائع مثيرة عن حياة لاعب كرة قدم، فجعلت سبيلها إلى هدفها هذا تنزيل الحكاية ضمن خلفية تراجيدية.

من شروط تحقق التراجيديا فنيا وجود الخطأ التراجيدي، وركلة الترجيح التي فوتت على إيطاليا الثأر من البرازيل والفوز بكأس العالم هي مثال جيّد لذلك، فجعلتها محور الفيلم بأسره. ولا يرتكب هذا الخطأ في التراجيديات الإغريقية بقصد وتدبير، وإنما عن جهل وسوء تقدير، وعنه تنقلب حياة البطل من اتجاه إلى نقيضه، فيتحوّل “باجيو” من السعادة إلى الشقاء.

وكما تحمّلت مدينة طيبة بأسرها وطأة خطأ أوديب الملك، فإن روما تحملت وزر خطأ اللاعب، فعاش الإيطاليون إحساس القهر للمرة الثانية. وكما يتحدى الأبطال التراجيديون القوى الغيبية، تخلى “باجيو” عن ديانته المسيحية، وعوّل على البوذية لتمنحه قدرا جديدا.

وهل تمزح القوى الغيبية مع من يتحداها؟ فقد جعلته يضيع ركلة الترجيح سنة 1994 بتسديدة بيسراه، ويضيع فرصة المشاركة في الكأس العالمية 2002 باليابان للسبب نفسه الذي يجعله يترك ديانته الأصلية، فالإصابة بركبته اليسرى.

ضمن هذا الأفق فقط نفهم عنوان الفيلم “ذيل الحصان الإلهي”، فالمخرجة تربط كنية “باجيو” ذات الصلة بتسريحة شعره بالصراع ضد القدر، وتشحنها بدلالة تراجيدية. وليست التراجيديا ترفا فنيّا بقدر ما هي سبيل لتضمين الأثر دلالات عميقة مرتبطة بالتحدي والإصرار، فالبطل في التراجيديات العظمى ينهزم عند مواجهة القوى الغيبية، لكن هزيمته المادية تمثل بشكل ما انتصارا معنويا، لأن الهدف الذي يموت من أجله يتحقق، فيصبح نموذجا للإصرار والتحدي في سبيل الارتقاء بالإنسان.

 

نقطة سوداء في مسيرة حافلة بالنجاح.. سيرة “باجيو” المنقوصة

لكن إلى أيّ حد وُفقت هذه التراجيديا السينمائية في عرض حياة أعظم لاعبي إيطاليا لكرة القدم؟

يظل الفيلم بعيدا جدا عن انتظارات المستقبل، فمسيرة اللاعب الرياضية كانت ثرية جدا، فقد أحرز البطولة الإيطالية عامي 1995-1996، ونال كأس الاتحاد الأوروبي عام 1993، وكأس إيطاليا عام 1995. كما مثّل إيطاليا في 56 مباراة دولية، وسجّل 27 هدفا، وشارك في ثلاث نسخ لكأس العالم سجّل خلالها 9 أهداف، أغلبها كان حاسما. وحاز سنة 1993 على الكرة الذهبية، وجائزة أفضل لاعب كرة قدم.

وفي سنة 2002 -السنة التي جعلها الفيلم نكسة رياضية في مسيرة اللاعب- أُدرج في فريق الأحلام لكأس العالم، وبعد سنتين من هذا التاريخ أُدرج ضمن قائمة أفضل مئة لاعب في تاريخ كرة القدم. وفي أغسطس/آب 2010 عُيّن رئيسا للإدارة الفنية للاتحاد الإيطالي لكرة القدم.

ومقابل هذا السجل الرياضي الحافل بالإنجازات الكبرى كان الفيلم انتقائيا، فظلّ انتقائيا يتصيّد سقطات اللاعب ليصوغ منها تراجيديا مؤثرة، فجعل ثلثه تقريبا يتحدث عن إصاباته، واعتمد ممثلين تنقصهم الكاريزما لتجسيد شخصيات قوية، مثل شخصية المدرب الشهير “ساكي” أو شخصية “روبرتو باجيو” نفسه، وظل طيف ركلة الترجيح المهدورة ضد البرازيل في نهائي كأس العالم يُخيّم على الفيلم بأكمله.

 

صناعة الأبطال.. مجازفة القفز على البعد التسجيلي

لقد أرادت المخرجة أن تتجاوز البُعد التسجيلي لأفلام السيرة الذاتية، وأن تتخطى حرفية الواقع، فتحمّل سيرة “روبرتو باجيو” رؤيتها الخاصة لما يجب أن يكون عليه الإنسان، بأن يتسلّح بالقيم لقهر الصعوبات، وأن يمثّل نموذجا للجَلَد والصبر والتصميم.

فقد جعلته مثلا يرفض صرف راتبه حين كان مُصابا، وذلك بحجة أنه لا يتقاضى أجرا على عمل لم ينجزه، وجعلته يستجيب إيجابيا لاستفزاز والده حين كانا يترافقان في رحلة صيد البط، فقد واجه سُخرية والده من أسلوبه في الصيد بقنص ماهر لبطة تحلّق عاليا.

لكن أحلام المخرجة اصطدمت بأكثر من عائق، فالفيلم ظلّ يتحمل عواقب مُجازفة المخرجة الفنية، وظل في الوقت نفسه يتحمل عبء الزواج الصعب بين السينما وكرة القدم عامة، فكلاهما يقوم على المشهدية، وعلى خلاف الرياضات القتالية التي تمثل موضوعا جيّدا لأفلام الحركة، فإن السينما تفقد هويتها حالما تنجح في صُنع فرجة كروية، فينشغل المتفرّج باللعبة، ويُطمس البُعد السينمائي منها.

 

خطاب النخبة.. رؤية لا تروي عطش الجمهور الرياضي

لا يُعالج صنّاع السينما المحنكون مواضيعهم بشكل تلقائي متحرّر من كل تدبير مسبق، فالأسئلة ذات الصلة بالجمهور المستهدف، وبالرسالة الموجهة إليه، وبكيفية تبليغ هذه الرسالة؛ يجب أن تكون ماثلة في أذهانهم بجلاء، وعلى المخرج أن يوائم بينها حتى يمنح عمله الانسجام الداخلي المطلوب، لذلك لا تنجح الأفلام التي تفتقر إلى الرؤية الجمالية والفكرية الأصيلة.

ومعضلة الفيلم التي حرمته من القبول الجيد في الأوساط الرياضية أو السينمائية تكمن هنا، فموضوعه الذي يتعلق بسيرة لاعب يُعدّ من أفضل لاعبي إيطاليا على مر التاريخ سينتخب جمهوره الخاص تلقائيا، أولئك المتفرّجون الباحثون عن أفضل المراوغات وأجمل الأهداف، والفرحة التي تغمر الجميع بعد أهم الإنجازات.

وأنى لهم أن يجدوا ذلك والمخرجة توجّه الأحداث نحو كل ما هو مأساوي، وتضمّن عملها رسائل حول القيم والوجود تناسب النخبة لا الجمهور الواسع، فقد انتهت إلى صناعة دراما حزينة لمسيرة ملحمية أساسها الصراع الجسدي الذي يكون مداره على قيم الشجاعة، ويُخاض في أوساط غير مُتناهية العظمة بين أبطال يتّسمون بالمهارة الخارقة.

رافق الفيلم جدل كثير، ولم يلق الترحيب لدى جمهور كرة القدم على حدّ سواء، فقد حرصت المخرجة على تجسيد اللاعب الاستثنائي الذي يواجه قدرا استثنائيا، لكن هل النيات وحدها كفيلة بأن تصنع الأعمال الجيدة؟

لقد افتقر الفيلم إلى أصالة الرؤية الجمالية، وخلق تنافرا أول بين المعالجة الفنية التي تستدعي مقومات التراجيديا، والموضوع الذي ينزع إلى الملحمة تنافرا ثانيا؛ وبين طموحات المخرجة الفنية وتطلعات الجمهور، كما كشف أن المخرجة قد كانت تأخذ مسألة كرة القدم بجدّ أكبر مما تحتمله هذه اللعبة.