“ربيعة تقاضي بوش”.. كفاح أمٍّ تركية لتبرئة ابنها المعتقل بغوانتانامو

أمير العمري

“ربيعة قورناظ” سيدة تركية مسلمة تقيم في ألمانيا، وهي ربّة بيت عادية مُحبة للناس والحياة، لا لها ولا عليها، إلا أنها تجد نفسها ذات يوم في خضمّ معركة من نوع فريد مع البيت الأبيض في واشنطن، وذلك بعد اعتقال ابنها الأكبر بتهمة الضلوع في الإرهاب، ليُسل إلى معتقل غوانتانامو سيئ الصيت.

هذا هو موضوع الفيلم الألماني “ربيعة قورناظ ضد جورج بوش” (Rabiye Kurnaz vs. George W. Bush) الذي عُرض في مسابقة مهرجان برلين نهاية فبراير/شباط الماضي، وفازت بطلته الممثلة “ميلتم قبطان” عن جدارة بجائزة أفضل ممثلة.

 

يجمع الفيلم بين الكوميديا والدراما، ويمكن تصنيفه باعتباره من نوع الدراما التسجيلية (دوكيو دراما)، لكونه يروي تسلسل الأحداث المأخوذة عن قصة حقيقية وقعت فصولها بين ألمانيا وتركيا وأمريكا، وتتميز بطلته بقدرتها الكبيرة على الانتقال بين المواقف المختلفة من المأساة إلى الكوميديا الساخرة، لكن من دون افتعال، وذلك بفضل السيناريو الممتاز الذي كتبته “ليلى ستيلر” وأخرجه “أندرياس درسين”.

11 سبتمبر.. حين تنقلب حياة العائلة رأسا على عقب

ربيعة قورناظ سيدة تركية تعيش مع أسرتها في مدينة بريمن الألمانية، حيث يعمل زوجها في مصانع سيارات مرسيدس، بينما تقضي هي يومها في الأعمال المنزلية بين طهي الطعام وكيّ الملابس وتنظيف المنزل. لكن حياتها تنقلب رأسا على عقب بعد وقوع أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، فابنها الأكبر “مراد” الذي ظهرت عليه قبل فترة ملامح التدين والرغبة في تعلم اللغة العربية؛ ذهب إلى باكستان بغرض الانضمام لمدرسة من مدارس تحفيظ القرآن وتعلم العربية، وقد اعتقلته السلطات الباكستانية وقامت بتعذيبه، ثم سُلم للأمريكيين الذين نقلوه إلى معتقل غوانتانامو بتهمة الإرهاب.

تبدو ربيعة على يقين من براءته منذ البداية، وهي تقرر أن تبذل الغالي والنفيس من أجل تبرئة ساحته وإطلاق سراحه مهما كلفها الأمر، حتى لو تحدت المؤسسة الحاكمة في البلدان الثلاثة؛ ألمانيا حيث تقيم مع زوجها وأسرتها، وتركيا التي تنتمي إليها بحكم المولد، وأمريكا التي تمسك بمفاتيح ذلك المعتقل الرهيب.

 

في الواقع، استغرق كفاح ربيعة خمس سنوات كاملة، والفيلم يشير باستمرار إلى مرور الزمن على الشاشة بين حين وآخر بتذكيرنا بتعاقب الأيام (اليوم 57، اليوم 120..)، وتتدرج الأحداث في إيقاع سريع متدفق يكفل الانتقال بسلاسة بين المواقف والأماكن المختلفة.

ربيعة لديها أيضا ابنان أصغر من مراد، ومع اندماجها الكامل في قضية ابنها الأكبر مراد، يقل اهتمامها بهما تدريجيا، مما يوقعها في بعض المشاكل مع زوجها الذي يجد نفسه أيضا مستنزفا في العمل.

في مسجد بألمانيا.. النشأة الأولى لتوجهات مراد

يصور الفيلم من بعيد واقع الأقلية المسلمة التي تعيش ضمن صفوف الطبقة العاملة في مدينة بريمن الألمانية. لربيعة شقيقة تختلف عنها تماما من حيث حجم جسدها، فهي نحيفة على العكس من ربيعة، فهي تساند ربيعة وتقف معها دائما، لكن موضوع الفيلم الأساسي يظل باستمرار هو كفاح ربيعة نفسها من أجل استعادة ابنها.

تقتحم ربيعة مكتب محام ألماني متخصص في قضايا تتعلق بحقوق الإنسان هو “برنارد دوك” (وهو أيضا شخصية حقيقية)، وتنجح في إقناعه أن يتولى القضية، لكن القضية ليست سهلة، فالمتهم ليس في سجون ألمانيا، وليست هناك ملفات للقضية أو معلومات كافية يمكن أن يبدأ منها، لذلك سيتعين عليه أيضا أن يبدأ البحث بنفسه. ومن خلال اتصالاته بصديق له يعمل في جهاز المخابرات نعرف أن مراد كان متأثرا بالتعاليم المتشددة لإمام مسجد بريمن قبل رحيله عن ألمانيا، وأنه قال لصديقه إنه يريد الذهاب إلى أفغانستان للاشتراك في الحرب ضد الأمريكيين، إلا أنه لم يشترك عمليا في القتال، بل ولم ينتقل من باكستان إلى أفغانستان أصلا، على العكس مما يزعمه الأمريكيون.

 

يهتم الفيلم كثيرا بإبراز دور وسائل الاتصال الحديثة مثل الإنترنت والهاتف الذكي والتواصل عبر الكاميرات على أجهزة الحاسوب، لكننا لا نرى الكثير من مراد الابن، بل مجرد لقطات تظهره في أفلام منزلية قبل أن يطلق لحيته ويرتدي الثوب، أي قبل رحيله إلى باكستان الذي فوجئت به أمه.

تصل ربيعة في إصرارها إلى حد الذهاب لتركيا، واقتحام مكتب وزارة الخارجية التركية في مشهد مضحك، حيث تُصرّ على مطالبة الوزير بضرورة التدخل لأن مراد لا يزال مواطنا تركيا لا يحمل الجنسية الألمانية. لذلك نعرف فيما بعد أن الأمريكيين اكتشفوا براءة مراد، وأرادوا إعادته إلى ألمانيا، لكن رفض طلب عودته جاء من طرف السلطات الألمانية بدعوى وجوده خارج البلاد لأكثر من ستة أشهر، وذلك خلافا لما تنص عليه قواعد الإقامة.

في واشنطن.. حملة للمطالبة بالمحاكمة أو الحرية

سيقتضي الأمر أن تذهب ربيعة مع المحامي الألماني “دوك” إلى واشنطن، وذلك لتدشين حملة دبلوماسية يتصدرها فنان أمريكي شهير هو “تيم وليامز”، ويشارك فيها آباء عدد كبير من المعتقلين في غوانتانامو لمطالبة السلطات الأمريكية بضمان محاكمة عادلة لهم على الأراضي الأمريكية، أو إطلاق سراحهم.

وتَنتج الكوميديا من التناقض الشكلي بين ربيعة والمحامي “دوك”، فربيعة بدينة للغاية لا تكف عن تناول الحلوى التركية والطعام الشهي الذي تصر على أن يتذوقه “دوك”، أما هو فإنه نحيف كعصفور، لذلك يبدو دوك دائما وكأنه أصبح خاضعا لها، وأصبحت مهمته أن يُهدّئ من روعها، ويشرح لها ما لا تفهمه من أمور السياسة الدولية.

استقبال حافل لربيعة رفقة المحامي الألماني دوك في حفل أقيم في واشنطن لدعم قضية أسرى غوانتانامو

 

في واشنطن يصبح التناقض أكثر وضوحا وتتفجر الكوميديا، فخلافا للمحامي الذي يجيد الإنجليزية، يتسبب جهل ربيعة بالإنجليزية بكثير من المواقف الطريفة، كما أنها تفشل في التعرف على بعض المشاهير المشاركين في المسيرة الرمزية التي تتجه نحو البيت الأبيض.

الأمر يصل -كما هو متوقع بالطبع- إلى قضية ترفعها ربيعة وأهالي السجناء ضد الحكومة الأمريكية، حيث تصل إلى المحكمة العليا التي تقضي فيها لصالح ربيعة. ومن هنا يأتي العنوان الطريف للفيلم “ربيعة ضد جورج بوش”، أو بالأحرى “ربيعة تقاضي جورج بوش”.

ثُنائيات.. تقابل العلاقة بين ثنائيات متنافرة

يلمس الفيلم علاقة ربيعة بزوجها الذي يهديها سيارة مرسيدس فخمة حصل عليها من الشركة مكافأة له على قضاء 25 عاما في خدمة الشركة، ونرى كيف تقود هي السيارة بسرعة شديدة، ولا تعير الإشارات الحمراء التفاتا، وتكاد تنتهي بكارثة بسبب رعونتها ورغبتها في إثبات أنها تعرف كيف تتحكم في مسار الأمور أكثر من زوجها.

كما يلمس الفيلم موضوع الزواج المُرتّب الذي يتم ترتيبه بين الأهل، فعندما تزور ربيعة في أنقرة “فاطمة” خطيبة مراد، والتي كان من المقرر أن يتزوجها من دون معرفة حقيقية بينهما، فإن فاطمة تقرر إنهاء الخطبة بعد أن تيأس من احتمال عودته، على العكس من ربيعة المليئة بالتفاؤل دائما.

يقول الفيلم بوضوح إن المرأة -وخصوصا الأم- هي الأكثر حساسية من الرجل، فالأب في الفيلم أيضا يبدو سلبيا فيما يتعلق بموضوع مراد. ومع تطور العلاقة بين ربيعة والمحامي الألماني “دوك” يصبح دوك بمثابة الأب البديل، أو حتى “الزوج” البديل، فبعد تطور علاقته مع ربيعة التي أصبح يلازمها باستمرار، تدعوه إلى الغداء في المنزل، وتُلِحّ عليه أن يتذوق الحلوى التي تصنعها لنفسها.

ربيعة تجلس بجوار زوجها في سيارة المرسيدس الجديدة التي أهداها إياها، حيث تبدو مليئة بالتفاؤل رغم الأزمة

 

تُصبح العلاقة بين ربيعة ودوك علاقة تفاهم وفهم مشترك، بل ونوع من الاستلطاف أيضا، لكن دون تجاوز حدود العلاقة الإنسانية أو المهنية. والمقصود هنا أن الألمان ليسوا جميعا سلبيين، فبينما تتخذ السلطات الألمانية موقفا سلبيا من عودة مراد، هناك من هم من أمثال دوك الذين يهتمون حقا بحقوق الآخرين من أبناء الأقليات المهاجرة الذين يعيشون بينهم، فقد آثر دوك المضي قُدما في تبني قضية مراد رغم غضب صديقه الذي فقد اثنين من أبنائه في تفجيرات برج التجارة العالمي في نيويورك.

في الصميم.. انتقاد منظومة العدالة الدولية

صحيح أن الموضوع السياسي في الفيلم يكاد يكون هامشيا، وأن الفيلم أساسا عن ربيعة وقوة شكيمتها، وكيف أنها لم تفقد قط التفاؤل وروح المرح التي تتمتع بها خلال سعيها المضني عبر سنوات لاستعادة ابنها، إلا أن الفيلم يتصدى أيضا بكل شجاعة لنقد نظام العدالة الأمريكية وأجهزة المخابرات الألمانية التي كانت تعرف الحقيقة، لكنها فضّلت الصمت.

على يمين الصورة مخرج الفيلم أندرياس دريسين  إلى جانب ميلتم قبطان التي قامت بدور ربيعة وألسكندر شير بدور المحامي

 

لا شك في أن الممثلة “ميلتم قبطان” التي قامت بدور ربيعة (وهي مذيعة لها أيضا برنامج تليفزيوني في ألمانيا) تحملت العبء الأكبر في الفيلم، ونجحت بانطلاقها المدهش وخروجها من قوقعة الخضوع كربّة بيت تقليدية، حتى الذهاب إلى البيت الأبيض، وذلك في تجسيد الشخصية الأصلية، لكن من خلال الكوميديا التي لا تخلو بالطبع من بعض المبالغات والكاريكاتورية في الأداء.

كما استطاعت ميلتم الاحتفاظ دائما بالقدرة على توليد الضحك من بين ثنايا المواقف البسيطة المختلفة، وذلك من خلال أدائها التلقائي البسيط، وأضفت على الفيلم كل الحرارة، ونجحت في تقريب قضية ربما تكون قديمة ومعروفة لدى الرأي العام في الغرب، لكن من خلال نظرة سينمائية جديدة، وهذه هي قوة السينما.