“عالم صغير”.. معاق يخرج من بيته في برشلونة ليجوب العالم

 

قيس قاسم

مرورا بسوريا والأردن ودول أخرى سيقطع الشاب الإسباني المُعاق وهو قاعد على كرسيه المتحرك رحلته من برشلونة إلى الجهة الثانية من الكرة الأرضية، وصولا إلى نيوزيلندا في تجربة إنسانية هي أبعد ما تكون عن المغامرة بمعناها العام، وأقرب إلى البحث عن السعادة عبر الانتقال الجغرافي الدائم ومعاشرة البشر دون خوف، في انسجام تام مع دواخله البريئة وحماسته لتذوق طعم الأشياء التي يحبها دون عوائق مثل المال أو القصور الجسدي.

 

بكرسيه المتحرك وإرادته القوية ودعم عائلته قرر الشاب “ألبرت” أن يجوب قارات العالم، دون أن يحمل معه المال، معتمدا على إنسانية البشر في أرجاء الكوكب.

“البشر الطيبون موجودون في كل مكان من كوكبنا”

لقد اكتشف الشاب “ألبرت كاسالز” ذاته متحققة عبر رحلاته إلى جهات الأرض كلها، وقرر المضي فيها على كرسيه المتحرك دون مال، معتمدا على فكرة بسيطة تقول: البشر الطيبون موجودون في كل مكان من كوكبنا، وهم لا يترددون في تقديم المساعدة لمن يحتاجها.

ستثبت تجربة الشاب الإسباني الغنية -رغم صغر سنه- حقيقة هذه الفرضية الإنسانية، وسيلتقطها المخرج “مارسيل بارينا” ليشتغل عليها وينجز وثائقيا مذهلا، خاماته الأساسية وفرها أبطاله حين تولوا مهمة تصوير أنفسهم بأنفسهم بكاميرة محمولة باليد اهتزت دون توقف وسجلت تفاصيل الرحلة أو المغامرة الإنسانية المدهشة التي قلما نشاهد مثلها على الشاشات الكبيرة.

رحلات إلى دول من جميع القارات.. جولة الكوكب

لم تكن الرحلة التي يفكر بها “ألبرت كاسالز” الآن هي الأولى من نوعها، باستثناء أن حبيبته “آنا سوثياس” سترافقه فيها، فقد سافر “ألبرت” كثيرا قبلها لوحده منذ بلوغه سن الخامسة عشر، سافر إلى القارات كلها بنفس المبدأ؛ الخروج من المنزل، والمضي على الكرسي المتحرك بجيوب فارغة، والعودة إليه ثانية بسعادة غامرة وتجارب إنسانية تشجعه على المضي بها ثانية دون تردد.

ألبرت كاسالز ورفيقة رحلته آنا سوثياس

 

فقد زار دولا كثيرة، يذكر من كل قارة عددا منها، فمن آسيا مثلا دولة الإمارات العربية المتحدة واليابان، ومن أمريكا اللاتينية كولمبيا والإكوادور وبيرو، ومن أفريقيا موريتانيا والسنغال وغينيا، أما أوروبا القريبة فقد زار معظم دولها بصحبة والده حين كان طفلا وفي سنوات مراهقته.

منارة الشاطئ.. حلم الرحلة إلى الجانب المقابل

توقف الوثائقي “عالم صغير” عند عائلة “ألبرت”، ليرسم من خلال أحاديثها عنه وعن طفولته وتفاصيل مرضه، بشكل خاص، شخصيته المُتكوّنة، فذهب إلى أصدقائه وعائلة ورفيقة دربه “آنا”، ليسجل انطباعاتهم عنه، ويقدمها كخلفية للشاب الذي يمضي أمامنا في اندفاع محموم نحو هدف رحلته التي رسمها مع جدته.

لقد أخذ مجسم كرة أرضية وحفر فيها نفقا مستقيما متخيلا ممتدا من تحت أرضية بيته في برشلونة إلى الجهة الثانية من الأرض، فوصل إلى بيت صغير في نيوزيلندا يقع بالقرب من منارة شاطئ مرتفعة على ساحل الأطلسي، فقرر صعوده لينظر إلى الطرف الثاني من الساحل، إلى بيته، فالعالم بالنسبة إليه صغير، ويمكن أن يصل إلى أي نقطة فيه متى ما أراد.

إغماء في عيد الميلاد الخامس.. حياة اليتيم المعذب

عاش “ألبرت” حياة معذبة شكل المرض والألم أكثر محطاتها، فقد ماتت والدته بعد ولادته بأشهر قليلة، وحين 5 سنين سقط مغميا عليه في يوم ميلاده، وقد نقل بعدها إلى المستشفى ليبقى ممددا على السرير سنوات طويلة بعد اكتشاف الأطباء بأنه مصاب بأحد أنواع “اللوكيميا” التي تسبب عجزا في الأطراف.

بوستر فيلم “عالم الصغير”

 

أصبح “ألبرت” بعد خمس سنوات، شخصا معاقا عن الحركة في الجزء السفلي من جسده، لكن الإعاقة لم تحرمه من الحنان الذي غمره به والده وزوجته الجديدة التي عاملته كابنها مع حب فائض من جدته المعطاءة، وقد أظهر “ألبرت” بدوره حبا مضاعفا للحياة، وكأنه يعوض به عجزه الجسدي.

أحاديث العائلة.. متنفس المشاعر المتزاحمة أمام الكاميرا

أجمل ما في الفواصل الزمنية هو الأحاديث نفسها، صدقها وعفويتها، وكأن المتحدثين فيها لم يصدقوا أن أحدا سيتيح لهم فرصة وصف أدق مشاعرهم بحرية، فقد صرحوا بمخاوفهم وكاشفوا ذواتهم في صعوبة التعامل مع فرد من العائلة لا يشبه بقية الأفراد، فهو معاق، والخوف عليه مضاعف، والتشكيك بقدرات جسده على تلبية ما يريد دائمة ومتضخمة.

لكن ثمة واقعية نادرة تمتعوا بها حين بلغ ابنهم سن الرشد، لقد عاملوه كإنسان مستقل له حرية اختيار طريقة عيش حياته، مما سهل عليهم -مع كل المخاوف التي في دواخلهم- قبول فكرة سفره الدائم على كرسيه المتحرك.

معاق وخليلته وعدسة كاميرا.. تسجيل انطباعات الناس

إلى الجهة الثانية من الكرة الأرضية بدأ “ألبرت” طريقه بصحبة “آنا” التي تولت التصوير بنفسها، وأحيانا وحينما كانا يريدان تصوير أنفسهما سوية كانا يستعينان بالناس الذين يلتقون بهم في مواقف السيارات أو الفنادق والسواحل أو داخل عربات النقل المختلفة التي كانوا يستقلونها بأسلوب التوقف التلقائي على الدوام، ليقوم هؤلاء مثلهم بدور المصور السينمائي.

وفي كل محطة هناك قصة سريعة يسردها، وانطباعات عن الناس يسجلها، وكل من يلتقيه يسميه صديقا، ومن يرفض تقديم المساعدة لهما يجدان له مبررا، فهو يعلم بأن الناس يقدمون المساعدة في أغلب الأوقات، لكن الخوف من الغريب هو المانع الأكبر من تقديمها، خاصة لشخص من ذوي الاحتياجات الخاصة.

بيوت الأصدقاء.. منزل من تركيا والصين إلى حافة القارة الآسيوية

في تركيا استقبلته عوائل في بيوتها، وفي الشام تعرف على سوريين رحبوا به واستضافوه لأيام ونظموا له جولات في أسواق المدينة ومعالمها الشهيرة، وفي الأردن تحايل للتسلل مجانا إلى آثار مدينة البتراء برضى الحراس، أما إيران فقد رفضت سلطاتها السماح لهما بدخول أراضيها، فعادا إلى جورجيا التي وجدا فيها أصدقاء ساعدوهما للوصول إلى الصين، حيث أصر على صعود سورها العظيم، ليحقق رغبة طالما حلم بها.

في رحلة مجانية بمدينة البتراء الوردية- الأردن

 

وبمساعدة الناس جاء إلى تايلاند، ومنها إلى إندونيسيا، ليصل إلى حافة القارة الآسيوية ويدخل عالما مختلفا أقرب إلى عوالم الغرب من حيث نمط العيش، فقد وصلا إلى أستراليا بعد ركوبهما كل وسائل النقل مجانا، من قطارات وسيارات وسفن، وقطعا صحراءها ليقتربا من نهاية رحلتهما إلى نيوزيلندا حيث كان في انتظارهما المخرج وفريق عمله إلى جانب الصحفيين.

شروق على الجانب الآخر من الكوكب.. نهاية رحلة صعبة

وفي العاصمة لم يفوّت تجربة الهبوط بالمظلة من أعلى برج فيها، ليمضي بعدها إلى ذلك البيت المضاء قرب منارة الشاطئ العالية التي أصر ليلا على صعودها ليُصبح على مشهد شروق الشمس في الجهة الثانية من الكرة الأرضية.

تجربة الهبوط بالمظلة من أعلى برج بويلينغتون عاصمة نيوزيلاندا

 

لم تكن رحلتهما سهلة، فقد مرضا وتعبا كثيرا فيها وشعرا أحيانا بالإحباط، لدرجة أن “آنا” أرادت الاستسلام مرة والعودة، وهو نفسه ولأول مرة يتصل أيضا بأهله من الخارج، حين شعر باقترابه من الموت إثر نوبة اختناق داهمته في تايلند، ومع كل هذا وصلا وحققا مبتغاهما بتذوق طعم الإحساس بسعادة حقيقية تحصن عالمهم الصغير، وسط عالم كبير بدا خلال مرافقتنا لرحلتهم الطويلة أصغر مما هو عليه حقا وملتصق أكثر بصفته الإنسانية.