“رسامو الكاريكاتير”.. جنود الديمقراطية الممنوعون من المساس بالمقامات العليا

تعتمد فكرة فيلم “رسامو الكاريكاتير.. جنود الديمقراطية” (Caricaturists: the Foot Soldiers of Democracy) على تقديم صورة لما تتعرض له حرية الصحافة في 12 دولة حول العالم من انتهاكات وتضييق، وذلك من خلال ما يتعرض له 12 رساما للكاريكاتير السياسي الساخر في هذه البلدان.

قام بإنتاج الفيلم السينمائي الروماني “رادو ميهائيلينو”، وأخرجته الفرنسية “ستيفاني فالواتو”، وتتألف مادته من مقابلات مصورة مع رسامي الكاريكاتير الاثني عشر، وهم من تونس والجزائر والمكسيك وروسيا وأمريكا وفرنسا وإسرائيل وفلسطين وفنزويلا والصين وبوركينا فاسو وساحل العاج.

تظهر الشخصية الرئيسية في الفيلم في البداية وفي النهاية، ويعود إليها الفيلم كثيرا، وهي شخصية رسام الكاريكاتير الفرنسي الشهير “بلانتو” الذي يعمل في صحيفة “لي موند” الفرنسية اليومية منذ 40 عاما، وهو يروي تجربته مع عالم الكاريكاتير، وكيف اكتشف ميله إلى هذا النوع من الهجاء الساخر، وفرحته عندما قبلت رسومه في “لي موند”.

في البداية نتعرف على الشخصيات المختلفة لرسامي الكاريكاتير، ثم ننتقل بنوع من التركيز للوقوف أمامهم والاطلاع على تجربة كل منهم مع عرض بعض رسوماتهم البارزة.

كاريكاتور الرئيس.. جيش الجزائر يحاصر مقر الجريدة

يعمل الرسام الجزائري منوار مرابطين في صحيفة “لي سوار دالجير” (أي مساء الجزائر) عاش تجربة ما قبل الاستقلال ثم ما بعدها، وهو يقول إنه تعلم الرسم من والده الذي كان يرسم النازيين بصورة ساخرة بعد الحرب. وكان أول كاريكاتير سياسي له يسخر من الرئيس الشاذلي بن جديد عام 1984، وعلى الفور حاصرت قوات الشرطة الصحيفة وصادرت 80 ألف نسخة منها وأعدمتها.

ونرى لقطات وثائقية من المظاهرات التي شهدتها الجزائر في الفترة ما بين 1988-1991، وكيف أمر الرئيس بن جديد الجيش بفتح النار على المتظاهرين، ثم نرى اغتيال الرئيس الأسبق محمد بوضياف في اجتماع رسمي، ويعلق الرسام: كل ما كنت أرسمه كان فقط يتعلق بالعنف.

جدران المنازل.. صورة القط المارق على الرقابة التونسية

تقول الرسامة التونسية نادية خيري إن الكاريكاتير هو الذي اختارها وليس العكس، وتتخذ لنفسها نموذجا ثابتا في كل رسوماتها السياسية هي صورة القط الذي تقول إنه “دليل العصيان”، فهو لا يستجيب لما يطلب منه.

وهي ترسم على جدران المنازل المهدمة، وبسبب رفض الصحف رسوماتها لجأت إلى الرسم من خلال عالم الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، وتحررت بذلك من ضغوط الرقابة. تبدو نادية مهمومة بقضية الحفاظ على المكتسبات التي حققتها المرأة في تونس في الماضي.

كاريكاتور الاحتلال.. معاناة الجميع في ظل الكيان المظلم

أما الرسام الفلسطيني بهاء بخاري فهو كالعادة -وكما في معظم الأفلام الغربية- يظهر في موازاة مع رسام إسرائيلي هو “ميشيل كيشكا”، وهو من دعاة السلام مع الفلسطينيين. ما يجمع بينهما في الفيلم هو الرسام الفرنسي “بلانتو”.

يشرح الرسامُ الفلسطيني مأساةَ شعبه، ويروي أنه يقيم الآن في رام الله، وقد غادر القدس القديمة عندما كان ابن 14 عاما. وفي مشاهد وثائقية يصطحب المخرجة ليطلعها على الجدار الفاصل الذي يقول إنه بدلا من أن يكون عازلا للفلسطينيين، فقد عزلت به إسرائيل نفسها عن العالم، ويتنبأ بأنه سيسقط لا محالة في المستقبل القريب، ويتحدث عن المستوطنات وواقع الاحتلال، وأنه لا يستطيع أن يبتعد في رسوماته عن قضيته الرئيسية.

أما الرسام الإسرائيلي فيقول إن أكثر ما يواجهه من انتقادات بسبب رسوماته يأتي من طرف اليهود الإسرائيليين وليس العرب، فهناك كثير من الممنوعات التي تكبر يوما بعد يوم، وليس مسموحا له برسمها، لكنه على الأقل الوحيد الذي يمكنه رسم “الأنف اليهودي” الشهير.

يتذكر الرسام الفرنسي يوم ذهب إلى الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات (نرى اللقاء موثقا بالصورة والصوت) وأقنعه برسم علمين متجاورين هما علما فلسطين وإسرائيل، ثم نراه وهو يأخذ الرسم نفسه ويذهب به فيما بعد إلى “شيمون بيريز”، ويطلب منه وضع توقيعه عليه، إلى جانب توقيع عرفات.

يقدم الفيلم هذه القصة وكأنها تطرح الرؤية الليبرالية الرومانسية الفرنسية لحل القضية الفلسطينية. كما أن الجمع بين الرسامين الفلسطيني والإسرائيلي في القدس يبدو تحقيقا لنوع من المصالحة على الشاشة، رغم أن الفلسطيني يؤكد في لقطات عدة أنه محروم من زيارة مدينته إلا بموجب تصريح مثل أي سائح، بل إنه يطلع المصور والمخرجة على منزله الأصلي الذي صودر في المدينة، ولم يعد مسموحا له بدخوله. وفي عبارة ذات دلالة يقول بألم: عندما أريد زيارة وطني فإنني أمر عبر حاجز قلنديا مثل الماشية، وأتعرض للتفتيش، هذه قمة الإهانة.

إصبع الموز و”تشني ديك”.. رؤساء محرّمون على الرسم

تقول الرسامة الفنزويلية إن الرئيس الراحل “تشافيز” كان قد وضع مادة في الدستور الذي صدر في عهده تنص على عدم جواز رسم وجه الرئيس، ونراها وقد التفت حول هذه المادة، فأصبحت تضع بدلا من وجه الرئيس إصبعا من الموز، وكان الجميع في فنزويلا يفهمون المقصود.

رسامة فنزويلية تضع إصبعا من الموز بدلا من وجه الرئيس الراحل تشافيز

ويبدو الرسام الصيني “بي سان” مهتما أكثر بتحويل الكاريكاتير إلى مادة لأفلام تحريك ساخرة توجه النقد الاجتماعي، وتبث عبر موقع يوتيوب، عن طريق فريق من الرسامين الذين تمكن من تشغيلهم لحساب شركته.

أما الرسام “أنجيل بوليجان” وهو كوبي شارك في الثورة الكوبية وانتقل منذ سنوات بعيدة إلى المكسيك، فيقول إنه كان يفرض على نفسه رقابة في كوبا، أما في المكسيك فكان أول تحذير تلقاه عند وصوله إلى المكسيك أن لا يرسم الرئيس أو الجيش أو العذراء، لكنه خالف التعليمات من اليوم الأول، وتعرض بالتالي لكثير من التهديدات والمتاعب.

ويروي الأمريكي “جيف دانزيجر” أنه رسم كاريكاتيرا لنائب الرئيس الامريكي السابق “ديك تشيني”، لكنه امتنع عن وضع توقيعه عليه خشية من العواقب، فقد كتب اسمه معكوسا “تشني ديك”، بما له من معنى سيئ عند الأمريكيين، ثم صوره وهو يمسك بواق ذكري مرسوم عليه صورة الرئيس بوش الابن وهو يلقي به في المرحاض.

ديمقراطية الروس.. شمعة حرية بين ظلامين عظيمين

يواجه الرسام الروسي “ميخائيل زولاتكوفسكي” المنع من العمل منذ عهد “ليونيد برجنيف”، ويقول إنه سمح له فقط بالعمل في “إزفستيا” بعد إعلان سياسة “البريسترويكا” (الانفتاح السياسي) من قبل “ميخائيل غورباتشوف” في منتصف الثمانينيات، لكن فقط لكي يروج لصورة الديمقراطية الجديدة في روسيا.

ويتحدث الرجل عن القيود المفروضة على الكاريكاتير في روسيا، وأن الصحف تحظر نشر أي رسوم كاريكاتورية للرئيس “فلاديمير بوتين”، وأنه لا يمكنه وهو في منزله مع أفراد أسرته على المائدة أن يذكر الرئيس “بوتين” بالاسم، بل يشيرون إليه فقط باسم رمزي.

استطراد المقابلات.. أحاديث تجتر المشاهد خارج الفكرة

ينتقل الفيلم بين الحوارات واللقطات الحية للرسامين، ويجمع بين الرسام الفرنسي “بلانتو” و”كوفي عنان” في حفل تحت رعاية الأمين العام السابق للأمم المتحدة، وهو يشرح مفهوم ودور الكاريكاتير في تعزيز السلام العالمي.

ويروي الفرنسي في مشهد تال أنه يتلقى حتى الآن مكالمات هاتفية من الرئيس الفرنسي السابق “ساركوزي” يبدي اعتراضه على رسوماته من وقت لآخر.

الرسام الروسي “ميخائيل زولاتكوفسكي” الممنوع من العمل منذ عهد “ليونيد برجنيف”

يعاني الفيلم من كثرة الاستطرادات في الأحاديث والمقابلات، ويخرج بعض الشيء عن الفكرة الرئيسية عندما تستغرق مخرجته فكرة تحقيق التعايش في فلسطين، وهو موضوع آخر مختلف عن إطار النقد السياسي، لكن يبدو الفيلم أيضا مفتقدا إلى مادة الرسوم نفسها، صحيح أن المخرجة تقدم نماذج لرسومات الرسامين، لكن الفيلم كان في حاجة إلى المزيد منها، وربما أيضا إلى تحقيق التقابل فيما بينها.

أحادية التوجه واختلال التوازن.. عيوب الفيلم

مما يعيب الفيلم أيضا انحرافه عن سياقه لمناقشة موضوع الرسوم الدنماركية المسيئة للرسول، وما تعرض له الرسام من تهديدات، ويبرر ما فعله بأنه أراد إدانة الإرهاب، وقد عقد “كوفي عنان” مؤتمرا صحفيا أدان فيه الرسوم المسيئة، ودعا إلى ضرورة احترام جميع الأديان.

ويتعرض هذا الجزء دون إشباع أيضا لما تعرض له رسام الكاريكاتير السوري علي فرزات من اعتداء بسبب رسومه التي تنتقد النظام السوري وممارساته.

ورغم طرافة المادة وطموح الفيلم لتقديم صورة شاملة لما يتعرض له رسامو كاريكاتير النقد السياسي في العالم من متاعب، فإن الفيلم يظل في كثير من جوانبه التي تتناول البنية السياسية في بعض البلدان أحاديَّ الجانب، فهو يكتفي بعرض وجهة نظر واحدة، وتبدو بعض الأجزاء فيه أكثر هيمنة وامتدادا من غيرها، فالجزء المصور في الأراضي المحتلة يقتطع مساحة كبيرة، وكذلك الجزء الفرنسي، على حساب ما يصور في ساحل العاج وبوركينا فاسو مثلا.

لكن الفيلم مع ذلك يوفر مادة مشوقة تصلح للعرض في إطار أفلام حقوق الإنسان والأفلام السياسية عموما، فهو فيلم عن قضية الحرية عموما وحرية الفنان بوجه خاص.