رقصة فالس فالدهايم.. في مواجهة نيران اليهود

د. أمــل الجمل 

المخرجة روث بيكرمان صاحبة فيلم "رقصة فالس فالدهايم" الذي نال جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان برلين الـ68.

كانت مسؤولة النظافة تحوم من حول الكرسي خلف مكتب الرئيس وهي تحرك المكنسة يمينا ويسارا وعيناها تمسحان أرجاء المكان. يدخل هو ثم يجلس، فتمتد إلى وجهه أنامل أحدهم لتضع له بعض المكياج في محاولة للتقليل من حدة التجاعيد، وتمنحه بعضا من الإشراق. هنا، يتبعه شخص آخر أخذ يصفف له شعرات الرأس القليلة أصلا، ثم فجأة يقتحم الكادر رجل ثالث قادم من خلف الكاميرا يطلب ضبط القميص أسفل جاكيت البدلة. بعد أن ينتهي الرئيس من ضبط القميص بنفسه نرى آخر يتدخل ليمسح بالفرشاة شيئا لا نراه على سترته.

إنها مجموعة من أدق التفاصيل التي تستغرق زمنا، وتشي برغبة في الظهور بأبهى وأكمل صورة ممكنة في تلك المقابلة التلفزيونية. كانت الكاميرا تعمل وتقوم بالتسجيل بدليل رؤيتنا للقطات السابقة، لكنهم على ما يبدو أخفوا ذلك عن الرئيس ورجاله، فربما أخفوا العين الحمراء في جسد الكاميرا التي تكشف خداعهم، والدليل على ذلك كلمات المخرج الموجهة للرئيس “عندما تكون مستعدا أخبرنا لنبدأ التصوير”، فيجيبه كورت فردهايم الذي فاز للتو في انتخابات الرئاسة النمساوية “مستعد، فلنبدأ”.

عند تلك اللحظة تظهر التترات لتُعلن انتهاء فيلم “رقصة فالس فالدهايم” للمخرجة روث بيكرمان الذي نال جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان برلين الـ68. استعارت بيكرمان المشهد الذي اختتمت به فيلمها من الأرشيف -مثل أكثر مواد الفيلم- ووظفته في سياق أحداث الفيلم ليحمل تورية ومغزى بأن كل ما سبق لم يكن فقط تجميلا، وإنما يحمل قدرا من الزيف والادعاء، وأن الرئيس المقبل يتجمل أمام شعبه ولا يظهر بصورته الحقيقية. لكن، إضافة إلى ذلك يمكن القول إن ذلك المشهد يكشف بوضوح أن الجميع يمثل دورا، الجميع يكذب، فالإعلام الذي طالما هاجم الرئيس وانتقده بعنف هو ذاته يكذب ويتجمل ويمارس الخداع.  

رغم أن المشهد السابق يتسق تماما مع رمزية المشهد الافتتاحي للفيلم، لكنه في الوقت نفسه يُعتبر أخف وطأة من ذلك الاستهلال الذي استعانت فيه المخرجة بمقولة أبراهام لينكولن “يمكنك أن تخدع كل الناس لبعض الوقت، وبعض الناس كل الوقت، لكنك لن تستطيع أن تخدع كل الناس طوال الوقت”، والتي تستدعيها لتقول إن “فالدهايم” كذب على الناس وخدعهم جميعا لبعض الوقت عندما نفى أي علاقة له بأعمال النازية ضد اليهود، لكنه وإن خدع بعضهم طويلا فلم ينجح في مواصلة خداع الجميع للأبد.

الفيلم يتناول تفاصيل نيران الحملة التي نشبت حول شخصية الأمين العام السابق للأمم المتحدة كورت فالدهايم عندما رشح نفسه لانتخابات الرئاسة النمساوية، إذ تم النبش في الماضي النازي له.

وثائقي يعتمد على أرشيف إبداعي.. ما الذي ميزه؟

يتناول فيلم “رقصة فالس فالدهايم” تفاصيل نيران تلك الحملة التي نشبت من حول شخصية الأمين العام السابق للأمم المتحدة كورت فالدهايم عندما رشح نفسه لانتخابات الرئاسة النمساوية، إذ تم النبش في الماضي النازي له.

يروي الفيلم -الذي يعتمد بأكمله على الأرشيف لكن لغته البصرية وزمنه النفسي سينمائي بامتياز- بصريا وسمعيا ولغويا بمستويات متباينة تفاصيل تلك القضية التي أثارت ضجة في جميع أنحاء العالم عام 1986 حول الماضي النازي لفالدهايم وذلك طوال الحملة الانتخابية لمنصب الرئيس.

رغم ما سبق لا يمكن وصف الفيلم بأنه يتناول فضيحة سياسية، ففي تقديري أنه يكشف في أحد مستوياته الأعمق كيف يمكن أن تُغذى وتُؤجج مشاعر العداء والكراهية والعنف بسهولة ضد الآخرين، وكيف تُستخدم تلك المشاعر من قبل السياسيين الشعبويين لتوجيه الناس، وكيف يعمل اليهود من دون هوادة بتضامن ودقة شديدة، وبدأب وإرادة حديدية لتحقيق أهدافهم في إزاحة المرشح وتشويه سمعته طالما أن الأمر يتعارض مع مصالحهم، وأنهم هم أيضا يُمارسون الكذب، بينما في المقابل نرى شخصية كورت المقاتلة لم تستسلم للحملة إلى أن نجحت في الانتخابات.  

هذا العمل الوثائقي المصنوع جيدا بمهارة فكرية وفنية، يستوقفني فيه عدة أمور أسردها تباعاً:

أولها الأسلوب الموضوعي للمخرجة رغم وجود ذاتها وتورطها داخل تلك القضية، وقيامها بدور الراوي الذي يسرد الأحداث.

ثانيها اعتماد المخرجة على الأرشيف بالكامل -لكن بشكل إبداعي- باستثناء بعض المشاهد التي كانت قد قامت بتصويرها عام 1986 لبعض من تفاصيل ذلك الحدث بكاميرا هواة للذكرى، وليس من أجل الفيلم، وذلك عندما كانت مراهقة مشتبكة كأحد أفراد الشعب في تلك القضية، أي أنها بدورها لقطات أرشيفية.

أغلب لقطاتها تم تصويرها من المنتصف، حيث كانت المخرجة تقف في المركز وترصد ردود فعل الجموع من حولها، ثم عندما قررت صناعة فيلمها استعانت بالكثير من مواد الأرشيف النمساوي وكذلك الأرشيف الدولي، لتجعل خط السرد بالفيلم يسير وفق مسار العد التنازلي والجدل الساخن في الجولة الثانية في يونيو 1986، وهي أثناء ذلك تستعين بعرض وتقديم مواقف مختلف الأطراف الفاعلة، فتقدم مقتطفات من المؤتمرات الصحفية للمؤتمر اليهودي العالمي، ومناقشة في جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة، والبيانات التي أدلى بها حزب الشعب النمساوي، ولقاءات المرشح الرئاسي بجموع وأفراد من الشعب أثناء تلك الحملة، مثلما تستعين بالآراء المضادة للرئيس من الجمهور، والإجراءات المضادة له، ناقلة إلينا بالصوت والصورة والإيماءة كيف كان -ولا يزال- الإرهاب يُمارَس على أي فرد يتجرأ ويُشكك -أو حتى يُناقش- أمر القتل وأفران الغاز، إذ يتم وصفه ووسمه بمعاداة السامية. 

 

 

 

صراع أجيال.. الابن ضد أبيه

تنبع قوة الفيلم من مهارة تحديد واختيار تلك اللقطات الوثائقية بدقة، بزمنها النفسي الصحيح، ووضعها في سياقها الترتيبي والزمني في محاولة لصنع فيلم تنظر فيه المخرجة -ونحن كجمهور المتلقين معها- إلى الماضي من مسافة 30 عاما، لتُعيد التأمل والنظر في الصراعات وفي الذاكرة الجماعية والفردية، وتتبع جذور الوضع الحالي في دولتها في هذا السياق التاريخي. 

لكنها أثناء ذلك تقوم بمهمتها بشكل فني، ومن خلال بناء سينمائي متين ومشدود لا يخلو من الإثارة والتوقع، متضمنا بعضا من أهم خصائص الدراما القوية، إذ يجمع بين الصراع الداخلي والخارجي لعدد من أبطاله مثلما نرى في مشهد بأحد جلسات الاستماع، حيث يتم استجواب الإبن جيرهارد فالدهايم بقاعة المحكمة، فلقطات تلك الجلسة كانت رائعة ومؤثرة دراميا، وهي لقطات لم يسبق أن تم إذاعتها من قبل، واحتفظت بها المخرجة ضمن شريطها الوثائقي بشكل كامل غير مقطوع، أي بطولها الأصلي رغم طوله نسبيا، ومع ذلك ظل البناء قويا جاذبا.

إنه موقف درامي حقيقي بامتياز، يعادل أقوى الأفلام الواقعية خصوصا أنه ينطوي على زمن نفسي قوي مشحون بالصراع الداخلي المعتمل في أعماق هذا الرجل الذي يُحاول ألا تكون كلماته مصيدة وفخ يُدين والده، ونتيجة لذلك بدا كالفأر في مصيدة، فإنه وإن كان غير راض عن ماضي والده فهذا لا يعني أن يساعد الآخرين في الحكم عليه وإدانته وتشويه تاريخه، وهو أثناء ذلك يتلقى السخرية من القاضي وتُحيطه نظرات الازدراء -وربما القليل من التعاطف- من الحضور بقاعة المحكمة.

إنه في تقديري واحد من أصعب مشاهد المحاكمة في التاريخ أن يكون الابن مطالبا بالشهادة ضد والده بسبب تاريخه وماضيه. أن يكون مطلوبا من الابن إدانة والده لكنه غير قادر، ليس فقط لأنه والده -حتى وإن كان غير راض عن سلوكه في مرحلة ما من حياته- بل أيضا لأن والده كان رجلا له تاريخ وشخصية قوية ذات إرادة لكنه وضع بين المطرقة والسندان.   

ربما أيضا يمكن اعتبار المشهد السابق -أثناء جلسة الاستماع للابن جيرهارد فالدهايم- أحد المشاهد الرمزية للتعبير عن الانقسام الذي حدث في النمسا بعد الحرب بين جيل الحرب والأجيال اللاحقة، مما يسمح برؤية منظور جديد للماضي ربما للمرة الأولى، فوفق تصريحات المخرجة أن أشخاصا من ذلك الجيل كانوا ينتقدون آباءهم بشكل كبير وذلك على وجه التحديد بسبب قضية فالدهايم، وهو ما يُضاعف أيضا من أهمية الفيلم، فقضية فالدهايم -إلى جانب ما سبق- يمكن اعتبارها تعبيرا عن صراع الأجيال واختلاف توجهاتهم، إذ يُوضح كيف يتصرف الأبناء بشكل مختلف تجاه الآباء.

السياسي النمساوي كورت فالدهايم تولى منصبا شديد الأهمية والحساسية وهو منصب الأمين العام للأمم المتحدة في الفترة (1972-1981).

إما أن تقتل أو تموت.. أيهما تختار؟

كان لافتا لي -كما لآخرين بالطبع- أن شخصا في مكانة كورت فالدهايم خصوصا مع توليه منصب شديد الأهمية والحساسية على مستوى العالم وهو منصب الأمين العام للأمم المتحدة يمارس الكذب وينفي حقائق تتعلق بتاريخه حتى وإن كانت مشينة، فكيف يستقيم الحديث عن السلام في وجود شخص يتولى مسؤولية المكان وقد مارس الكذب والخداع، وعندما تتم مواجهته يُصرّ على الإنكار طويلا، إلى أن أحضروا له صورا تؤكد تورطه، هنا لم يعترف بأنه كان يكذب، لم يعترف بأنه يتراجع عن الإنكار، لكنه أخذ في التبرير، ولاحقا اعترف بالحقيقة مُبديا ندمه على هذا الأمر.

رغم ذلك لم يستسلم المرشح الرئاسي وواصل معركته بروح قتالية، مستخدما الدعاية حينا والخطب الحماسية المبطنة برسائل الود والحب المحاولة استثارة العواطف في مرات كثيرة، ولعب دور قائد الأوركسترا حينا آخر ببعض الحفلات، وهو أثناء ذلك يعترف “كنت في موقف بين خيارين إما أن تقتل أو تموت، إما أن تنفذ الأمر أو أن تموت، كما أن القتل لم يكن موجها فقط إزاء اليهود، فهناك ستة ملايين آخرين بخلاف اليهود تم قتلهم”. ذلك وفق تصريح فالدهايم بالفيلم، لكن هناك دراسات أخرى تشير إلى قتل ما يزيد عن ٢٥ مليونا من غير اليهود.

فإذا عدنا للخيارات المرة التي تم حصاره فيها، فيا ترى لو كنا في نفس موقعه وليس أمامنا خيار ثالث ماذا كنا سنفعل؟ هل هذا تبرير للفعل أم مواجهة أمر واقع، أم أننا سندعي البطولة الآن ونحن في الجانب الآمن؟ هذا ما كان عليه الحال عندما شارك فالدهايم في الحرب، لم يكن لديه خيار آخر لإنقاذ نفسه وعائلته.

المرشح الرئاسي فالدهايم لم يستسلم وواصل معركته بروح قتالية، مستخدما الدعاية حينا والخطب الحماسية المبطنة برسائل الود والحب المحاولة استثارة العواطف في مرات كثيرة.

صَمْت عن ماضٍ نازي.. وفجأة؟

 الأمر اللافت الذي ظل يشغلني طويلاً أثناء وبعد انتهائي من مشاهدة الفيلم، هو تلك اللقطات لفالدهايم مع الرؤساء العرب، إذ تبدو اللقطات فيها ترحاب به، وجهه بشوش مبتسم ويتحدث بود كبير مع ملك السعودية، ثم هناك لقطات أخرى له مع ياسر عرفات حيث كانت له مواقف من القضية الفلسطينية، في حين نرى لقطة له في القداس اليهودي ووجهه متحفظ، وقيل – كما ذكر الفيلم- أنه رفض ارتداء الطاقية اليهودية أثناء طقوس الصلاة، وهذا الرفض لم ينسه اليهود أبداً.

هنا، تساؤل يطرح نفسه مجددا، لماذا صمت اليهود عن هذا الماضي النازي لفالدهايم طوال تلك السنوات الممتدة له في الأمم المتحدة، ولماذا قرروا كشفه فجأة؟ هل اليهود ضد الكذب في المطلق، أم أنهم ضد الكذب عندما يتعارض مع مصالحهم، وهل تم استخدامهم لتحقيق أغراض آخرى؟ هل لو كان فالدهايم ارتدى القبعة اليهودية في ذلك الاحتفال الديني.. هل كانت المعاملة ستختلف، هل لو كان معاديا للفلسطينين ولم يستقبل ياسر عرفات بترحاب.. هل كان الوضع قد اختلف؟

لا يزال هناك أمور خافية في تلك العلاقة المرتبكة بين فالدهايم واللوبي الصهيوني، لكن أيضا يبدو أن هذه الحملة النارية والقضية التي تم تفجيرها على مستوى العالم كانت تعبيرا عن أجندة أمريكية مختلفة تماما، فربما كانوا مهتمين بمسيرة فالدهايم الوظيفية كأمين عام للأمم المتحدة ليس فقط للحديث عن كذب “الضحية”، وهو الأمر الذي كان قائما بالفعل في النمسا حيث كان كل شيء وجميع الأحاديث والضجة المثارة عن ذلك، بينما في حقيقة الأمر أراد الأمريكيون في ذلك الوقت تشويه الأمم المتحدة كمؤسسة إنسانية وتلطيخ سياساتها في السبعينيات من القرن العشرين.