روح الثورة في المشهد السينمائي التونسي والمصري

 لسنا محررين ، فالتحرير من سمات الشعوب 
ارنستو تشي غيفارا

هذه الكلمات رسم  تشي غيفارا ملامح الشخصية الثورية بعيدا عن المفاخرة وقريبا جدا من التواضع الذي  يتصف به الثوار، ولعل ما يشبه ذلك في تاريخنا الحديث الثورتين العظيمتين في تونس ومصر ،فلم ينبري احد من ملايين الشعبين ليدعي بأنه مفجر الثورة أو ملهمها ، على الرغم من وجود ثوار لعبوا دورا كبيرا في تأجيج روح الثورة وانطلاقتها ، ومثلما يذكر لنا التاريخ نماذج كبيرة من ثورات قادتها الشعوب وغيرت مسار التاريخ ، مثل الثورة الروسية والفرنسية والجزائرية  ، إلا أننا نجد نموذجا فريدا وحضاريا انطلق من تونس الخضراء ليجد صداه الأول في مصر الكنانة ، ثورة اشتركت فيها كل قطاعات الشعب وبعيدا عن مساعدة الجيش أو استخدام السلاح الذي كان من جانب واحدا فقط يمثله حراس النظام ، ثورة قادتها كل فصائل الشعب  المحامي والطبيب والمهندس والطالب والكادح والمعلم والفنان والعديد من المثقفين والبسطاء والباحثين عن العيش بكرامة ،  الإسلامي والقومي والماركسي والمستقل …. الكل …… الشعب  ….  تحرر.
من عبودية   الطغاة والمستبدين ….ووسط هذا الزحام الثوري في الشارعين التونسي والمصري ، تتناغم معها  أصوات الفنانين الحقيقيين بلا تردد أو وجل لصوت الشارع الثوري وتشارك أو تؤيد أو تعلن ولاءها للثورة ، ومنهم من يتردد أو ينزوي تحت أي غطاء لينتظر ومنهم من يتوسم في بقايا النظام والسلطة ويتناسون ما أثبته التاريخ الإنساني بأن عمر الطغاة قصير وان الشعوب أبدا لن تموت ، في تونس الثورة خرج العديد من الفنانين الذين شاركوا وأيدوا الثورة وكبرت أسماؤهم وازداد توهج نجمهم بين الجماهير ،  حتى صدحت حناجرهم واسترسلت أناملهم ورقصت طربا خشبة المسرح تحت أقدامهم  ( كما فعلها مسرحيو تونس ) …. كيف لا   … وهي ثورة شعبهم وثورتهم التي ستتيح  لهم الانطلاق بلا أسوار أو حواجز …  وبلا خوف من كلماتهم أو ريشتهم أو من ولع المستبد بالنجومية والنرجسية….  هي  الثورة تحلق بالإنسان إلى آفاق رحبة   تتسع للإبداع الحقيقي  وللفن الملتزم ليشترك الجميع في جداريه الغد المشرق غد … تصبح فيه الألوان أكثر نصعا والأصوات أعذب شدوا والإحساس أكثر صدقا …..
ولاستشراف المستقبل لابد من أن يبدأ الفنانون بإطلاق أقصى ما لديهم من أفكار وإبداعات ، فالفنان عنصر مؤثر ومساهم في التغيير والإبداع ،  ولعل أهمهم الفنان السينمائي ، بسبب الفعل المؤثر الذي تتركه السينما في المجتمع ،وسعة وسرعة انتشارها ،وليس بجديد إذا ما قلنا بان الصورة تعادل ألف كلمة ( مثلما ذكر العلماء المختصون )  … بالإضافة إلى ذلك استعادة أمجاد الماضي في السينما العربية ومنهما على الأخص السينما المصرية والتونسية ، فبالنسبة للثانية تكاد تكون انقرضت إلا من نتاجات محدودة ولا تليق بالإرث التاريخي لها ، فنحن نستذكر قوة السينما التونسية  وصداها في العقدين  الستين والسبعين من القرن المنصرم، حينما أتحفتنا بروائع من أعمال سينمائية وصل صداها للمشرق والى أوروبا ، وانتعشت أيامها دراسة السينما، وخير مثال لذلك ( إنشاء جمعية الشبان التونسيين ، والتي أصبحت سنة 1968  الجامعة التونسية للسينمائيين الهواة)،  وفي نفس  العقد  تم إصدار مجلة قانون السينما، واستحداث أكثر من ثلاثين دار ثقافة مجهزة بآلات عرض  سينمائي (  16  ملم ) ، كما شهدت  حقبة الستينيات إنتاج عدد من الأفلام  لمخرجين أصبحوا فيما بعد رموزا مهمة للسينما التونسية  وتاريخها ،  منهم  (عمر الخليفي  وحمودة بن خليفة و عبد اللطيف بن عمار  الذي حصل فيلمه ( عزيزة ) على التانيت الذهبي لأيام قرطاج ، وكذلك المخرج ( رضا الباهي ) الذي اشتهر عربيا وعالميا برائعته (  شمس الضباع ) . ولا بد من ذكر السينمائي ( الطاهر شريعة الذي أسس أول دورة لمهرجان قرطاج السينمائي .

عبد اللطيف بن عمار

وإحقاقا للحق لابد من الإشارة إلى أسماء سينمائية تونسية في زمننا الحالي ، حاولت رغم بطش  وقمع وتضييق الخناق من قبل نظام بن علي ،  النهوض  بقدر الإمكان بالسينما التونسية والحفاظ على موروثها الأصيل ، ومن ابرز تلك الأسماء ( نوري بو زيد و مفيدة تلاتلي ،  وسلمى بكار  ورجاء عماري ، و طارق بن عمار ، وآخرين  ).
 من هنا نوجه  دعوة للسينمائيين التونسيين المغتربين بالعودة والمساهمة باستعادة هيبة  المشهد السينمائي التونسي المعاصر من خلال  استنطاق الصورة الفيلمية وما يتناسب مع الزمن الجديد ومحاكاة المجتمع وهمومه ومعاناته واستشراف المستقبل بما يتناسب ومسار التطور الذي تشهده تونس للعبور نحو آفاق رحبة من الإبداع والحرية فالسينما والمجتمع مترابطان ، فهي مرآة تعكس الواقع وتستنطق الحياة اليومية المعاشة من اجل آفاق رحبة تليق  بحجم الثورة العظيمة للشعب التونسي  .
أما في مصر فقد شهدنا منذ انطلاقة الثورة فنانين ملتزمين عبروا بصدق ووضوح عن مؤازرتهم لثورة الشباب بل وشاركوهم وضحوا معهم وكانوا في الميدان ، يهتفون ويصرحون دون خوف أو قلق من بطش النظام لهم … فارتفعت  أصواتهم متحدية ومنحت شباب الثورة دفقا من الحماسة والصمود ، وشاهدنا ذلك عبر شاشات الجزيرة العملاقة التي تحدت كل الصعاب من اجل نقل صورة الحقيقة وصورة الواقع بكل تجلياته ، شاهدنا  النجمة تيسير فهمي وهي تشارك في التظاهرات والاعتصام والمخرجون والسينمائيون الكبار خالد يوسف ، وداود عبد السيد وخالد أبو النجا وعمرو وأكد ، والموسيقار الكبير عمار الشريعي والفنان العالمي  عمر الشريف ، الذي عبر منذ البدء بوضوح ودون تردد عن مساندته لتلك الثورة العظيمة التي انتصر فيها الشعب المصري على نظام الطاغية حسني مبارك الذي حكم البلاد لمدة ثلاثين سنة . وهو ينحدر بمصر  إلى الهاوية ، مخلفا تركة ثقيلة بالديون والفساد في جميع المجالات تحت وطأة نظام بوليسي قمعي ….

خالد الصاوي في ميدان التحرير

لقد انعكست صورة الواقع المصري خلال حكم مبارك عبر المستوى الهزيل والبائس  للفن بشكل عام وللسينما بشكل خاص إلا ما ندر ، فقدمت العديد من الأعمال السينمائية التي أساءت لتاريخ مصر السينمائي  ، لا سيما  وأنها أول بلد عربي عرف السينما وأسست لقاعدة واسعة ومهمة للسينما العربية ، ولها تاريخها المشرف والطويل ، وأنجبت أسماء عملاقة في السينما ، على المستوى العربي والعالمي ….  وإذا ما استرسلنا في ذكر الأسماء والإعمال الكبيرة في السينما المصرية سيتطلب ذلك العديد من الصفحات ، وهنا نشير إلى من صمد في فترة حكم مبارك ولم ينصاع لمغريات النظام او ان يهبط بمستوى إبداعه إلى أفلام السوق التجاري الرخيص ، ومنهم من  استطاع بحنكته وذكائه أن يستشرف آفاق المستقبل ، فقدم أعمالا جريئة ومميزة وحافظ على اسمه ونجمه ، ولعل في مقدمة هؤلاء يحضر اسم الفنان الكبير المخرج خالد يوسف ، الذي أتحفنا بأعمال كبيرة ومميزة ، مثل ( هي فوضى ، وحين ميسرة ، ودكان شحاتة ) كذلك الفنان المخرج داود عبد السيد الذي رشح فيلمه ( رسائل البحر ) لاوسكار أفضل فيلم  أجنبي ، بالإضافة إلى نجوم التمثيل  التي تتصدرهم ( تيسير فهمي وعمرو وأكد وخالد نبوي وخالد أبو النجا وآسر ياسين ، والعديد من الأسماء اللامعة في سماء السينما المصرية … نهيب بهم وبكل السينمائيين المصريين ، ان يعيدوا مجد السينما المصرية وان يحلقوا بها إلى آفاق العالمية ، وان ترتقي  بمستوى طموح الشباب المصري العظيم الذي فجر  ثورة الخامس والعشرين من يناير المباركة .