“ريتشارد جويل”.. لا غالب إلا نظام العدالة الأمريكية

رشا حسني

لا شك أن وجود اسم الممثل والمخرج والمنتج والموسيقي المخضرم “كلينت إيستوود” على عمل فني جديد من أهم الأسباب التي تدفع الجمهور إلى مشاهدة هذا العمل على الرغم من تشابه مضامين أفلامه الأخيرة بشكل ملحوظ، ولكنه يظل واحدا من أهم السينمائيين الأمريكيين، وربما يعتبر آخر نجم من نجوم جيل هوليود الكلاسيكي، فهو من العلامات المميزة لأفلام الغرب الأمريكي في عصرها الذهبي في فترة الستينيات، وبطل سلسلة أفلام “هاري القذر”.

أخرج “إيستوود” أكثر من 38 فيلما سينمائيا في مسيرة سينمائية طويلة امتدت لأكثر من سبعين عاما، وحصل على أربع جوائز أوسكار وخمس جوائز غولدن جلوب، إنه السياسي اليميني الذي دائما ما تثير آراؤه السياسية الكثير من الجدل، وتؤثر أيضا على استقبال أعماله الفنية، وهو أيضا ذو التسعين عاما الذي لا يعترف بفكرة التقاعد طالما أنه قادر على العمل والعطاء، فهو بدون شك حالة وتركيبة فنية تستحق التقدير والاهتمام.

ما زال “إيستوود” قادرا على إثارة الجدل حول أفلامه ومضامينها الفنية مع كل هذا التاريخ وهذه الخبرات والتجارب الفنية الثرية، حيث حظيت أفلامه الأخيرة كمخرج باهتمام صحفي ونقدي واسع ما بين مؤيد ومعارض، بين من يجدها أفلاما على درجة عالية من التميز الفني شكلا ومضمونا، ومن يجدها أفلاما فنية جيدة ولكنها تحمل مضامين عنصرية وتروج لأفكار رجعية متخلفة، وبين من يرفضها كلية نظرا لرفضهم أفكار ومواقف صانعها نفسه.

 

“ريتشارد جويل”.. من بطل قومي إلى مشتبه به

من بين أعمال “إيستوود” الأخيرة، حظي فيلمه الأحدث “ريتشارد جويل” بنصيب الأسد من الاهتمام حيث تعرض للعديد من الانتقادات والاتهامات بل والهجمات الشرسة التي شنتها ضده بعض الصحف الكبرى ووسائل الإعلام الأمريكية.

تدور أحداث الفيلم حول قصة شاب بسيط جدا تتلخص أحلامه في الحياة في رغبة واحدة هي أن يكون أحد أفراد الشرطة، ولا يجد نفسه في أي شيء في الحياة سوى أن يكون شرطيا، ونتيجة لذلك أصبح يحفظ القوانين كحفظه لاسمه، ويمتلك عددا هائلا من البنادق والمسدسات، وحينما ينجح في أن يعمل كفرد أمن في إحدى الجامعات يطرد من مكان عمله لمغالاته في تطبيق القواعد والقوانين، ولمعاملته الطلاب على أنهم مجرمين وليسوا مجرد طلاب، لينتهي به المطاف بالعمل كفرد أمن في إحدى شركات الأمن الخاص التي تتولى تأمين أولمبياد أتلانتا عام 1996.

نجح “ريتشارد” في السابع من يوليو/تموز 1996 خلال إحدى مناوباته الليلية في إنقاذ الآلاف من الأرواح بعد أن اكتشف حقيبة تحوي مواد متفجرة، وبعد أن اعتبره الإعلام بطلا قوميا لمدة يومين انقلب الأمر، حين اعتبره جهاز “إف بي آي” (FBI) مشتبها به، لتنقلب حياته الهادئة والبسيطة هو ووالدته إلى جحيم لا ينقذه منه سوى المحامي الوحيد الذي يعرفه ويثق به، وهو “واتسون براينت” الذي يؤمن ببراءته ويساعده حتى يثبتها بعد مرور 88 يوما من اتهامه.

ينتصر “إيستوود” هنا لفكرة شديدة الرومانسية أيضا ولكنها تخدم مفهومه عن البطولة الأمريكية وبطولة المواطن الأمريكي، حيث يُظهر “إيستوود” في معظم أفلامه العديد من الشخصيات الثانوية على أنها شخصيات مخلصة تتمتع بسمات البطولة أيضا كما هو الحال مع شخصية المحامي “واتسون براينت” المحامي المخلص في عمله ولمبادئه الذي يُحسن معاملة “ريتشارد” منذ أول يوم تعرف فيه عليه وأخذ على عاتقه مهمة إظهار براءته مهما كلفه الأمر.

رشح الفيلم لجائزة أوسكار عن فئة أفضل ممثلة مساعدة، كما رشح أيضا لجائزة غولدن جلوب عن نفس الفئة، وهو من بطولة “بول وولتر هاوزر” و”كاثي بيتس” و”سام روكويل”، وسيناريو “بيلي راي”.

ريتشارد جويل بعد اكتشافه للعبوة الناسفة في الملعب، مٌحاولا إبعاد الناس عن مكان الإنفجار

 

الرجل الأبيض المخلص.. مفهوم البطولة وملامح البطل

يواصل المخرج “إيستوود” من خلال “ريتشارد جويل” النهج الذي استحسنه مؤخرا وهو صناعة أفلام عن قصص وأحداث حقيقية كما في فيلمي “المهرب” (2018)، وفيلمه المثير للجدل “قناص أمريكي” (2014)، كما يواصل اهتمامه بمناقشة واحدة من أكثر الأفكار التي عرضها في أفلامه، وهي فكرة البطولة والبطولة الزائفة.

ما الذي يجعل البطل بطلا، ومن يستطيع أن ينفي عن البطل صفة البطولة، ومن هو البطل الحقيقي ومن هو الزائف؟ كلها تساؤلات سبق وأن طرحها “إيستوود” في أفلامه الأخيرة من بينها على سبيل المثال “سولي” (2016) الذي يتشابه في مضمونه وأحداثه كثيرا مع مضمون وأحداث فيلم “ريتشارد جويل”، حيث تدور قصة الفلمين حول شخص بسيط وعادي يؤدي عمله بمنتهى الإخلاص، وينجح في إنقاذ حياة العشرات من البشر، ولكن الأمر ينقلب عليه فيما بعد ويُعامل كمتهم وليس كبطل، وفيلم “قطار 15:17 إلى باريس” عن واقعة إنقاذ ثلاثة شباب أمريكيين قطارا متجها من أمستردام إلى العاصمة باريس من تفجير انتحاري كاد يُسفر عن مأساة إنسانية.

دائما ما يتبنى “إيستوود” تقريبا شكلا واحدا للبطل، فهو المواطن الأمريكي الأبيض البسيط المخلص في عمله والذي لا يمانع في بذل حياته في سبيل إنقاذ الآخرين، بل والأكثر من ذلك فإن “إيستوود” دائم التركيز على أن هذا البطل يولد وبداخله إحساس فطري بالواجب والمسؤولية، واجبه تجاه حماية وطنه (أمريكا) وحماية أسرته والمقربين منه، وبالتالي حماية المواطنين الآخرين الذين يشاركونه الوطن.

ومن هذا المنطلق فإن هذا البطل سيُقدم على عمل إنساني رائع يجعله يفخر بنفسه هو والمقربين منه، وهو ما يتكرر على ألسنة أبطاله في أفلام منها على سبيل المثال “قناص أمريكي”، “قطار 15:17 إلى باريس” وأحدث أفلامه “ريتشارد جويل”.

المحامي واتسون براينت يساند ريتشارد جويل بعد ظهور براءته بعد 88 يوما من اتهامه بتفجير الملعب

 

طمس الحقائق.. ميول سياسية يمينية

يُركز “إيستوود” على أن هذا البطل البسيط المتفاني يحارب من قِبل مؤسسات وقوى ذات نفوذ لتقويض بطولته وتصدير أنه ليس إلا مجرد بطل زائف، أي أن تُسلب بطولته منه على الرغم من كونه يستحقها، تاركة له إحساسا عميقا بالمرارة والهزيمة.

وتأثرا بميوله السياسية اليمينية غالبا ما يركز “إيستوود” على أن وسائل الإعلام رغم تنوعها هي إحدى هذه القوى القادرة والمؤثرة على قلب الحقائق، وهي إحدى القناعات الراسخة عند حزب اليمين في الولايات المتحدة الأمريكية حتى أن الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” لم يتورع عن اتهام الإعلام بالكذب والتدليس وفبركة الأخبار في خطابات عدة له، وهو ما ركز عليه “إيستوود” في “ريتشارد جويل” حيث أظهر وسائل الإعلام المختلفة وهي تحول حياة المواطن البسيط “ريتشارد” إلى جحيم بعد أن أنقذ حياة العشرات من البشر.

تحيط وسائل الإعلام بمنزل “ريتشارد” ليل نهار لمدة 88 يوم وينتهكون خصوصيته هو ووالدته، وذلك بعد أن نشرت الصحفية “كاثي سكراجز” تقريرا صحفيا في صحيفة أتلانتا جورنال انستيتيوشن تشير فيه إلى أن “ريتشارد جويل” هو المشتبه به الأول أمام جهاز “إف بي أي”، ثم استمرت وربما بشكل يومي في نشر موضوعات وتقارير عن “جويل” وحياته وماضيه المهني لشحن الرأي العام ضده، وإظهاره كما لو أنه هو الفاعل وليس مجرد مشتبه به، ثم سارت معظم الصحف ووسائل الإعلام خلفها متبنية نظريتها عن “جويل”.

اختلق “إيستوود” وكاتب سيناريو الفيلم “بيلي راي” واقعة في سبيل التأكيد على وجهة نظره في ضعف وفساد الإعلام، لكنهما أقرا فيما بعد عدم حدوثها في الحقيقة، وهي الطريقة التي حصلت بها الصحفية “سكراجز” على معلومة أن الإف بي أي تشتبه في ريتشارد جويل، حيث أظهرها في الفيلم تقوم بالحصول على المعلومة من عميل الإف بي أي مقابل ممارسة الجنس معه لتظهر الصحفية وكأنها عاهرة، وهو ما أثار موجة عارمة من الغضب والاستهجان ضد إيستوود والفيلم عند طرحه في دور العرض.

وقد شنت العديد من الصحف وعلى رأسها الصحيفة التي كانت تعمل بها الصحفية حملة لمطالبة “إيستوود” بكتابة جملة في عناوين بداية أو نهاية الفيلم لتكذيب تلك الواقعة وتصحيح صورة الصحفية التي تدمرت حياتها نتيجة إحساسها بالذنب، حيث استقالت من وظيفتها بالجريدة بعد تعرضها لمتاعب صحية عديدة منها إصابتها بمرض السكري ثم وفاتها بجرعة مخدرات زائدة عام 2001 عن 42 عاما.

مخرج فيلم “ريتشارد جويل” “كلينيت إيستوود “يحاور بطليه “بول هاوزر” و”سام روكويل” أثناء تصوير أحد مشاهد الفيلم

 

أجندة “إيستوود” الفنية.. إيمان بنظام العدالة الأمريكي

بمراجعة سريعة لأفلام “إيستوود” الأخيرة، نجد أنه ما زال يؤمن بأمريكا وبالحلم الأمريكي وبتجميل وجه أمريكا الذي ربما يراه الكثيرون على مستوى العالم قبيحا، فما زال “إيستوود” مؤمنا بنظام العدالة الأمريكية ونظام الأمن والحماية الأمريكي، حيث إن البطل البسيط مهما تعرض للظلم والقهر فإن نظام العدالة في أمريكا سوف يُعيد له حقه ويُظهر براءته ويُعيد له مكانته الاجتماعية، وهو ما حدث مع بطل فيلم “سولي” الذي أنصفته التحقيقات وأيضا مع “ريتشارد جويل” بعد تبرئته وعدم اعتباره مشتبها به في الواقعة، حتى وإن تأخر القرار ما يقرُب من ثلاثة أشهر.

كما يؤخذ على “إيستوود” إفراطه في لَي ذراع الحقائق والوقوف عند نقطة معينة من القصة الحقيقية بما يخدم أفكاره وقناعاته السياسية، حين يتوقف مثلا في فيلم “قناص أمريكي” عند مشهد ما قبل وفاة “كريس كايل” أشهر وأخطر قناص في تاريخ العسكرية الأمريكية، وعدم التعرض لظروف وملابسات مقتله التي ربما لو خاض فيها لأفقد البطل الأمريكي الكثير من أسباب بطولته.

حدث هذا أيضا في “ريتشارد جويل” حيث غض الطرف تماما عن الفاعل الحقيقي للواقعة الحقيقية في أولمبياد أتلانتا “إيريك رودولف” الذي تبين بعد القبض عليه عام 2003 أنه يميني متطرف قام بتفجير عيادتين للإجهاض وبارا للمثليات لمجرد أنه معاد لهذه الأفكار أو لهذه الاختيارات الحياتية التي لا تخص إلا أصحابها.

ولكن مع كل ما يمكن أن يوجه لأفلام “إيستوود” من انتقادات أو ملاحظات فلا بد من الإشارة إلى قدرته الكبيرة والمميزة على صنع أفلام جيدة ومتقنة على المستوى الفني، فلا يزال يتمتع بروح وحس ومهارات صانع الأفلام القادر على صناعة حكاية بصرية متقنة ومشوقة ومحبوكة.