“ريش”.. رحلة تحرر امرأة كادحة من زوجها الدجاجة

د. أمــل الجمل

امرأة صامتة لا تنطق إلا بكلمات معدودة قرابة الساعتين، لا تنظر في عين زوجها أبدا، وكأنها تخشاه أو منكسرة أمامه، لكنها أغلب الوقت تنظر إلى الأرض تعبيرا عن السمع والطاعة، خصوصا حين يُصدر تعليماته، كأن يأمرها بأن يكون طعام الغداء على مدار اليومين التاليين من الباذنجان، أو يحذرها بأن لا ترتكب أي خطأ أثناء حضور ضيوفه للاحتفال بعيد ميلاد ابنه.

إنها لقطات مشهدية بفيلم “ريش” (112 دقيقة) للمخرج المصري عمر الزهيري في أول أعماله الروائية الطويلة، وقد نال جائزتين من نقاد مهرجان كان الـ74، وعُرض مؤخرا ضمن قسم “آفاق” بمهرجان كارلوفي فاري الدولي الـ55 بالفترة ما بين 20-28 أغسطس/آب الماضي.

يبدأ الفيلم برجل لا نعرف هويته يحرق نفسه ويسقط أرضا، إلى أن يكف عن الحركة تماما، في ضباب كثيف ومكان يبدو وكأنه خرابة. ومنذ بداية الفيلم وحتى نهايته لا نرى ولا نسمع شيئا عن هذا الرجل، لكننا نرى أشياء قد تُفسّر لماذا انتحر هذا اليائس؟ وكأنه يذكرنا بقصة بو عزيزي تونس، وأمثاله من المحتجين في بلدان شتى.

بطلة القصة هنا امرأة نراها تقف بملابسها القديمة مطأطأة الرأس، كأنها خادمة أمام سيدها، بينما الحقيقة أنه زوجها، يرتدي ملابسه ثم يفتح الحصالة فيستخرج منها عدة جنيهات قديمة متهالكة، كأنها غُسلت عشرات المرات في عرق الأيدي الكادحة، تأخذهم منه دون احتجاج، فتُطعم صغارها ورضيعها، ولا نراها تأكل معهم، كأنها توفر الطعام لهم، تحاول تنظيف البيت المتهالك القبيح دون تذمر، تُغلق بسرعة الشباك لتمنع دخول الدخان الأسود الكثيف المُندفع من أحد القطارات.

 

“أبو لمعة الفشّار”.. جبروت الزوج الكادح المستعبد

هذا الدخان يُفسر الحالة المكتئبة للبيت والمنطقة المحيطة التي لا نعرف موقعها بالضبط، فلا دليل واحد على أنها تقع في أرض الكنانة -إذ يمكن أن تكون في أي بلد بالعالم- باستثناء لهجة الممثلين الذين ينطقون بكلمات قليلة هم أيضا. هذا المكان المُترب المتهدم بجدرانه العارية المُشوهة ذات الطلاء المقشر، الذي تتناثر في أرجائه قطع من الأثاث المكسور والأرائك الرثة، سندرك بعد قليل أنه وحدة سكنية بالإيجار تُخصص لعمال المصانع المقامة على أطراف المدينة.

زوج هذه المرأة مُسيطر، يبدو أقرب للدكتاتور الذي يقدم الوعود الكاذبة لأبنائه ليكتسب حُب واحترام عائلته، إنه يعمل في مصنع، ولديه ثلاثة أطفال صغار، أحدهم رضيع. يتحدث إلى أولاده بشكل عبثي، خصوصا إذا علمنا أنه لم يسدد إيجار هذا البيت المتواضع منذ ثلاثة أشهر، ومع ذلك يعدهم بأشياء تبدو خيالية مقارنة بمستواه الاجتماعي الاقتصادي، مثل شراء فيلا مع حوض سباحة يوما ما، أو صالة بيلياردو. يتحدث عن تجربة سفره للخارج أثناء الدراسة وشرب الحليب من البقرة مباشرة، في أسلوب أقرب للمزاح، لكن لا أحد يضحك.

يبدو هذا الرجل بلا حول ولا قوة رغم الصورة المخادعة له أمام عائلته، إنه أقرب لشخصية “أبو لمعة الفَشَّار”، نراه في عيد ميلاد ابنه يُحضر الزينة ونافورة مياه تُضيء على شكل تمثال في محاولة لتجميل المكان الكئيب من شدة قبحه، يستضيف رئيسه في العمل الذي يُهدي الطفل مبلغا من المال، فيُسرع الأب بالقبض على الأوراق المالية القديمة شاكرا مديره كما يفعل العبيد.

‎⁨الزوج المُسيطر قبل أن يتحول لدجاجة مع زوجته وأطفاله خلال تناولهم الغداء⁩

 

عبودية الدجاجة وحرية المرأة.. سحر الصندوق الخشبي

يبدأ الساحر فقرته في عيد الميلاد، لكن لا أحد يستجيب لدعوته، فيطلب من رب الأسرة الدكتاتور أن يدخل إلى الصندوق الخشبي، وبعد قليل يُخرجونه على شكل دجاجة، وعند محاولة استعادته يرتكب مساعد الساحر خطأ ما، فيعجزون عن إعادته لسيرته الأولى رغم كل المحاولات.

لا شك أن تحويل بطل فيلم “ريش” إلى دجاجة يُذكرنا برواية “المسخ” للكاتب التشيكي العظيم “فرانز كافكا”، ففي أحد الصباحات يستيقظ البائع المتجول المطحون ليجد نفسه وقد تحوّل إلى صرصار، لكن الفارق بين العملين كبير، فالمسخ عند “كافكا” يواصل سرد قصته بنفسه كاشفا من خلال تأملاته للعالم عن الاغتراب الذي يُعد أحد أهم سمات المجتمع الحديث الرأسمالي، لكن بطل المخرج عمر الزهيري بالفيلم يختفي تماما بعد تحوله إلى دجاجة، وكأنه كان مجرد تعلة درامية لمنح المرأة فرصة لاكتشاف قدراتها الكامنة فيها، والتي لم تكن هي نفسها تُدركها، وكأن الفيلم يقدم دعوة مبطنة هامسة للتمرد على السكون والخنوع.

هناك فرق آخر بين العملين، وهو أن بائع “كافكا” تحوّل إلى مسخ، لأنه كان يعاني الاغتراب على مستويات عدة، اغتراب عن الأسرة والمجتمع وفي العمل والجسد، واغتراب حتى عن نفسه، لقد حاول الخروج عن القانون الذي يقتل فيه إنسانيته في ظل مجتمع مرعب، وهنا تحوّل إلى مسخ. بينما عند الزهيري لم يكتفِ المخرج بأن جعل الرجل -الدجاجة- مُنصاعا لأسياده متسلطا على زوجته، بل إنه سرعان ما همّش دوره، فصارت المرأة هي البطلة التي استعادت إنسانيتها بتحوّل زوجها إلى دجاجة، لأن تحوّله أو بالأحرى غيابه منحها الفرصة لتكتشف إمكانياتها الحقيقية.

الزوجة الأم التي اكتشفت قدراتها التي لم تكن تدرك أنها تمتلكها خلال رحلة استعادة الزوج

 

مدبرة المنزل.. رحلة البحث عن ساحر

تبدأ رحلة الزوجة في لعب دور المرأة المعيلة، في البداية تبدأ رحلة البحث عن ساحر لإعادة زوجها، ثم فجأة تجد نفسها مهددة بالطرد من هذا البيت القذر. صحيح أنه مكان قاتم قبيح فقير متقشف، لكنه لا يزال بيتا له سقف وجدران وأبواب تحميها هي وأبنائها، لذلك عندما يحجز على البيت وأجهزته المتهالكة تصبح تحت ضغط البحث عن مَخرج.

تستعين برئيسه ثم بصديقه الذي يساعدها مرات عدة بسخاء يشي بأن كل هذا سيدفع ثمنه لاحقا، إذ يعرض عليها حبه، لكنها لا توافق، وعندما يتجاوز حدوده تصده بالضرب والدفاع عن نفسها كالنمرة، ثم تهرب من السيارة.

تبحث الزوجة عن عمل، لكن المصنع -مقر عمل زوجها- يرفض عمل النساء، لذا فإنها تعمل في مكان لتقطيع اللحوم عند امرأة ثرية غريبة، لكن سرعان ما تُطرد لأنها سرقت بعض أكباد الدجاج وأشياء أخرى صغيرة لتطعم صغارها، تضطر إلى أن توافق على تشغيل طفلها مكان والده، فتستخرج له شهادة طبية مختومة تُثبت تغيبه.

في المستشفى، حيث الأطفال ينتظرون علاج الأب الدجاجة بعد أن أوشكت على الموت

 

مصرع الدجاجة.. شمس الحرية تكشف وهم الحماية الزوجية

لا تكف الزوجة أثناء بحثها عن العمل عن رعاية الدجاجة وتطبيبها على أمل استعادة الزوج، مثلما تعيد المحاولات مع السحرة دون فائدة، ثم تطلب من الرجل المعجب بها أن يساعدها في البحث عن عمل جديد، وتنجح فيه، وحينها يُصبح لديها دخل، فتُحضر لأبنائها مأكولات لم يكونوا يتذوقونها في وجود الأب، مثلما استعادت أجهزتها المحجوز عليها بعد أن دفعت الإيجار المتأخر، وعندما واصل صديق زوجها مطاردتها فارضا عليها حبه، سلّطت عليه صاحب العمل الجديد فضربه، بينما كانت تقف تشاهده في تشفٍّ وتحدٍّ وكبرياء، فأين كان يختبئ كل ذلك؟

هذه المرأة التي لا نعرف اسمها، كما لا نعرف اسما لأي من الشخصيات الأخرى، فحين ينادي بعضهم بعضا فإنهم يتكلمون بضمير الغائب، أو يستخدمون الألقاب التي يستخدمها الخدم مع أسيادهم، لكن الأهم أنه خلال هذه الرحلة القاسية تكتشف هذه المرأة أنها قادرة على أن تعيش في مستوى حياة أفضل بدون هذا الرجل الدكتاتور، بدون كلام كثير أو ثرثرة كذابة، كما أنها نجحت في حماية نفسها من الرجال.

لذلك لم يكن غريبا أو مستهجنا أنها ذات لحظة ستقوم بذبح الدجاجة، إذ أصبح جليا أنها آمنت بنفسها، ولم تعد تخشى غياب هذا المُتسلط الذي كانت تتوهم أنه يحميها بوجوده ويوفر لها الطعام، يبدو أنها كانت تعتقد أنها بدونه ستموت جوعا وخوفا، لكنها اكتشفت أنها لا تزال قادرة على مواصلة الحياة بشكل أفضل في غيابه، لذلك ذهبت إلى الطبيب كي تستخرج شهادة وفاة لزوجها، لكن المفاجأة أنهم بالمستشفى سيخبرونها بأنه ما زال حيّا، إذ وجدوه بين المشردين الذين لا ينطقون، فتصطحبه وتغسّله وتحاول أن تستعيده، وحين تفقد الأمل تقتله بأيد باردة، وكأنها تؤكد تحررها الكامل.

أثناء الاحتفال بعيد ميلاد الابن، فالأم ومن حولها الجيران والمعارف وزملاء الأب في العمل

 

رمزية الدجاجة.. كوميديا سوداء بين الواقعية والفانتازيا

لا شك أن الفيلم يجمع بين الأسلوب الواقعي الممزوج بالفانتازيا، والمُطعّم بحِس يمكن وصفه بالكوميديا السوداء. حدود الإطارات السينمائية وجماليات تكوينها – رغم القبح – يُعبر عن عين فنية تبحث عن الجديد والاختلاف، فالأماكن رغم واقعيتها تبدو أحيانا موسومة بالغرائبية.

وإذا كان الصرصار في “مسخ” كافكا لم يكن مجرد حشرة، بل وُظف كرمز للإنسان المقهور، فإن اختيار الزهيري تحويل بطله الدكتاتور إلى دجاجة لم يكن عشوائيا أو من فراغ، وإلا لماذا مثلا لم يحوله إلى ديك أو صرصار، أو أي شيء آخر، حيث تُوصف الدجاجة بأنها كائن ضعيف غير فاعل تثرثر وفقط.

كثير من تفاصيل الفيلم ومشاهده توحي بالعبثية، ليس فقط مشهد تحوّل الزوج لدجاجة، لكن أيضا لقطات ظهور الحيوانات، كالحمار والقرد الذي يقفز على زجاج السيارة، وكلب الحراسة الذي ينهش المرأة ويتسبب في طردها.

 

“لم أنظر إلى الفيلم كقضايا بل كمشاعر”.. عبثية الواقع

المخرج -الذي هو ذاته كاتب السيناريو- يُحمل فيلمه كثيرا من النقد الساخر من مشكلات اجتماعية واقتصادية، وإن بصوت هامس غير فج، كالنظرة للنساء والتحرش بهن، ورفض أن تعمل المرأة بجوار الرجل أو مكانه، لكنهم لا يمانعون في عمل الأطفال، وإضافة إلى جوانبه العبثية؛ اكتسب الفيلم بُعدا واقعيا من هيئة الشخوص وتصرفاتهم الذكورية، هؤلاء الرجال الموجودون في كافة درجات السلم الاجتماعي والوظيفي.

مَنْ يتأمل الفيلم يُدرك أن التفاصيل الإنسانية المتراكمة، خصوصا لتلك المرأة مع أولادها، أو من أجل أولادها هي أكثر شيء جعلنا نتعلق بالفيلم ويُعيدنا إلى الواقعية، وهذا لن يكون غريبا إذا سمعنا المخرج يقول: أنا لم أنظر إلى الفيلم كقضايا بل كمشاعر، كنت دائما أبحث عن مفاجآت فنية في العمل، مثل حركة ممثل، أو حادثة ما تثير المشاعر، كما تعاملت مع الفيلم كلوحات، قاصدا المتعة البصرية في الطرح.

إنتاج الفيلم.. ميزانية محدود لأبطال غير محترفين

بقي أن نشير إلى أن أبطال الفيلم ليسوا ممثلين محترفين، فبعضهم ممثلون مسرحيون، وبعضهم ظهر في أدوار ثانوية بعدد من الأعمال، أما البعض الآخر فلم يمثل أبدا.

شارك في إنتاج الفيلم أربع جهات من مصر وفرنسا واليونان وهولندا، حيث بدأ الإنتاج من الجانب الفرنسي، ثم شارك لاحقا من مصر المنتج والسيناريست محمد حفظي، مع ذلك صُنع الفيلم بميزانية محدودة جدا تبلغ 400 ألف يورو، وحصد جائزتين من مهرجان كان، واحتفى به النقاد في مهرجان كارلوفي فاري، مما يؤكد أنه ليس بالأموال وحدها تُصنع الأفلام السينمائية.