“زوجة جاسوس”.. صفحة من جرائم الاحتلال الياباني للصين

عدنان حسين أحمد

لم تتخيّل “ساتوكو” زوجة تاجر الحرير الدمث الأخلاق “يوساكو فوكوهارا” أنّ زوجها يمكن أن يخونها ذات يوم مع امرأة أخرى، حتى لو كانت أيقونة للإثارة والجاذبية والجمال، فهل يمكن أن يخون وطنه الذي وُلِد ونشأ وترعرع فيه؟

إنّ فيلم “زوجة جاسوس” (Wife of a Spy) للمُخرج الياباني “كيوشي كوروساوا” هو دراما تاريخية ورومانسية مُطعّمة بنَفَس جاسوسي يأخذنا من المدارات الذاتية لهذه الشخصيات إلى فضاءات غامضة عامة تنطوي على الكثير من الأسرار المُفجعة التي تتكشّف بالمصادفة.

 

وعلى الرغم من ولاء التاجر “يوساكو” لوطنه الأم، فإنه يقرّر في لحظة حاسمة أن يفضح سرًّا بربريا مُروعا وقع عليه، ويعلنه على الملأ الأعظم من دون أن يتردد لحظة واحدة، لأن الموقف الإنساني أكبر من قضية الانتماء الجغرافي لهذا الوطن أو ذاك، فهذا المواطن الليبرالي المتفتح لا يتكتّم على الجريمة، سواء أكانت صغيرة أم من العيار الثقيل الذي ترتقي إلى جرائم الإبادة الجماعية.

تُرى ما الذي رآه هذا التاجر حينما قرّر أن يترك زوجته “ساتوكو” في مدينة كوبي، ويسافر رفقة ابن أخيه “فوميو” إلى منشوريا الصينية بغية إيصال بضاعته والترويج لها في تلك المضارب النائية؟ ولمن يبوح بهذا السرّ الوحشي الذي قد يقلب مصير النظام الإمبراطوري رأسا على عقب، أو يُربكه في أقل تقدير؟

رياح التغريب.. متنفس المواطن الياباني في ظل الدكتاتورية

يلعب المخرج “كيوشي كوروساوا” على حالة التغريب التي تعيشها هذه الأسرة الثريّة، أو بقية العوائل الميسورة الحال التي تقلّد الحياة الغربية، وتجد في سلوكها ومنظومة قيمها الاجتماعية والأخلاقية رئة جديدة تتنفس من خلالها لتتجاوز حالات الكبت والقمع والاستلاب التي يعيشها المواطن الياباني، وذلك في ظل النظام الدكتاتوري والدولة العميقة التي لا تتردد في مصادرة الحريات الشخصية والعامة.

ولو تمعّنا في شخص “يوساكو” لوجدناه حُرّا ثريا ومتفتحا، لكنه لا يختلف عن زوجته “ساتوكو” التي تعيش حياة اجتماعية خالية من الهموم والمشاكل اليومية، فهي منهمكة في تصوير أفلام الهواة لأصدقاء العائلة الذين انغمسوا مثلهما في التغريب الشديد، سواء بملابسهم أو بأذواقهم أو بطرائق تفكيرهم، الأمر الذي جعلهم ينفصلون عن الواقع الياباني، لكنهم يعودون إليه مضطرين كلّما دفعتهم إليه سليقتهم الأولى التي تُذكّرهم بالزمان والمكان والأحداث المحلية والوطنية.

“تايجي” الذي ترقّى إلى منصب قائد الشرطة العسكرية في المدينة، وأصبح الآمر الناهي هناك

 

لا يحب “يوساكو” الترويج للحرب، لأنه يمقتها في أعماقه ويعرف ويلاتها، والكوارث التي تخلّفها أينما حدثت، حتى في البلدان المتطورة، لكن زوجته تميل إلى السياسة وتنغمس فيها في بعض الأحيان، خصوصا حينما تلتقي بصديقها القديم في سنوات الدراسة “تايجي” الذي ترقّى إلى منصب قائد الشرطة العسكرية في المدينة، وبدأ يحذّرهم من رياح التغيير التي يمكن أن تجتاح البلد وتأخذه إلى مستقبل مجهول.

تجارب الطب والتعذيب.. جرائم الجيش الياباني في الصين

أشرنا سلفا إلى أنّ الفيلم يتنقّل بين الذاتي والموضوعي على أكثر من صعيد، ويوسّع دائرة الأحداث، بل يمنحها بُعدا “ميتا سرديا” (ما وراء السرد) يتمثّل بإجراء التجارب الجرثومية والكيميائية على سكّان منشوريا الصينيين، إذ تبيّن من الوثائق والسجلات وبعض الأفلام المصورة بأن الوحدة العسكرية 731 من الجيش الياباني أخضعت الآلاف من المواطنين الصينيين من النساء والرجال والأطفال لتجارب وحشية قاسية ومحرّمة وغير إنسانية أسفرت عن إصابتهم بالجمرة الخبيثة وعدد من الفيروسات مثل الطاعون والكوليرا، أو قامت بتشريحهم من دون تخدير لمراقبة نتائج هذه الأمراض الفتّاكة.

 

إن القراءة الميتاسردية تفتح مخيلة المتلقين على جرائم ربما لم يركِّز عليها الفيلم، لكن ذاكرة المشاهدين الجمعية تستدعيها وتجعلها حاضرة أمام الأبصار، فلا غرابة أن يُعّد هذا الفيلم من قبل بعض المتطرفين اليابانيين فيلما معاديا لليابان، وربما ذهبوا أبعد من ذلك، فقالوا إنه “يشوّه صورة السلطة اليابانية خلال الحرب اليابانية الصينية الثانية والحرب العالمية الثانية أيضا”. وإذا كان النازيون في أوروبا لم ينجوا من العقاب الصارم، فإن رجال هذه الوحدة العسكرية قد أفلتوا من العقاب بعد أن قدّموا هذه الوثائق إلى أمريكا التي سحقت الشعب الياباني بقنبلتي هيروشيما وناغازاكي.

من الفظائع التي ارتكبتها هذه الوحدة اليابانية التجويع حتى الموت، والتعليق المقلوب حتى الاختناق، ونفخ أجساد الضحايا حتى يُصابوا بالسكتة القلبية، وغير ذلك من أساليب التعذيب الوحشية.

تسليم الوثائق إلى العدو.. كي يرتاح الضحية في رقدته الأبدية

حينما يسلّم “يوساكو” هذه السجلات التي تتضمن أعداد الضحايا الصينيين إلى أمريكا، وتكشف ما تعرضوا إليه من قمع وتعذيب وقتل؛ تهتز ثقة زوجته قليلا، لكنه يقنعها في خاتمة المطاف بأن الجاني يجب أن يُعاقب، وذلك كي يرتاح الضحية في رقدته الأبدية.

أمّا الشك الفردي الذي نوّهنا إليه فيتمثل باصطحاب “يوساكو” لامرأة من منشوريا، لكنها لاقت حتفها كما أشار ابن أخيه “فوميو”؛ الأمر الذي يحرّك شكوك زوجته قبل أن تستوعب الموضوع الذي يتعلق بضحايا التجارب البيولوجية والكيميائية.

صورة تجمع تاجر الحرير “يوساكو فوكوهارا” مع زوجته “ساتوكو”، تبدو الزوجة مهزوزة الثقة بزوجها بسبب تسليمه لأمريكا سجلات تتضمن تعرض ضحايا صينيين للتعذيب من قبل اليابانيين

 

يتلاعب “كيوشي كوروساوا” بالنهاية، فيحوّلها من قصة ميلودرامية إلى مأساة مُفجعة حينما يقصف مدينة كوبي التي يعيش فيها “يوساكو” وزوجته كما حدث في فيلم الرسوم المتحركة “قبر اليراعات” لـ”إيزاو تاكاهاتا”، بينما تتجلى اللقطة الأخيرة بتفاصيل بنائية جريئة لتفحص مفاهيم الحب والثقة والقناعة الفكرية التي تتولّد لدى الزوجين، خصوصا وأن “ساتوكو” قد ضحّت بكل شيء كي تُبقي زوجها خارج السجن.

يتميز هذا الفيلم ببنيته الرصينة المتماسكة، وإيقاعه السريع الذي يتناغم مع توتر الأحداث وتصاعدها في مسرح الأحداث، سواء في الريف الياباني التابع لمدينة كوبي، أو في الريف الصيني لمنشوريا، كما أنه الفيلم الأول لـ”كيوشي كوروساوا” الذي تدور أحداثه في الماضي البعيد نسبيا، ويركز فيه على اهتزاز الثقة بين زوجين يابانيين، لكنهما يظلان مُخلصين لبعضهما، وهما يتطلعان إلى مستقبل أفضل خال من البشاعات والفظائع والحروب.

“يوساكو” و”ساتوكو”.. اشمئزاز الشخصيات من تمجيد الحرب

ثمّة تركيز واضح على الشخصيتين اللتين تناصفتا البطولة، وهما “يوساكو” و”ساتوكو” اللذان ينتميان إلى الطبقة المترفة، لكنهما لا يهملان كليا بقية الطبقات الأخرى، أو حتى قاع المجتمع نفسه، فهو يعلن اشمئزازه من تمجيد الحرب أو الترويج لها مهما كانت الأسباب، الأمر الذي يجعله محبوبا في دائرة الأصدقاء والمعارف الذي يلمسون فيه الإنسان الليبرالي والكوني الذي لا يعترف بالحدود الجغرافية، قدر تعلّق الأمر بإنسانية الإنسان سواء أكان شرقيا أم غربيا، ثريا أم مُعدما، لذلك يتعاطف معه المُشاهد كثيرا ويحبه إلى حد كبير.

ثمة مواقف مرحة تقوم بها “ساتوكو” بالأبيض والأسود حين تسرق بعض المال من الخزنة، لكن يتبيّن فيما بعد أنه مشهد مُنتزع من فيلم “فانتوماس” أدخله “يوساكو” من أجل تسلية أصدقائه الغربيين. حيث لعبت هذه التعالقات دورا في كشف أسلوب “كوروساوا” في صناعة أفلامه التي لا تجد حرجا في مقاربة التقنيات الأوروبية والأمريكية، أو التلاقح معها، أو الإفادة منها.

رائحة “هيتشكوك”.. شغف بالتجارب الفنية العالمية

يؤكد المُخرج “كيوشي كوروساوا” بأنه تأثر بعدد من المخرجين الأمريكيين مثل “دون سيغل” و”سام بيكنباه” و”توبي هوبر”، كما يعترف بتأثره بالمخرج البريطاني “ألفريد هيتشكوك”، وإفادته من مواطنه “ياسوجيرو أوزو” صاحب “قصة طوكيو”، ولا ينكر تعلّمه من الناقد السينمائي الياباني “هسّومي شيكاهيكو”، الأمر الذي يكشف عن شغفه وتعلّقه بالتقنيات والرؤى العالمية التي تمنح السينما بُعدا إنسانيا لا يفرط بمعطيات الفن والجمال والثقافة البصرية التي تختصر عشرات الكتب في فيلم سينمائي ناجح.

المُخرج الياباني “كيوشي كوروساوا” الذي تأثر بالعديد من المخرجين الأمريكيين، وتأثر بالمخرج البريطاني “ألفريد هيتشكوك”

 

أنجز “كوروساوا” أكثر من 30 فيلما روائيا طويلا وقصيرا، أبرزها “نبض” و”مستقبل مشرق” و”سونيتا طوكيو” و”القصاص” و”الشيفرة السابعة” و”رحلة إلى الساحل” و”قبل أن نتلاشى”.

وجدير بالذكر أن “كيوشي” كاتب سيناريو وممثل وناقد سينمائي وأستاذ في جامعة طوكيو للفنون، ونال جائزة أفضل مخرج أكثر من مرة، الأولى عن فيلم “الشيفرة السابعة” من مهرجان روما السينمائي عام 2013، والثانية عن فيلم “رحلة إلى الشاطئ” في مهرجان “كان” عام 2015، والثالثة جائزة الأسد الفضي عن فيلم “زوجة جاسوس” في مهرجان البندقية السينمائي عام 2020، أمّا في مهرجان الجونة السينمائي الذي طوى نسخته الرابعة في أكتوبر/تشرين الأول 2020، فقد خرج منه خالي الوفاض رغم الأهمية الفنية والفكرية والتاريخية.