“زيندر”.. بصيص أمل يخترق سوداوية وكر الإجرام في المدينة

“أنا ابنة زيندر”، بهذا الإعلان تُمهّد المخرجة النيجرية “عائشة ماكي” لتبيان شدة صلتها بالمدينة التي يحمل وثائقيها الجديد اسمها “زيندر” (Zinder)، فهي ابنة المدينة الغارقة في البؤس والفقر، التي أضحت اليوم موطنا للعصابات الخطيرة.

لم ترغب ابنة المدينة بنقل صورة سطحية عنها، بل عمدت إلى الغوص في تفاصيلها، وذلك لكشف الأسباب الحقيقية التي أوصلت سكانها إلى ما هم عليه اليوم، إلى جانب مفاتحة المشاهد برغبتهم الصادقة في تحسين أحوالهم رغم إهمال الدولة لهم ولمناطقهم.

شارك فيلم “زيندر” في المسابقة الرسمية للدورة الأخيرة من المهرجان السويسري للفيلم الوثائقي “رؤى الواقع”، وقد أرادت المخرجة -كما أعلنت في مفتتح فيلمها- نقل قصص أبناء إلى العالم عن قرب شديد.

“عصابات هتلر”.. أشباه المتمرد الأمريكي الذي لا يُقهر

الاقتراب من مواقع العصابات الخطيرة لا يقدر عليه إلا من يحصل على ثقتها ويفهم لغتها، وهذا ما تتمتع به المخرجة التي أزالت بسبب انتمائها للمدينة حدودا مانعة بينها وبين من قابلتهم ورافقتهم في مدينة “زيندر” وأَحياء “كرا كرا” المعزولة، وكأن لعنة مرضى الجذام الذين أقام لهم العهد الاستعماري موطنا فيها ما زالت تلاحقهم حتى اليوم.

رغم التمهيد السينمائي الجميل المصحوب بموسيقى رائعة لمشهد المدينة الخارجي المختلط بأصوات الرياح العاصفة؛ فإن المشهد التالي له في وسط المدينة يُولد إحساسا مغايرا، حيث أفراد عصابات مفتولي العضلات يقودون دراجات نارية، ويحملون لافتات رُسم على قماشها الصليب المعقوف، إلى جانب كتابة اسم “هتلر”، فهي “عصابات هتلر” كما تسمي نفسها، وتجتمع في قصر يحمل اسمه دلالة تجهل العصابة في الواقع حقيقته. يظهر ذلك من خلال سؤال السينمائية لهم عن مصدره.

يحيل رجال العصابة الاسم إلى متمرد أمريكي محارب لا يُقهر، إذ يعجز رجال الشرطة عن الإمساك به، لذا يقلدونه ويدّعون أنهم أشباه له، وفي قصرهم يتدربون لتقوية أجسادهم وعضلاتهم، فبها يخيفون خصومهم، كما يتباهون بقسوتهم مع كل من يفكر في اقتحام منطقة “كارا كارا” موطنهم المعزول.

“سينيا بوي” الذي لا يعمل في القصر سوى على تقوية جسده

“سينيا بوي” والمجرم ومهربة المحروقات.. أبطال الفيلم

أكثر المعلومات عن نشاط “القصر” وتدريبات رجاله يسمعها الوثائقي من شاب ترافقه كاميرات الوثائقي طويلا يدعى “سينيا بوي”، كما ترافق سائق التاكسي (توك توك) “باوو” ومهربة المحروقات “رمسيس”.

يشكل هؤلاء الثلاثة الركائز الأساسية في القصة، إذ تعتمد المخرجة “عائشة ماكي” على وجودهم الحيوي في نقل مشهد المدينة بكامل أبعاده. فـ”سينيا بوي” يريد تأسيس شركة أمنية خاصة من أبناء المنطقة، أما “باوو” -الذي ترك عالم الجريمة رغم أنه ما زال يتذكر فظاعاتها- فهو يحاول بما وسعه أن يساعد من يقدر على انتشاله من بؤسه.

بينما تُسهم “رمسيس” بعملها في تهريب المحروقات بين النيجر ونيجيريا على توفير فرصة عمل لآخرين من سكان المدينة، وتعيل بما تحصل عليه من بيعه في السوق السوداء أفراد عائلتها الفقيرة.

عملية بيع المحروقات المهربة علنا في الشوارع برفقة مُهربين من المحتمل تعرضهم للخطر

عدسات الكاميرا.. غوص في أسرار المدينة العميقة

لا تكتفي صانعة الوثائقي بالحوارات مع أبطالها الثلاث، بل تذهب للغوص عميقا في أرجاء المدينة لتنقل تفاصيل عيش سكانها وما يُعانوه من حرمان، حيث يُدفع شبابهم وأطفالهم للانضمام إلى عصابات وتنظيمات متطرفة، وقسم من بناتهم يضطررن لبيع أجسادهن، ويتعرضن لانتهاك رجال قساة، وكان من بينهم سائق (التوك توك) الذي وصف لها كيف كان يقوم بصحبة شلة من الأشرار باغتصاب الفتيات جماعيا، من دون أدنى تأنيب ضمير.

مشهد المدينة منقول أغلبه بعدسات كاميرا ذكية وجريئة لا تخشى الدخول إلى أشد المناطق خطورة، حيث تُرافق كاميرا المصور “جولين بوس” عمليات تهريب المحروقات برفقة مهربين من المحتمل تعرضهم للخطر خلالها، وفي أحيان كثيرة كانت تقترب من شوارع لا أمان فيها ليلا.

أحد الشبان الذين تعرضوا لطعنات آلات حادة بسبب تورطهم في أعمال عنف تنتهي بسجنهم

آثار السكاكين والآلات الحادة.. جراح البطالة

من خلال أسئلة الفيلم تتقدم أسباب البطالة وانعدام فرص العمل على غيرها من الأسباب التي تدفع شباب المدينة الفقيرة والمناطق المجاورة الأخرى للتورط في أعمال عنف، وغالبا ما ينتهون بسببها في السجون.

تركز صانعة الوثائقي على إبراز حصيلة ما يفعله العنف بالشباب، حيث تقرب عدسات كاميرتها من جروحهم المُندمِلة التي تشي بتعرضهم لطعنات سكاكين وآلات حادة خلال صراعاتهم السابقة، لكن آثارها ما زالت باقية لا يمحوها الزمن من فوق أجسادهم.

تدفع البطالة المتدربين والمجتمعين في “قصر هتلر” للانشغال بأجسادهم وتقوية عضلاتهم، إلى جانب اللهو داخله للقضاء على الوقت الفائض عندهم. وفوق كل ذلك فإن سوء معاملة الجهات الحكومية لهم، ونظرة رجال الشرطة لسكان المنطقة كمجرمين وقتلة؛ يزيد من إحساسهم بالظلم والتمييز بينهم وبين بقية أبناء البلد.

لكن وسط كل ذلك البؤس يبرز أمل وميل لإيجاد حلول فردية، خارج إطار السلطات الرسمية.

الذهاب إلى المساجين لإقناعهم بفكرة المشاركة في تأسيس شركة خدمات أمنية خاصة

“سينيا بوي”.. تأسيس شركة أمنية بتمويل من السجناء

ينشط “سينيا بوي” لجمع المبلغ المطلوب لتأسيس شركة خدمات أمنية خاصة، ويذهب إلى السجون لإقناع السجناء الشباب بالمشاركة فيها، وينقل السجناء الفكرة إلى بقية زملائهم، فيشرحون لهم دوافعها ويمنحونهم وعود الأمل في الحصول من خلالها على عمل يجنبهم العودة للسجون ثانية.

تدخل صانعة الوثائقي بين السجناء، وتنقل الأحاديث التي تلي زيارة صاحب المشروع إليهم، ويتركز معظم الحديث على أهمية تجنب العنف وصراع العصابات الذي لا طائل منه، ويأملون بوجود عمل يبعدهم عن المنظمات المسلحة المتشددة، ويشجع بعضهم بعضا على المشاركة في المشروع ماديا، بما يتوفر عندهم من مقتنيات بسيطة لإكمال مستلزمات تأسيسه.

“باوو” هو رئيس العصابة السابق التائب الذي يحاول إقناع المتورطين بأعمال عنف بالعودة إلى الحياة السوية

“باوو”.. يد المساعدة للتحرر من عالم بائس

يذهب رئيس العصابة السابق “باوو” إلى المناطق الخطيرة، ويحاول إقناع المتورطين بأعمال عنف أو النساء المتورطات بممارسة الدعارة بالعودة إلى الحياة السوية، وقد وجد في المساعدة التي قدمتها له منظمة تطوعية مدنية للتخلص من عالمه البائس، ونجاحه في تجاوز واقعه بفضلها؛ نموذجا وتجربة يمكنه من تقديم ما تعلمه خلال دوراتها للأشخاص المحتاجين للنصيحة والدعم.

يدور “باوو” في المدينة ليلا ويجوب أكثر شوارعها خطورة، بحثا عما يمكن تقديمه للمتورطين في أعمال غير قانونية، حيث يقابل مراهقة وجدت نفسها خارج الحدود في بيت دعارة، وتحكي له كيف صدقت امرأة جاءت إليها وعرضت عليها عملا شريفا في نيجيريا، لكنها اكتشفت بعد أن تركت بلدها بأنها قد خُدعت وأُجبرت على بيع جسدها، وهنا يقترح عليها “باوو” إرجاعها إلى أهلها، وينصحها بمواصلة دراستها التي تركتها.

يركز الوثائقي على موضوع التعليم ودوره في تحسين أحوال سكان “كارا كارا”، فقد شّدد أغلب المتحدثين معها على اعتبار غياب فرص التعليم سببا رئيسا في انحراف الشباب والأطفال.

“رمسيس” هي واحدة من أكثر المُهربين شهرة على الحدود بين النيجر ونيجيريا

“رمسيس”.. مغامرات المهرّبة التي لا تخشى حرس الحدود

أصبحت عملية تهريب المحروقات والمتاجرة غير الشرعية بها وسيلة شائعة في المناطق المتاخمة للحدود بين النيجر ونيجيريا، وذلك بسبب شح فرص الحصول على مصادر عيش، فعلى طول الطريق ترى باعة البنزين والمازوت وهم يعرضون بضاعتهم ويبيعونها لأصحاب الدراجات النارية من دون خوف.

من بين أكثر المهربين شهرة في تلك المناطق “رمسيس”، وهي المرأة التي لا تخشى المغامرة، وتواظب على التوغل داخل حدود البلد الجار لشراء المحروقات، ثم نقلها سرا إلى منطقتها.

يقدم الوثائقي جانبا من حياة “رمسيس” والمسؤولية الثقيلة التي تقع على عاتقها لرعاية عائلتها، ومن جانب آخر لتوفيرها فرص عمل أسود لأبناء منطقتها. إنها لا تشعر بالحرج، ويعاملها الناس باحترام، لكن الأخطار تبقى ماثلة أمامها، خاصة دوريات التفتيش التي قد تعرضها لخسائر كبيرة حال وقوع ما تهربه بأيدي رجال حرس الحدود.

مجموعة من الشباب يشتغلون في تكسير حجارة جبل علّه يسهم في تأمين بعض من مستلزمات عيشهم

تكسير الجبال من أجل الخلاص.. نافذة وثائقية متزنة

تكشف مصاحبة عمليات التهريب وكشف أساليبها الملتوية عن رغبة صانعة الوثائقي “عائشة ماكي” في تقديم صورة متكاملة لما يجري في “زيندر”، وتوثيقه بصدق من دون مبالغة أو انحياز، حيث تدفعها المسؤولية الأخلاقية كسينمائية لعرض رغبة الناس في التخلص من واقعهم المتردي.

تذهب من أجل ذلك لتصوير مشهد يعبر عن الحالة، تُظهر فيه مجموعة من الشباب -بينهم “سينيا بوي”- وهم يشتغلون في تكسير حجارة جبل، وهو بلا شك عمل صعب وقاسٍ، لكنه يسهم في تأمين بعض من مستلزمات عيشهم، وربما يعين أيضا على تأسيس الشركة الأمنية الخاصة.

لهذا ينتقل الوثائقي معهم لتثبيت مشهد آخر تظهر فيه مجموعة من الشباب لحظة تلقيها تدريبا شبه عسكري يُشرف عليه مدرب مختص، ويتلقون بحماس تعليمات المدرب، وكلهم أمل في أن يرى مشروعهم النور ليتخلصوا به من البطالة والفقر اللذين يدفعان كثيرا منهم لعالم العصابات.

فيلم “عائشة ماكي” بورتريه رائع عن مدينة “زيندر”، ورغم سوداويته المتأتية من واقعها الصعب، فإنه يشع أملا، ويفتح نافذة من خلالها تمكن رؤية المشرق داخل الإنسان مهما قست عليه الحياة وتزايدت عليه المحن.