سارقو المتاجر.. تفكّك يصنع أسرة

 

عبد الكريم قادري

العائلة؛ من المواضيع التي برع المخرج الياباني هيروكازو كوري إدا (مواليد 1962) في تناولها في معظم أفلامه، وأصبح هذا النوع من الأفلام يمثل بصمة شخصية له بعد أن استطاع أن يلج إلى أعماق الأُسر، وذلك من خلال تطرقه إلى مشاكلها وهمومها بطريقة يجعل من خلالها المُتلقي -مهما كانت جنسيته وعمره- شريكا معه، حيث يُحس بأن ما يُقدمه في هذه المواضيع هو جزء من حياته وعائلته.

من هنا أصبحت مواضيع هذا المخرج إنسانية بدرجة كبيرة تلامس جوهر البشر، وتعزف على وتر أحاسيسهم وعواطفهم، وهذا كحال فيلم “من شابه أباه فما ظلم” (2013)، أو “أختنا الصغيرة” (2015)، وفيلم “قبل العاصفة” (2016)، وقبلهم فيلم “هانا” (2006)، وغيرها من الأفلام الأخرى التي ركز فيها هيروكازي على العائلة وجعلها ثيمة رئيسية فيها.

فيلم “سارقو المتاجر” (2018) لم يبتعد عن هذه القاعدة، بل هو امتداد موضوعاتي لهذه الأفلام التي جعلت من المخرج هيروكازو كوري إدا من بين أهم المخرجين المعاصرين في العالم وأنشطهم، وقد صنع الفيلم المذكور الإجماع في مهرجان “كان” السينمائي بعد أن قرّرت لجنة التحكيم منحه الجائزة الكبرى وهي “السعفة الذهبية”، ناهيك عن أن اليابان اختارته ليكون ممثلها الرسمي في جوائز الأوسكار.

 

يوري.. احتضان طفلة معنّفة

يتناول الفيلم حياة أسرة يابانية فقيرة، يعتمد ربّ الأسرة أوسامو (ليلي فرانكي) وابنه الطفل الصغير شوتا (كايري جوي) على سرقة بعض الحاجيات من المتاجر.

وفي إحدى المرات أثناء عودتهما إلى البيت بعد أن قاما بالسرقة؛ وجدا على شرفة أحد البيوت طفلة صغيرة تتلوى جوعا وبردا، فاحتضنها الأب وحملها معهما إلى بيتهم، حيث وجدوا وقتها آثار الضرب والكدمات على جسدها، وبعد أخذ وردّ من قبل أفراد الأسرة؛ قرروا أخيرا الاعتناء بها وجعلها فردا من أفراد هذه الأسرة الغريبة والمكونة من الجدة والرجل وزوجته وأختها المراهقة والطفل والوافدة الجديدة “يوري”.

تنقلب الأمور رأسا على عقب بعد أيام، بعد أن فتحت الشرطة تحقيقا معمقا في عملية اختفاء هذه الطفلة، وهو الخبر الذي تناولته وسائل الإعلام بكثرة، وهذا ما جعل الأسرة في حيرة من أمرها، خاصة أنها لم تترك الطفلة تعود لأسرتها خوفا من التعنيف الذي تتعرض له، كما أن الطفلة رفضت ذلك بشكل قطعي، ناهيك عن القطرة التي أفاضت الكأس؛ وهي وفاة الجدة. من هنا تتشابك القصة وتتعقد، وتنكشف العديد من الأسرار التي كانت في طيّ النسيان.

احتضنت العائلة الطفلة “يوري” رغم علمهم بأن الشرطة تشتبه بأن الأمر اختطاف، لكن الأسرة رغم فقرها لم تتركها، لأنها تخاف أن تتعرض إلى تعذيب من أسرتها.

العائلة احتضنت الطفلة “يوري” رغم علمهم بأن الشرطة تشتبه بأن الأمر اختطاف، لكن الأسرة رغم فقرها لم تتركها، لأنها تخاف أن تتعرض إلى تعذيب من أسرتها

 

اليابان.. الوجه الآخر

أصبحت اليابان في نظر كثيرين حول العالم في السنوات الأخيرة مثالا للدولة المتقدمة في كل شيء، لدرجة أنها تحولت إلى “كوكب” حسب تعبير الكثيرين حين يذكرونها، وقد جاء فيلم “سارقو المتاجر” ليُصحح هذه الصورة ويقوّمها، ويظهر وجه اليابان الذي لا يعرفه الكثيرون؛ اليابان العميقة، حيث فئة واسعة من المجتمع لا تجد ما تأكله، ولا حتى مكانا تأوي إليه، فالموت أصبح يُشكل هاجسا بالنسبة للفقراء، لأن عملية الدفن تكلف الكثير من المال.

هذا ما عكسته عائلة أوسامو في الفيلم، والتي تقتات من خلال سرقة الوالد والطفل للمتاجر، ناهيك عن عمل أخت الزوجة المراهقة في مجال الدعارة المُقننة، ليعود كل فرد فيهم مساء إلى البيت الصغير الضيّق لمحاولة التعايش مع هذه الظروف وصناعة الحياة والدفء.

ورغم اختلاف كل فرد في هذه العائلة تتواصل الأحداث بعد أن تنكشف سرقة الطفل، حيث تتم ملاحقته من قبل أصاحب المتجر، لهذا يقرر أن يرمي نفسه من أعلى الجسر، فيسقط ويُصاب ويُنقل إلى المستشفى، ليعرف المشاهد بعدها أن هذا الطفل مشرد وقد احتوته هذه الأسرة، ناهيك عن تمكن الشرطة من معرفة مكان الطفلة “يوري” المختفية، وحينها يتم القبض على أفراد هذه الأسرة وهم متلبسون بمغادرة البيت، وبعد التحقيق تعرف الشرطة بأنهم دفنوا الجدة في البيت رفقة جثة أخرى تعود للزوج الأول لزوجة ربّ الأسرة.

وهكذا فقد استطاعت هذه الأسرة المفككة أن تصنع عائلة رغم الانحراف الذي عرفته في الكثير من المحطات، لكن بشكل ما؛ ينقل الفيلم مستويات من هذا الانحراف والخواء الروحي الذي باتت عليه يابان اليوم رغم التقدم التكنولوجي المذهل، مما يعني أنها تتقدم في شيء وتتراجع في أشياء.

اليابان أصبحت في نظر كثيرين حول العالم في السنوات الأخيرة مثالا للدولة المتقدمة في كل شيء، لدرجة أنها تحولت إلى “كوكب” حسب تعبير الكثيرين حين يذكرونها

 

تبرير الانحراف وخلق التعاطف

جعل المخرج المشاهد يتعاطف مع أفعال أبطال الفيلم وشخصياته، وبرّر الانحراف كمسألة السرقة من المتاجر بأنها سرقة المضطر لسدّ الرمق، كما برر اختطاف الطفلة الصغيرة بأنها كادت تموت بردا وجوعا، ناهيك عن التعذيب الذي كانت تتلقاه من والديها.

هذا التقبّل ليس من السهل زرعه وإقناع المشاهد به، بل هو انعكاس لقوة قصة الفيلم وطريقة سردها، بالإضافة إلى عنصر التمثيل الذي برع فيه الممثلون لدرجة أنهم أزاحوا الجدار المعنوي بين المشاهد وشخصيات الفيلم، حتى أصبح يراهم كأنهم شخصيات حقيقية مأخوذة من الواقع، ليتماهى معهم ومع أفعالهم.

وهنا نذكر على وجه الخصوص القدرة الكبيرة التي أظهرتها الطفلة (مييو ساساكي) حين أدّت دور “يوري”، فعلى الرغم من أن سنها آنذاك لم يتجاوز ست سنوات، فإنها استطاعت أن تعكس دور الطفلة المنطوية على نفسها في بادئ الأمر ثم المقهورة، إلى أن وصلت إلى مرتبة الرضا والفرح مع أسرتها الجديدة. ولم تنعكس هذه الانفعالات على وجهها كحركات فيزيائية فقط، بل كأسلوب مقنع ونظرات عميقة وحركة عامرة بتفاصيل الشخصية التي تؤديها.

فيلم “سارقو المتاجر” يعتبر من بين أهم الأفلام التي أُنتجت سنة 2018

 

البناء السردي.. مراوغة المشاهد

من الأشياء التي لا يمكن الاختلاف حولها هو القوة الكبيرة التي يتمتع بها سيناريو الفيلم (كتبه المخرج)، والذي يمكن رسمه بسهولة على ورقة بيضاء كتركيبة هندسية، وتحويله كعمل نموذجي وقالب جيد للبناء السردي في السيناريو، حيث أظهر المخرج/كاتب السيناريو قدرة على مراوغة المشاهد، وكسر أفق توقعه في العديد من المحطات، فمن المستحيل أن تكتشف نهاية العديد من القصص الثانوية أو الرئيسية في الفيلم، أو تستبقها بتوقعات معينة، من بينها معرفة أصل الطفل، أو معرفة أصل الفتاة المراهقة التي تشتغل في مؤسسة الدعارة، أو تكتشف الجثة التي كانت مدفونة في البيت وتعود إلى الزوج الأول للزوجة نبويو شيباتا (ساكورا إندو).

ناهيك عن العديد من التفاصيل الأخرى التي قدمها المخرج كمقالب درامية أثرت الفيلم بعواطف جياشة، وجعلته يداعب الأحاسيس ويسكنها، وأسست لبؤر توتر رفعت مستوى الفيلم، من بينها انتظار الأب أن يقول له الطفل “أبي”، لكن الطفل رفض ذلك، حتى بعد أن دخل الأب السجن وخرج منه واعترف بأخطائه وقرر أن يستقيم، أما الطفل فتم تحويله إلى دار رعاية، ومن حين لآخر كانا يلتقيان، وفي إحدى المرات قال له الطفل “أبي”، وكأن هذا الفعل قد جاء هدية من المخرج، وتفسيرا لما سبق أن زرعه في الفيلم، وهي الجملة التي كثيرا ما أسست لحوار ينتهي غالبا برفض الطفل القاطع، لكنه عاد أخيرا عن رفضه، وخاطب بها الرجل بعد أن استشعرها فعلا.

يعتبر فيلم “سارقو المتاجر” من بين أهم الأفلام التي أُنتجت سنة 2018، حيث أظهر قدرة المخرج على التعاطي مع موضوع الأسرة ومشاكلها بشكل ذكي، وبصيغة العارف بخباياها وزواياها، وقد حظي العمل بتنويه كبير من النقاد، ونجح على مستوى الجماهير، وتم عرضه أول مرة في الشرق الوسط وشمال أفريقيا في الدورة الثانية لمهرجان الجونة السينمائي التي انعقدت من 20 إلى 28 سبتمبر/أيلول 2018.