“ساكاوا”.. وجه إنساني آخر لمحتالي الإنترنت

محمد موسى

يَعرفهم كل من يدخل إلى عالم الإنترنت، وبالخصوص من يستخدمون الرسائل الإلكترونية، حتى تحولوا إلى تفصيل لا يتجزأ من تجربة الوجود على الشبكة العنكبوتية. هم محتالو الإنترنت الذين يملؤون أحيانا صناديق رسائلنا الإلكترونية بمكاتيب على غرار: “لقد ورثت مبلغا ماليا كبيرا ونريد أن نحصل على رقم حسابك المصرفي من أجل تحويل المبلغ”، أو “أنا فتاة جميلة تبحث عن علاقة مع رجل جدي وصادق مثلك”.

سيكون هؤلاء المحتالون، والذين تناولهم الإعلام الغربي سابقا في تحقيقات صحفية، وأحيانا في تقارير تلفزيونية، موضوع الفيلم التسجيلي الكاشف كثيرا “ساكاوا”، الذي أخرجه البلجيكي ذو الأصول الغانية بن اسامواه.

بَذَلَ المخرج -على الأرجح- جهودا كبيرة لإقناع مجموعة من محتالي الإنترنت في غانا بالتعاون معه في هذا الفيلم الذي يكشف عن هوياتهم، لم يكن هَمّ الفيلم تحقيق مقابلات سريعة مع هؤلاء، بل اختار مُقاربة أكثر حميمية وكشفا، إذ عاش معهم لفترات طويلة، وسجل حياتهم اليومية، وتفاصيل دقيقة وطويلة من عملهم اليومي الذي يتألف في معظمه من الجلوس ساعات طويلة خلف شاشات الحاسوب للبحث عن ضحايا غربيين لغرض إيقاعهم في شباكهم، والاحتيال عليهم بطرق مُختلفة، من أجل الحصول على مبالغ صغيرة، وأحيانا كبيرة منهم.

 

أمام الحاسوب.. يوم عمل روتيني

يبدأ المخرج بمشهد موح لبعض الشباب والشابات يجلسون في غرفة مظلمة قليلا، ينيرها الضياء الذي يصدر من شاشات الحواسيب المحمولة، لا تختلف جلسة هؤلاء الأفارقة التي غلبت عليها الجديّة، عما يُمكن أن تراه في أي مكتب للعمل حول العالم، بيد أن الفرق أن الغانيين كانوا مشغولين بالاحتيال على رجال ونساء من دول بعيدة، وإرسال رسائل تتضمن وعودا بالثراء، وتبادل عواطف كاذبة، على أمل أن يعثروا على من يُوافق أن يمنحهم بعض المال.

تتنقل المشاهد الأولى من الفيلم التسجيلي -الذي غاب عنه تماما التعليق الصوتي أو الشرح- بين الغرفة التي يعمل فيها الغانيون في مكان ما في البلد الأفريقي، ومشاهد من الحياة اليومية هناك، حيث يُهمين الفقر الكبير على أبناء تلك المنطقة من العالم، رغم جمال بلدهم الطبيعي الساحر.

من المشاهد المُهمة في افتتاحية الفيلم، تلك التي ركزت على شباب أفارقة كانوا يفككون كمبيوترات قديمة وصلت لهم من العالم الغربي، على أمل الحصول على أجزاء يمكنهم الاستفادة منها لاحقا، هذا المشهد يتضمن الكثير من الأهمية والترميز، ذلك أن هؤلاء الشباب الذين يتعاملون مع نفايات العالم الغربي، لا تشغلهم معايير الغرب الأخلاقية، كما سنرى في الفيلم.

الأرملة المحتالة التي بقيت مع ابنها بلا معيل، حيث أجبرتها ظروف الحياة إلى الانضمام لعصابة المحتالين الإلكترونيين

 

إكراهات الحياة.. الأرملة الشابة

“كيف يُمكن أن نحتال على هذا الرجل”، هذه ستكون الجملة المنطوقة الأولى في الفيلم، الذي كان يلتقط في دقائقه الأولى تفاصيل من الحياة اليومية لغرفة عمل شخصيات الفيلم. تقترب الكاميرا في المشاهد الافتتاحية من الفيلم من شاشات الحواسيب، لتنقل كيف أن بعض المحتالين، كان يسرق صور فتيات عاديات من الفيس بوك أو مواقع تواصل اجتماعي أخرى، ويحفظها عنده من أجل استخدامها في عمليات نصب قادمة، فبعضهم ينتحل شخصيات نسائية أو رجالية للإيقاع بباحثين عن علاقات عاطفية أو جنسية.

يركز الفيلم بعد المشاهد الافتتاحية على ثلاثة من المحتالين، ويتنقل بينهم عبر زمنه، مُسجلا التطورات والمطبات والخيبات التي مروا بها خلال زمن تصوير العمل التسجيلي.

أولى الشخصيات امرأة شابة نعرف في وقت لاحق من الفيلم أنها فقدت زوجها، لتبقى مع طفلها الوحيد بدون مُعيل، “كم من الوقت عليَ أن أنتظر قبل أن أطلب مالا”، تسأل هذه المرأة الرجل الذي كان يدربها على أولويات الاحتيال عبر الإنترنت، فيوحي لها الرجل نفسه، بأن التدريب الذي تحصل عليه سيكلفها مبلغا ماليا، وأنها إذا عجزت عن الدفع، فيجب عليها أن تتحول إلى عشيقة له.

يرافق الفيلم الأرملة الشابة في حياتها اليومية، ويصورها في مشاهد مُتقشفة شديدة الجمال، مثل ذلك المشهد الذي يصورها من الأعلى وهي تحتضن ولدها، أو المشهد الطويل الآخر، وهي تزور قبر زوجها المتوفي، وعِتابها لها بأنه تركها تواجه الحياة الصعبة.

وعندما تبدأ عملها في عصابة المحتالين الإلكترونيين، يسجل الفيلم التسجيلي مشاهد معبرة لها ولابنها، مثل ذلك الذي يظهر تملل الطفل الواضح من جلوسه الطويل إلى جانب الأُمّ المشغولة، أو تلك اللقطة التي تسجل تناول الطفل لطعامه قريبا من أُمّه.

شباب أفارقة يقومون بحرق الحواسيب وإعادة تدوير ما يصلح منها لاستخدامه في عمليات الاحتيال

 

نفايات العالم الغربي.. إعادة تدوير

لأن الفيلم اختار منذ البداية أن يبتعد عن أسلوب اللقاءات المباشرة فسنتعرف على الشخصيات عبر الحوارات التي يتبادلونها مع بعضهم، فنعرف مثلا أن بعضهم عمل سابقا في مهن قاسية كثيرا قبل أن يصل الى عالم النصَب الإلكتروني. يحدّث أحدهم صديقه وهما يراقبان بائعي الشوارع الذين يحاولون بيع بضائعهم في الشوارع التي تعج بالسيارات والناس قائلا: “لن أعود أبدا إلى بيع البضائع في الشارع”.

وفي حوار آخر نعرف أن أحدهم يحتاج إلى جهاز حاسوب من أجل عمليات احتياله، فترافقه الكاميرا وهو يجمع جهاز حاسوبه الجديد من بقايا أجهزة حاسوب قديمة، في دورة يائسة من الفراغ، فالنفايات التي وصلت من العالم الغربي، سيعاد تدويرها، لتنتج أجهزة تستخدم في الاحتيال على الغرب ذاته.

يقول أحد المحتالين مخاطبا صاحبه: “لا أملك أي تعاطف مع الناس البيض”، ويفسر هذا الشاب موقفه المتشدد هذا، فعندما كان يعمل مع سيدات من أصول بيضاء، كان شاهدا بنفسه على ما وصفه بالاستغلال الكبير له ولأبناء جنسه من الأفارقة.

يُكمل هذا الشاب الذي بدا الغضب واضحا كثيرا على ملامحه: هؤلاء النساء كن يشترين سمكا بأموال كبيرة كثيرة، وعندما يحين موعد دفع أجورنا، كنا نحصل على مبالغ ضئيلة للغاية.

مجموعة حواسيب في مكان عمل العصابات، حيث تتم عمليات الاحتيال الإلكتروني

 

الهجرة إلى الغرب.. الحلم الأزلي

يُعاود الفيلم الذي كان يتنقل دوريا بين المشاهد التي تصور الحياة اليومية لمجموعة المحتالين وتقاطعاتهم مع العالم الخارجي، دوريا إلى شخصياته الثلاثة، إلى جانب الأم الشابة، هناك شاب سيرافقه الفيلم وهو يخطو خطواته الأولى من أجل الهجرة من غانا إلى أوروبا.

يقول مدير مكتب سفر للشاب الذي لم يملك من قبل أي أوراق رسمية: “من أجل أن نحجز لك رحلة للخارج نحتاج لجواز سفر لك”، ويسجل الفيلم الطريق الطويل الذي يقطعه هذا الشاب من أجل الحصول على جواز سفر، حيث يتعثر بمطب تكاليف هذا الجواز، وهو الأمر الذي سيدفعه للعودة إلى الاحتيال الإلكتروني من أجل الحصول على النقود من هناك.

أما الشخصية الثالثة فهي لأب شاب، سنتعرف عليه للمرة الأولى عندما كان يلعب مع ابنته الطفلة، هذه الشخصية هي الأكثر تمرسا في عالم الاحتيال الإلكتروني، فرغم ملاحمه وطبائعه الرجولية نراه وهو يُقلد في مشاهد مُغلفة بالكوميديا والقسوة، صوتا نسائيا من أجل الاحتيال على أمريكي مسّن يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية. “أحبك وأفتقدك كثيرا يا حبيبي”، وهكذا يهمسّ الأب الغاني بصوت نسائي على الهاتف، وهو يجلس القرفصاء خلف البيت الذي كان يعيش فيه.

مجموعة من المحتالين الإلكترونيين يقومون بمهامهم في إحدى المقرات في غانا

 

تمائم السحر.. مزج الثقافة الإسلامية والأفريقية

يتراوح اهتمام الفيلم بين التركيز على الحياة اليومية لشخصياته الثلاث، والبحث في المحيط العام الذي يعيشون فيه، فيصور على صعيد المشهد الاجتماعي العام، مشاهد غريبة كثيرا، من لقاءٍ لمحطة راديو محلية مع داعية إسلامي معروف في المدينة الصغيرة حيث تعيش شخصيات الفيلم.

يمتهن هذا الداعية السحر، ويمزج بين الطقوس الأفريقية والتراث الإسلامي، يزعم هذا الساحر أنه قادر عن طريق تمائمه على الإيقاع بالغربيين الأغنياء. الأمر الذي يستدعي الكثير من التعجب، أن هذا الساحر مقبول اجتماعيا في المحيط الذي يعيش فيه، حتى أن الإعلام يستضيفه، وهو أيضا يلقى الكثير من الاحترام من النصابين الإلكترونيين، الذين يطلبون مساعدته للإيقاع بضحاياهم.

يعترف والد الطفلة لأحد أصدقائه بأن ما يقوم به عمل صعب للغاية، فرغم أن بعض عمليات النصب تنتهي بالحصول على مال من الضحايا، فإن الكثيرين حول العالم أصبحوا واعين بما يجري من عمليات نصب على الإنترنت، ولا يقعون فريسة لها بسهولة. في مشهد من الفيلم تقترب الكاميرا من شاشة كمبيوتر أحدهم، حيث كانت صفحته المصرفية مفتوحة، والتي تظهر أنه تلقى للتو مبلغا ماليا من أحد الضحايا.

صورة لمحادثات مليئة بعبارات الحب التي تستخدمها الأم للإيقاع بزبائنها

 

عبارات غرام جامدة.. مشقة العمل الاحتيالي

سيكون الحظ بعيدا عن الأُمّ وطفلها الصغير، فضعف خبراتها في عالم الحاسوب والإنترنت تصعب عملها كثيرا، نرى هذه الأُمّ في مشاهد وهي متعبة للغاية، عندما كانت تعيد بتململ عبارات الحب ذاتها، مع زبائن من أجل أن تنال ثقتهم.

سيقود الفشل المتواصل الأُمّ الشابة إلى تغيير كبير في طريقة عملها، فبعد أن كانت تختفي خلف أسماء مستعارة على مواقع المواعدة العاطفية الإلكترونية من أجل الظفر بعلاقات مع رجال غربيين، فإنها تقرر أن تضع صورتها الحقيقية في هذه المواقع، بل ستوافق على أن تجري محادثات فيديو مع بعضهم، رغم المطالب الشاذة كثيرا التي يمكن أن تتلقاها في هذه المواقع، وكما أخبرتها إحدى العاملات المتمرسات في هذا النوع من الاحتيال الالكتروني.

أما الشاب الذي يطمح للهجرة للغرب، فهو يواجه صعوبات كثيرة في الحصول على مبلغ السفر، بينما يتلقى أب الطفلة أخبارا مُقلقة كثيرا حول ابنته، إذ إن الأخيرة تصاب بالملاريا، وهو الأمر الذي يزيد الضغوط عليه للحصول على المال.

في أحد المشاهد الختامية من الفيلم، كان الأب الشاب يواصل الحديث بالصوت النسائي نفسه إلى زبونه الأمريكي المسّن الذي يعيش في الولايات المتحدة، إذ ما زال الوقت غير مناسب لطلب النقود من هذا المسّن، على حسب قول الشاب الغاني.

شاب غيني من العصابة يقوم بتدريب زميلته على الاحتيال الإلكتروني، ويخبرها بأن الاحتيال يمكن عن طريق استغلال النساء

 

غياب الأحكام الأخلاقية.. الصورة تتحدث

فرضت المُقاربة الفيلمية الخاصة للمخرج، والتي تقوم على المراقبة التسجيلية الخالصة دون تدخل أو تعليق صوتي مُوجه، غياب أي أحكام أخلاقية من الفيلم، وهو أمر ربما يثير أسئلة أو غضبا ما عند البعض.

بيد أن هذه المقاربة ذاتها، ربما كانت أساسية من أجل صناعة الفيلم نفسه، إذ إن أي مُواجهة تقوم على أساس أخلاقي ما بين صناع الفيلم والمحتالين الإلكترونين، كانت يُمكن أن تعرقل أو تُوقف المشروع برمته، أو كانت ستقوده إلى لعبة تنس مملة بين اتهامات وتذكير بما تتركه عمليات الاحتيال من آثار نفسيّة ومادية على الضحايا، ودفاع عن النفس من قبل المحتالين، ينطلق من الحال الصعب الذي يعيشون فيه وانسداد أفقهم.

يدفع الفيلم بثنائية الجاني والضحية إلى الواجهة، دون أن يقترح أجوبة أو خلاصات معينة، فرغم أن الفيلم لم يتوقف أمام الضحايا، أو يثير قضيتهم بالتحديد مع المحتالين بسبب مقاربته الأسلوبية الخاصة، وبقي هؤلاء الضحايا في خلفية الأحداث كثيرا، حيث نراهم أو نسمعهم عبر أجهزة وكمبيوترات المحتالين؛ فإنهم كانوا حاضرين بشكل غير ملموس عبر زمن العمل التسجيلي، عبر صورهم التي كانت تظهر على الشاشة أحيانا مغطاة فيها وجوههم حفاظا على خصوصيتهم، وأحيانا أخرى عبر صدف مُهمة، مثل ذلك المشهد الذي يظهر أحد المحتالين وهو يذهب عن طريق برنامج “غوغل ستريت”، إلى بيت أحدهم في الولايات المتحدة، ليتفرج على المكان (الحلم) الذي يعيش فيه ضحيته.

بوستر فيلم “ساكاوا” الذي يتحدث عن المحتالين الإلكترونيين في غانا

 

واقع المحتال والضحية.. حرية التعاطف

على الجانب الآخر كان الغوص في حياة محتالي الإنترنت في غانا وتسجيل حياتهم اليومية مناسبة جديدة للتعرف على الظروف الشديدة القسوة التي يعيش فيها جُلّهم، وربما تُعين قليلا في تفهم الأسباب التي تجعلهم لا يبالون على الإطلاق بما يفعلون، فالسؤال الأخلاقي عن السرقة التي يقوم عليها النصب الإلكتروني لم يُطرح أبدا عبر زمن الفيلم.

وبدا العالم الغربي بعيدا جغرافيا ونفسيا للغاية عن الحياة التي يعيشها الغانيون الذين ظهروا في الفيلم، إلى الحد الذي بدا فيه العالمان وكأنهما لا يتشاركان بمنظومة الأخلاق نفسها.

يَضَع الفيلم أسئلة الأخلاق والضمير، والفروقات الشاسعة بين العالمين الغني والفقير، والمسؤوليات الفردية والعامة أمام المشاهد، الذي عليه في النهاية أن يحزم أمره اتجاهها، فالفيلم يتضمن رؤية لا ينقصها التعاطف الإنساني مع الواقع الذي أتى منه النصابون الإلكترونيون.

كما يظهر العمل التسجيلي نفسه، القسوة التي يتعامل بها هؤلاء مع ضحاياهم، أو بعضهم، وكيف يعاملون النساء في محيطهم، كما يصل بين الفترة والأخرى صوت الضحايا، الذين كان الكثير منهم يبحث بصدق عن علاقات عاطفية جديّة، بينما كان هَمّ البعض الآخر الظفر بعلاقات جنسية عابرة.