“سامحني”.. حين يكون الموت أسرع من لحظة المكاشفة

صالح محمد سويسي

 

لماذا يعجّ معجم الذاكرة الشفوية العربية بأقوال مثل “نم مظلوما ولا تنم ظالما” و”دعوة المظلوم مستجابة”، وأيضا “دعوة المظلوم لا تُردُّ” و”الظالم له يوم”، وما إلى ذلك من العبارات والأمثال الشعبية التي تحفّز في الإنسان فكرة قبول الظلم والسكوت عنه، وترك الظالم للوقت أو للأقدار كي تأخذ لك حقك. أليس هذا التسليم خضوعا وضعفا في حدّ ذاته وتكريسا للظلم وطلبا له، ودعما للظالم على مواصلة ظلمه؟ وبالمقابل قلّ أن نسمع أن ظالما ما قد اعترف بظلم اقترفه أو تراجع أو اعتذر عمّا بدر منه.

ولم تكن السينما والدراما العربية في منأى عن تناول هذا الموضوع الذي مثّل ولا يزال مادة دسمة وثريّة ومتنوعة لإنجاز أعمال صوّرت الظالم مهزوما في نهاية الحكاية، والمظلوم ينتظر حدوث المعجزة ليتحقق العدل، باستثناء بعض الأعمال التي كان فيها المظلوم مجتهدا في افتكاك حقه ممّن ظلمه.

في تونس، لا يمكن الحديث طويلا في هذا الموضوع، فالأعمال السينمائية التونسية ليست من الكثافة بحيث توفّر تراكما يجعلنا نخصص مقالا مستقلا لثيمَة الظلم فيها، بَيْدَ أنّنا سنتوقف عند فيلم “سامحني” للمخرجة الراحلة نجوى الإمام سلامة، لنبين أوجه التعامل مع هذا الموضوع من وجهة نظر مغايرة تماما عن المألوف.

 

سامحني.. أو لعنة الظلم

“علميا؛ لم يتبقَّ لك أكثر من شهر، لكنّ الأعمار بيد الله، وهذه بعض الأدوية التي يمكن أن تساعدك في الصمود بعض الوقت”.. هكذا ختم الطبيب لقاءه بعالِم الآثار “مستاري”، والذي اكتشف الأطباء إصابته بمرض السرطان في مراحله المتأخرة.

لم ينبس ببنت شفة، أخذ الورقة من يد الطبيب بعد تردّد وانطلق نحو باب الخروج، وقبل الوصول إلى الشارع ترك الوصفة الطبية تسقط من يده، ومعها سقطت رغبته في المقاومة، أو ربما سقطت ثقته في كلام الطبيب.

فيلم سينمائي تونسي جديد يُوغل في سبر أعماق الذات البشرية، حيث كرّس أغلب ردهاته لرصد المشاعر الإنسانية المختلفة بدقة عالية، من خلال الحوار مرة ومن خلال تعابير الوجه والإطار المكاني مرات، وذلك بالاعتماد على تناقضات النفس بين القبول بالواقع ورفضه أو محاولة تغييره.

إثر خطأ في نتائج التحاليل الطبية؛ يجد فوزي (قاضٍ فاسد) نفسه وجها لوجه أمام مصير واحد من ضحايا محاكماته السابقة، فمستاري (عالم آثار) خرج للتوّ من السجن بعد أن قضى عشر سنوات كاملة، ليكتشف أنه مصاب بالسرطان في مراحله الأخيرة، وينطلق في الإعداد لموته وجنازته ومدفنه على طريقته الخاصة، بينما يقوم فوزي بمطاردته طلبا للصفح.

أثناء قضاء مدة السجن فقد مستاري زوجته ووالده، ولم يتمكن من حضور جنازتيهما، وهو الذي تعرض لمظلمة قضائية من قبل فوزي الذي يعمل ضمن عصابة تضم زوجته وشقيقها وأطرافا أخرى متنفذة، مما جعله يعيش في مستوى راقٍ جدا، وينعم بحياة الأثرياء جراء مشاركاته في عمليات التحايل والمقاضاة الظالمة.

السينما والدراما العربية صوّرت الظالم مهزوما في نهاية الحكاية، والمظلوم ينتظر حدوث المعجزة ليتحقق العدل

 

الظالم والمظلوم.. رؤية مغايرة

قد يعتقد المتلقي في بداية الفيلم أنه إزاء عمل سيسلط الضوء على معاناة مريض السرطان ومن حوله، وسوف يجد نفسه أمام كمّ هائل من حالات الانهيار والصراخ وما شابه، وما يرافقها من تفاعل مؤلم لبقية أفراد العائلة، لكن فيلم “سامحني” قطع تماما مع هذا الاعتقاد وانخرطت المخرجة في توجه آخر تماما، حيث حوّلت المعاناة الجسدية إلى معاناة نفسية، وعَمَدت إلى استنطاق الصراع الداخلي لدى الشخصيتين الرئيسيتين في الفيلم.

فوزي القاضي الذي يستفيق ضميره فجأة، ويقرر أن يخرج من بوتقة الفساد التي عاش فيها لسنوات طويلة رغم علمه أنّ الأمر قد يكلفه حياته، ومع ذلك يصر على محاولة إصلاح بعض ما أفسده، مع يقينه بأن الكثير من الأشياء لا يمكن إصلاحها.

يواجه القاضي زوجته بقراراته الجديدة، ويعلن لها مباشرة أنه لم يعد راغبا في العيش معها، بل إنه يتساءل كيف أمكنه العيش معها طوال تلك السنوات. وفي المقابل تسعى زوجته مع شقيقها لثنيه بكل السبل، لكنه يمضي قُدُمًا في البحث عن طريقة ليعتذر لضحيته، حيث يتبعه في كل مكان لكنه لا يجد الجرأة والشجاعة الكافية لفعل ذلك.

في خضمّ أمواج الندم والحزن التي تمكنت منه رغم علمه أنه غير مصاب بالسرطان، وأنّ الأمر لم يكن سوى خطأ في التحاليل؛ يجد نفسه أمام حبيبته الأولى التي تركها من أجل المال والنفوذ، يجدها في نفس المكان الذي تركها فيه، وفي مشهد رومنسي يدخل لمدرسة الموسيقى التي تديرها، ويجلس مباشرة على البيانو ويبدأ العزف لتكتشف وجوده.

هناك يجد المرأة التي أحبّته بصدق، لتستمع إلى شكواه بقلبها، ولتفتح له حضنها كي يستريح قليلا من آلام الندم، ويجد فرصة العودة لذاته ولفوزي الذي أضاعه في زحمة الرغبة الجامحة في تحقيق الثراء والسلطة.

مع حبيبته الأولى وابنتها؛ يجد العائلة التي تمزّقت، والحب الذي فقده (فزوجته تقضي أوقاتها بين الصفقات المشبوهة وطاولات القمار، وابنته سافرت إلى كندا لمواصلة دراستها).

الممثل السوري عابد فهد الذي قام بأداء دور “مستاري” باللجهة التونسية التي أتقنها

 

مستاري.. تحدي فكرة الموت

في الضفة الأخرى تطلعنا المخرجة على بعض تفاصيل حياة مستاري الذي أصبح يعلم الآن أنه لن يمكث حيّا إلا بضعة أيام قد تطول وقد تقصر، لكن عالم الآثار يستقبل الخبر بشكل يدعو للغرابة في ظاهره، حيث إنه يبتسم ويحاول جاهدا أن يخطط لكل خطواته المستقبلية، فيبحث عن صديق قديم ليكون معه في كل تحركاته.

ويبرز الفيلم رفض مستاري لفكرة الموت بما أنه رحيل أبديّ، حتى إنه في مشهد داخل الكنيسة لم يبادر بتوديع أم زوجته، وخرج قبل الوداع الأخير تاركا الجَمْعَ يضعون الورود فوق التابوت، لينهمك هو في إعداد ميتته كما يشتهي.

تبدأ الرحلة بسحب أمواله من شركة التأمين، ومن ثم اختيار اللوح الرفيع لصنع التابوت الذي يأخذه وينتقل به إلى مدينته التي انحدر منها، وفيها منزل والده على الشاطئ مباشرة، حيث يختار مغارة تمتد إلى مياه البحر، ويأتي بعمّال ليبني ضريحا أشبه بأضرحة الفراعنة، والذي وضع فيه الكثير من أشيائه الحميمة كالصور وملابس زوجته وكتب وكرسي، ويملأ المكان شموعا، حتى إنه في لحظة تماهٍ مع واقعه الجديد حيث تخيل زوجته وكأنها تقف أمامه في ثوب أبيض تعزف على الكمان.

وفي الأثناء لا يترك لحظة إلا ويعيشها بكل تفاصيلها، ليمتزج الجدّ بالهزل في بعض المواقف، خاصة حين ذهب لشراء الكَفَن وأخبر البائع أنه له لتكون المقاسات صحيحة، أو في مشهد آخر حين قام برحلة صيد في عمق البحر، وظهر مع صديقه يشويان السمك ويشربان ويغنيان.

ثنائية الموت والحياة تنجلي مُحدِّدة مسار كل شخصية في سياق البناء الدرامي للفيلم

 

فوزي ومستاري.. ثنائية الموت والحياة

يبدو أن نجوى سلامة تعمّدت أن تفرد كل شخصية بحيّز كبير من المشاهد المنفردة، وذلك في تأكيد على صعوبة التقاطع والالتقاء، وربما استحالته بالنظر إلى تفرد كل شخصية بهدف محدد، حيث نجد فوزي يلهث خلف مستاري لطلب العفو والسماح، وذلك في صراع أول مع ضميره الذي استفاق أخيرا، وصراع ثانٍ مع الوقت الذي قد لا يُسعفه فرصة البوح. أما مستاري فقد كان مشغولا باستنزاف كل لحظة من حياته لإعداد حياته الأخرى التي تنتظره بعد الموت.

وهنا تنجلي ثنائية الموت والحياة مُحدِّدة مسار كل شخصية في سياق البناء الدرامي للفيلم، حيث إن لكل شخصية لحظات مكاشفة مع الذات انبنت على مواقف عاشتها أو عايشتها، وكانت سببا فيما آلت إليه حياتها في مرحلة قادمة. لحظة المكاشفة وضعتنا أمام شخصية مرتبكة بمشاعر متناقضة، شخصية جبانة لا تقوى على المصارحة ولا تجد الجرأة لمواجهة الواقع وقول الحقيقة، وفي المقابل لدينا شخصية ثانية، وهي رغم يقينها بحلول النهاية فإنها تتماسك وتتحدّى الوقت والمرض، وتثابر من أجل بناء المستقبل ولو كان يوما أو يومين فقط.

الممثل التونسي محمد علي بن جمعة الذي أدى دور فوزي ليؤكد مرة أخرى أنه ممثل من طينة الكبار

 

الممثلون.. تقمص ناجح للأدوار

على مستوى اختيار الممثلين؛ فإننا نؤكد على نجاح تجارب الأداء (الكاستينغ)، حيث كان اختيار الممثل التونسي محمد علي بن جمعة لتقمّص دور فوزي موفّقا جدا، ليؤكد مرة أخرى أنه ممثل من طينة الكبار، وأنه ممثل لا يكرر نفسه، ويعطي لكل شخصية يجسّدها ما تستحق من وقت وجهد وإضافات، خاصة حين تكون شخصية مركبة، وهو ما ميّزه في السينما والدراما على حد سواء.

أما دور “مستاري” فقد أُوكل للمثل السوري عابد فهد، وقدمها باللجهة التونسية التي أتقنها، ورغم أن كلماته كانت قليلة خلال الفيلم إلا أنه قدم أداء مميزا، اعتمد فيه خاصة على ملامح الوجه والحركة، وقد يكون ذلك عن قصد تماشيا مع حساسية الشخصية التي قدمها.

بقية الأدوار الأخرى كانت سندا حقيقيا للشخصيتين الرئيسيتين، وخاصة سوسن معالج (حبيبة فوزي) ورياض حامد صديق مستاري، وكذلك مريم بن حسين (زوجة فوزي).

مخرجة فيلم “سامحني” التونسية الراحلة نجوى الإمام سلامة التي غادرت الحياة قبل أن تشاهد العرض الأول للفيلم

 

نهاية متوقعة ولكن..

نهاية الفيلم لم تشكل مفاجأة، ولو أنني انتظرت كمتفرج أن تترك لي المخرجة مساحات للتأويل والمزيد من البحث فيما قد يحدث، لكنها اختارت وضع حد لحياة مستاري وفوزي في حيّز زمني متقارب جدا.

تنتقل الكاميرا إلى داخل القبر، حيث يقرر فوزي أخيرا أن يصارح مستاري بالحقيقة وأن يطلب العفو والمغفرة، وهذا ما فعله بالفعل، حيث وجده جالسا على كرسي ليقف خلفه، وينطلق في الحديث والاعتذار بطريقة فيها الكثير من الإحساس ببشاعة ما فعل، لكنه لا يردّ ولا يلتفت، ليدرك فوزي وقتها أن مستاري قد فارق الحياة، ولم يسمع أيّ كلمة مما قاله فوزي الذي انفجر باكيا وزاد إحساسه بالألم والندم.

صباحا وقرب الضريح؛ تعزف فرقة موسيقية لحنا سيمفونيا بحضور نفر قليل من عائلة مستاري، بينما فوزي يقف غير بعيد يتابع المشهد، فيأتي رجل من الخلف ويُشهر مسدسا ويطلق النار عليه، لتنتقل الكاميرا مباشرة مع صوت الرصاص إلى داخل الضريح كي تصور الصندوق الذي ينام فيه مستاري.

هكذا أحبت المخرجة أن تختم فيلمها، ومع أنها كانت أمام خيارات أخرى كأن تترك باب التأويل مُشرعا، لكنها رأت ربما أن تتماهى والتفكير الشعبي السائد بأن الظالم يجب أن ينال جزاءه رغم كل شيء.

“سامحني” فيلم من إخراج المخرجة التونسية الراحلة نجوى الإمام سلامة التي غادرت الحياة قبل أن تشاهد العرض الأول، فيما اشتركت في كتابة السيناريو مع عماد الدين الحكيم، وقام بأدوار الفيلم كل من عابد فهد ومحمد علي بن جمعة وسوسن معالج ورياض حمدي ومريم بن حسين وحكيم بن مسعود، إضافة إلى زينب سلامة وسماح سنكري ومحمد قريع وسنيا يونسي وحمودة بن حسين، مع مشاركات شرفية لكل من علي بنور ودليلة مفتاحي ومحمد التونسي وناجية الزمني.