“سبايا”.. أهوال تهريب الإيزيديات من مخيم الهول السوري

عبد الكريم قادري

بعد عرض فيلم “سبايا” في مهرجان صندانس السينمائي وحصوله على الجائزة العالمية للفيلم الوثائقي عام 2021، نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريرا ذكرت فيه بأن المخرج لم يأخذ موافقة الإيزيديات اللواتي ظهرن في الفيلم، وهو الأمر الذي يهدد حياتهن، لكن المنتج السويدي نشر ردا نقلته مجلة “فاريتي” قال فيه إنه أخذ موافقتهن الشفهية أو الكتابية.

من هنا يبدأ التساؤل عن مدى خطورة أن تظهر النساء في الفيلم بعد تحريرهن من داعش، وما دور المجتمع في هذا، وما مصير أطفالهن الذين أنجبوهن في الأسر؟

هذا جزء مما أثاره العمل من نقاشات عالمية، انطلاقا من موضوعه الحسّاس، أو حتى في طريقة التصوير التي جرت بهاتف محمول للتوثيق ومسدس جانبي للحماية.

“الهول”.. لغز صعب في المخيم المرعب

اقترب عدد سكان مخيم “الهول” الواقع على الأراضي السورية من 70 ألف نسمة ممن يحملون جنسية 57 دولة، وهو من أكبر المخيمات التي باتت تشكل خطرا، ليس على المنطقة وحدها، بل على العالم أجمع، وقد حذّرت منظمات دولية عدة من هذه الخطورة التي يغذيها الفكر المتطرف المنتشر بين اللاجئات وأبنائهن، خاصة أن معظم من يعيشون فيه هم النساء والأطفال المنتمين إلى “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، ومن الذين قُتلوا أو سجنوا في العراق وسوريا وعدد من الدول الأخرى.

 

وتسيطر فئة واسعة من نساء “داعش” ممن يقطنّ المخيم على الأطفال، ويزرعن فيه الفكر الجهادي المتطرف مبكرا، ويرسلونهم بعدها حتى للتدرب في الصحراء والمناطق المجاورة، خاصة أنهن في تواصل مستمر مع داعش عن طريق “الواتس آب”، إضافة إلى تحكمهن في النساء الأخريات اللواتي يحاولن أن يخرجن على هذا الفكر ويتحررن منه.

كما لا يزلن يحتفظن في مخيماتهن بعدد من الأسيرات الإيزيديات اللواتي اتخذن سابقا كسبايا وأزواج رغما عنهن، ومن بينهن بعض المراهقات وحتى من لم يخرجن بعد من سن الطفولة، ولقد أنجبن أطفالا من داعش، مما ساهم بشكل كبير في تعقيد هذا الحالة أكثر، وصعب كثيرا إيجاد حل ومَخرج لهذا المخيم الذي بات لغزا يصعب فك معطياته، كما أصبح عبئا ثقيلا على قوات سوريا الديمقراطية الكردية التي تسيره وتسيطر عليه.

بحث بين أشواك الخلايا النائمة.. عملية خطرة

لقد سهّل تنظيم قوات سوريا الديمقراطية الذي يعرف اختصارا بكلمة “قسد” من عمل إحدى المنظمات التي تحاول البحث وإيجاد إيزيديات قامت بأسرهن داعش، ولا تزلن تحت سيطرة بعض النساء الداعشيات القويات في مخيم الهول، لهذا يعمل محمود وزياد على إيجادهن وتحريرهن من قبضتهن، وإعادتهن سالمات إلى بلداتهن ومناطقهن، خاصة في قضاء سنجار الذي يتبع للعراق.

أحد النساء الإيزيديات اللواتي انخذن سابقا كسبايا رغما عنهن من قبل داعش

 

هذا العمل يعتبر خطيرا ويهدد حياتهما وحياة من معهما، لأن عيون الدولة الإسلامية وخلاياها النائمة لا تزال مفتوحة على آخرها، إضافة إلى المهربين المنتفعين من هذا الأمر، لكن الإرادة والتفكير في عائلات أولئك السبايا أكبر من الخوف والتردد، وهي الفكرة التي عمل عليها الفيلم الوثائقي “سبايا” (2021)، وجعلها المخرج السويدي الكردي “هوجير هيروري” منطلقا أساسيا لصياغة رؤيته السينمائية، لفك ألغاز هذه الحالة في مخيم “الهول”.

وكأن التاريخ يُعيد نفسه حسب ما نقله الفيلم، فعندما كانت الدولة الإسلامية في أوج قوتها، سيطرت وقتها على أجزاء كبيرة من العراق وسوريا، وقد استرجع العمل بشكل سريع هذه الذكرى الأليمة التي قتل من خلالها حوالي ثلاثة آلاف إيزيدي، وأسر حوالي ستة آلاف آخرين معظمهم من النسوة اللواتي سبين من أجل الاسترقاق الجنسي.

محمود المنقذ.. تضحيات على حساب العائلة والقرية

أثبت المخرج “هوجير هيروري” من خلال فيلمه “سبايا” (91 دقيقة) بأن السينما الوثائقية قبل أن تكون معدات تصوير متطورة أو كاميرات ذكية حديثة، فهي بالأساس رؤية وطريقة معالجة، والدليل بأن معظم صور فيلمه أخذها بعدسة كاميرا هاتف محمول، لتكون النتيجة فيلما وثائقيا يتوفر على جميع شروط الفيلم الجيد، ويحمل لمسة فنية قوية مسنودة بموضوع حساس جدا.

هذا ما فتح له أبواب المشاركات والجوائز في معظم المهرجانات الكبرى، آخرها جائزة الجونة البرونزية لأفضل فيلم وثائقي طويل، بعد أن شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان الجونة السينمائي الذي عقدت دورته الخامسة في الفترة (14 وحتى 22 أكتوبر/تشرين الأول 2021).

وتنعكس قيمة الوثائق السمعية البصرية التي حصل عليها من خلال المرافقة المستمرة في تلك العمليات والاجتماعات وإعادة تأهيل الإيزيديات المحررات، إضافة إلى تصوير الحياة البسيطة لقائد تلك العمليات ومنفذ عمليات الإنقاذ، وهو محمود الذي يعيش حياة بسيطة مع عائلته في إحدى القرى، حيث يخطط وينفذ وينجح في عملياته، وقد أخذ هذا الأمر الكثير من وقته على حساب عائلته، وقد تفطن المخرج “هوجير” إلى هذه النقطة.

محمود أحد أبطال الميدان كرّس وقته وجهده لتحرير مئات السبايا وأرجعهن إلى عائلاتهن في العراق

 

لهذا ركّز عليها من أجل إظهار الجانب الإنساني لهذا المنقذ الذي يفكر في الآخر على حساب أسرته وعائلته، رغم أن ظروفه الصعبة وقلة الإمكانيات حالت دون القيام بعمله كما يجب، وقد تلقّف هوجير عددا من المشاهد الدرامية تعكسها عمليات المطاردة التي قام بها أفراد من داعش أو عصابات التهريب لفريق محمود أثناء إحدى عمليات الإنقاذ التي قام بها، إضافة إلى حرق الأراضي الزراعية في بلدته لثنيه عن عمليته الإنسانية التي يقوم بها، لكن هذا لم ينفع، بل واصل مهمته بكل شرف.

كل هذه اللحظات الفارقة صوّرها “هوجير” وقام بعدها بالمونتاج، ليخلق لغة سينمائية جميلة ساهمت بشكل كبير في تشكيل مشاهد بصرية زرعت الخوف والتوتر والقلق لدى المشاهد، عن طريق التشويق وشدّه ببعض المشاهد الخطيرة، وهي الخطة الذكية التي قام بها المخرج بعد أن استعار عناصر من السينما الروائية لخدمة فيلمه الوثائقي.

تهريب الأسيرة.. مواجهات الرصاص تحت جنح الظلام

نقل الفيلم مادة توثيقية في غاية الأهمية، لأن المخرج كان يرافق محمود وزياد في عمليات الإنقاذ الخطيرة التي كانوا يقومون بها في المخيمات، وتحويل المحررات إلى مأوى آمن يجري فيه تأهيلهن من جديد قبل إعادتهن لأهلهن.

وقد كوّن محمود من خلال خبرته الطويلة في هذا الملف بنك معلومات حول معظم الإيزيديات المفقودات، انطلاقا من تاريخ السبي والأسر وسن الأسيرة وهويتها، ونشر صورتها القديمة والجديدة على الحائط، وذكر مكان وجودها واسمها الجديد، وغير ذلك من المعطيات الأخرى التي تساعد في عملية التحرير.

صور لبعض المراهقات الإيزيديات في مخيم الهول بعد العثور عليهن

 

وقد اكتسب محمود خبرة واسعة جعلته يُكوّن علاقات استخباراتية واسعة في المخيم وخارجه، بعد أن جنّد كثيرا من الكرديات اللواتي كن سابقا في المخيم ويجدن اللغة العربية والاندماج والعمل السري، وهن من يقمن بتقديم المعلومات حول السبايا، ويزودنه بكل المعطيات الضرورية لتنفيذ أي عملية، بعدها تقوم فرقة محمود بالتسلل للمخيم ليلا واقتحام الخيام لتحرير الهدف أو الأهداف.

وفي خضم هذا تقع الفرقة في مواجهة مسلحة مع بعض الخلايا النائمة، أو حتى بعض النساء اللواتي يرفضن التعامل معهم، مما يحتم عليهم القبض عليهن واستجوابهن ومواجهتهن بالشهود، كما يتنقل إلى السجون التي تحوي أفراد داعش، للتحقيق معهم حول بعض المختطفات، ويجدون في الكثير من المرات مشاكل في التعرف عليهن، وذلك بسبب تغيير أسمائهن، فقد أصبحن يحملن ألقابا أخرى، لكن تتبع المعلومة والتحقيق الجيد والاعتماد على العيون المتعاونة سهّل من علمية تحرير العشرات وعودتهن سالمات غانمات إلى عائلاتهن.

أطفال الدواعش.. إرث الإرهابي البريء من ذنب أبيه

تعاملت كاميرا “هوجير هيروري” بحزن كبير مع بعض المحررات من داعش، وهناك عدد من الفئات اللواتي يقطّعن القلب، خاصة البنات الصغار اللواتي كبرن وتربين في داعش، لهذا نشأن على التحدث باللغة العربية فقط، ولا يعرفن شيئا عن اللغة الكردية التي يتحدث بها كثير من العشائر.

 

أما الفئة الأكثر تضررا وحزنا، فهن أولئك اللواتي أنجبن أطفالا من أفراد داعش، وقد اشترطت بعض العائلات الإيزيدية عدم اصطحاب أطفالهن معهن، وهي من الشروط التي أفسدت فرحة التحرر، بعد أن طلب منهن التخلي عن قطعة من أرواحهن. لقد تركوهن في البيت الآمن في انتظار تسوية الأمور والعودة إليهن، على الأقل هذا ما قيل لهن من أجل مواجهة الموقف.

من هنا يطرح سؤال محوري وجوهري عن ذنب مئات الأطفال الذين لم تكن لهم ناقة ولا جمل في هذه الحروب الدموية، فقد قرر القدر أن يولدوا في هذه الظروف الفوضوية، لكن هناك عدة جهات التي تنظر لهم بعين الريبة، لأنهم في نظرهم ورثة داعش، كما أن هناك فئات واسعة تنادي بضرورة إيجاد صيغة إنسانية وقانونية للنظر لهؤلاء الأطفال بعين الرحمة والإنسانية، لأنهم لم يختاروا مصيرهم.

“هوجير هيروري”.. جائزة السينما العالمية للفيلم الوثائقي

ولد المخرج “هوجير هيروري” عام 1980 في دهوك بكردستان، وفي عام 1999 هاجر إلى السويد، ويعيش منذ ذلك التاريخ في مدينة ستوكهولم، حيث يعمل مصورا مستقلا ومونتيرا ومخرجا.

عُرِض فيلمه “مفكك الألغام” لأول مرة عالميا عام 2017 في مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية “إدفا”، حيث حصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة للفيلم الوثائقي الطويل.

سافر الفيلم إلى أكثر من 50 مهرجانا سينمائيا دوليا، وبُثَ في أكثر من 30 محطة تلفزيونية في جميع أنحاء العالم، كما حصل فيلمه “سبايا” على عدد من الجوائز، من بينها جائزة السينما العالمية للفيلم الوثائقي في مهرجان صندانس السينمائي 2021.