“ستموت في العشرين”.. نبوءة في عالم بكر الحكايات والمناظر

دخلت السينما عالم الفنون غريبة، فقد كانت وافدة من مجال التسلية وعروض الاستهلاك المبتذل في المقاهي، ثم اكتشفت قدراتها على القص والإبداع، فاقتحمت ساحتها وجلة حذرة، واحتاجت شفاعة من الأدب والمسرح، فاستعارت من الأول سحر الحكاية، واعتمدت من الثاني فنون الأداء.

فلما استقام لها الأمر بسطت سلطانها واستأثرت بعناية الجمهور حتى غدت أكثر الفنون تأثيرا، وحتى أصبح الأدباء يمنون النفس بردها لجميلهم، أو قضائها لدين الأدب باقتباس حكايتهم لمنحها حياة ثانية، فهل ذلك ما فعل فيلم السوداني أمجد أبو العلاء “ستموت في العشرين” بأقصوصة حمور زيادة؟

مدار الفيلم على حكاية الطفل “مزمل” الذي يأخذه والداه لأحد شيوخ الطرق الصوفية، وبدل أن يحظى بمباركته، يخبرهما بأن ابنهما سيموت عندما يتمّ سنته العشرين، وأن أمر الله نافذ ولا رادّ له، وهذا ما يحوّل حياة الصبي ثم الشابّ إلى انتظار بطيء لموت متوقع، ولكنه يحوّل الفيلم إلى عرض شيق لسيرة محكوم بالموت غرقا دون أن يكون قد ارتكب جرما.

الشيخ الذي تنبأ بموت الطفل “مزمل” عند بلوغه العشرين يحمله وهو صغير

“تموت وأنت صبي”.. حكاية من حيث لا نتوقع

نشعر نحن كتاب القصّ أحيانا باستنفاد الحكايات التي يمكن أن تحكى، فكل قصص العشق سردت بما فيها من النجاحات والوفاء والخيبات والخيانات، فجميع المغامرات خيضت، حتى قيل لقد مات القص، أو فقد توهجه، أو باتت القصص مجرد تنويع لقصص سبق أن رأيناها، ولكن ليس الأمر سوى محض شعور، فالحكايات الفريدة تظهر هنا أو هناك حين لا نتوقعها، وهذا ما فعله “ستموت في العشرين”.

يفاجئنا الفيلم بحكاية مذهلة عن نبوءة تماثل الحكم بالإعدام على طفل لم يقترف ما يبرر هذه القسوة، فتخرجنا من حيادنا وتجعلنا نتعاطف معه، وتجعلنا نتخذ موقفا سلبيا من صاحب النبوءة، رغم معرفتنا بأننا أمام عالم الإيهام الخادع، ولمسألة الاقتباس هذه دور أساسي في جعل حكاية الفيلم مذهلة، ففيها الخطوط الكبرى لأحداثه.

فقد ورد فيها: كل الناس كانت تعلم أن مزمل النور سيموت يوم يكمل عامه العشرين، ومنذ شب مزمل وهو يسمع هذه النبوءة، فالنسوة اللائي يزرن أمّه يربتن على رأسه في حنو، ويهمسن “يا مسكين، تموت وأنت صبي، الدنيا خربانة”، والصبية الذين يخرج معهم لرعي الغنم يقفزون أمامه ويخرجون ألسنتهم له، ويهتفون “ولد الموت.. ولد الموت”.

حتى التلاميذ الذين يعودون من المدرسة أعلى القرية ظهرا يمرّون أمام بيتهم وينادون “الموت الموت يا مزمل.. بكره تموت يا مزمل”.

الجالسون من الكبار أمام دكان عيسى فقيري يرمقونه حين يدخل لشراء حلوى، يغمغمون “دنيا ما فيها عمار، الله يرحمه”، وشيخ المسجد إذا رآه يتوضأ في باحة الجامع العتيق يقول له “الله يصبر والديك يا مزمل، برّهما ما استطعت”، والسيارات التي تمر بقرب القرية؛ يشير راكبوها إلى البيوت المتناثرة ويقولون “هذه قرية مزمل الذي سيموت يوم يكمل عامه العشرين”.

ولا شكّ في أن مفاتيح الفيلم توجد في هذا الحيز الضيق من النصّ، ولا شك أيضا في أن الأقصوصة على أهميتها لا ترتقي إلى درجة عالية جدا من الأدبية والحسن، فقد كانت تَعرض في سرعة وتلخيص مأساة مزمل.

الفتى “مزمل” في حالة شرود ذهني، فهو يبدو سلبيا مستسلما ينتظر حتفه

بين ثنايا الفيلم.. غوص في سيكولوجية مزمل

يعرض الفيلم قصة مزمل عيانا ويجعلنا نعيش تفاصيلها، ويبحر بنا في أدق دقائق حياة كُتب لها أن تنتهي عند سنّ محددة، فتدفعنا دفعا إلى أن نتفاعل معها، فنتعاطف مع مزمل أو نغضب من سلبيته، فننخرط في موقف ما منها ولا نبقى على حياد، وقديما قالت العرب ليس الخبر كالعيان، وعبر هذا العيان والإبصار الذي يميّز الفن السينمائي، استطعنا أن نغوص في سيكولوجية مزمل وهو ينتظر حتفه، دون قدرة على ردّ الفعل، وماذا له أن يفعل ولا راد لقضاء الله؟

في هذه النبوءة حكم مقنع بإعدام الفتى، وهذا بالفعل ما كان الفيلم يكرسه في بناء شخصيته على المستوى النفسي، فقد كان الطفل سلبيا مستسلما غير قادر على عقد علاقة متوازنة مع الآخر، سواء مع أترابه أو مع حبيبته نعيمة أو صديق والده سليمان أو حتى مع والده بعد عودته من المهجر.

كان يعيش الألم في عزلة وهو ينتظر قدره، ويحصي الأيام التي انقضت والأيام الباقية من “حياة لا عمر فيها”، وهذا تماما ما تثبته الدراسات النفسية، فأقوى عذاب يمكن أن يسلّط على الإنسان هو جعله ينتظر موته المحقق، ولذلك كثيرا ما كانت الأنظمة تؤجل إعدام مناوئيها لتزيد من عذابهم، فتجعلهم فريسة لنوع من الأمراض النفسية يسمى “متلازمة طابور الإعدام”، فتنشأ لديهم حالة عزلة مؤلمة ترتبط بميول انتحارية، وكثيرا ما تسبب الجنون التام، أو تؤدي إلى الموت بشكل طبيعي قبل تنفيذ الحكم.

لقد خوّل هذا الاقتباس للمخرج أن يعبّر عن موقفه من بعض مظاهر التدين المنحرفة، فالتصوف يحثّ على قتل شهوات الجسد وإعلاء البعد الروحي من الإنسان عبر مراحل تبدأ بالزهد وتنتهي بالفناء أو التوحد، ولكن هذه النبوءة غير الإنسانية تقتل الروح ذاتها، فهي مناقضة لجوهر الدين ولمقاصده ولمختلف مذاهب التصوف في الآن نفسه، ولذلك جاء الفيلم في شكل إدانة قوية للعادات والتقاليد المتخلفة التي تحوّل الدين إلى شعوذة، ولعل هذا ما يبرر اختيار المخرج لأقصوصة حمور زيادة.

رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح، والتي تأثر بها المخرج أمجد أبو العلاء في صناعة فيلمه “ستموت في العشرين”

“موسم الهجرة إلى الشمال”.. اقتباس يُنضج الحكاية

يقول المخرج أمجد أبو العلاء: بدأتُ التفكير في عمل فيلمي الطويل الأول منذ كنت في الثامنة والعشرين من عمري أي قبل عشر سنوات، وفي كل مرة كان أمر ما يجري بيني وبين النص يباعد بيننا، فلا أعود راغباً في تطوير المشروع إلى فيلم، حتى التقيت نص الكاتب السوداني حمور زيادة في مجموعته “النوم عند قدمي الجبل”، شعرت أنني وصلت إلى الحكاية التي أرغب في حكايتها، وصلت إلى حكايتي.

الفيلم اقتباس للأقصوصة بقصد ونية ووعي، وهذا معلن بجلاء، أما ما لم يُذكر فهو تأثير الروائي الطيب صالح في بناء أحداثه وتشكيل شخصياته وخلق أجوائه، فثمة شيء كثير من رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” في فيلم “ستموت في العشرين”؛ هل استلهمه المخرج فتسرب للفيلم بوعي، وهل هي ترسبات الثقافة التي تعلن عن نفسها دون وعي منّا؛ تلك التي يُصطلح عليها في الدراسات النقدية بالحوارية؟

على كل حال ليس هذا السؤال من همّنا، فنحن إذ نستقرئ العمل لا نبحث في النوايا وإنما في جسد النص، ففي شخصية المخرج سليمان المنفتح على العالم، والمطلع على الفنون والمتشبع بالحضارة الغربية شيء كثير من شخصية مصطفى سعيد بطل “موسم الهجرة إلى الشمال” الذي أمعن في الثقافة الغربية، واستوعب كل مفرداتها من مسرح وأدب وموسيقى، فكلاهما اختار العودة إلى الريف السوداني دون الانخراط في المجتمع انخراطا تاما.

انتقل مصطفى سعيد للعيش في قرية “ود حامد”، واشترى مزرعة وتزوج ابنة محمود وعاش على هامش المجتمع القروي، وكذا كان صنيع سليمان المخرج الذي يسكن بعيدا عن تجمع القرية بعد أن طاف كثيرا بالبلدان الأوروبية والأفريقية، ولشخصية مصطفى سعيد دور في تشكيل شخصية مزمل، فقد نشأ الأول يتيم الأب فعاش هو وأمه وحيدين، ثم التحق بالمدرسة والتعليم الحديث بمساعدة عائلة مستشرق إنجليزي ثم انتقل من القاهرة للدراسة في لندن، وكانت نهايته الموت غرقا في نهر النيل، ومثله عاش مزمل مع أمه في غياب الأب المهاجر، ووجد في سليمان عونا يساعده على تجاوز محنته، ولكي لا يعيد التاريخ نفسه في شكل مهزلة، يغادر إلى الشمال هربا من الغرق الذي تنذر به النبوءة.

تسليم بالنبوءة.. جدال على موقع القبر

تقوم الحكايات في الأفلام على الصراع الدرامي، فقد قيل إن الفيلم كلبان يختصمان من أجل عظم، وقيل إن المبدأ الأساسي في السينما الروائية أن لكل فعل ردة فعل معاكسة توازيه في المقدار وتعاكسه في الاتجاه، وهذا طبيعي، فبالصراع تتطور الأحداث في الأعمال القصصية، وعبره تنشأ الحياة في الواقع.

على خلاف هذه المعايير النمطية جاء الصراع في فيلم “ستموت في العشرين” فاترا، وتواردت الأحداث رتيبة، فمع إعلان الشيخ لنبوءته يخضع الجميع ويُسلم دون ردّة فعل، وينغلق باب الرجاء في وجه مزمل.

تلبس الأم سكينة السواد حدادا، وتقضي أيامها تحصي ما بقي لابنها من عمر، ومزمل يُلزم نفسه بسجن اختياري أو تلزمه أمه به، فلا يخرج للعب مع الرفاق، ولا يسبح في النهر، فهناك سيلقى حتفه عندما يُتم عامه العشرين، لا يدرس مع رفاقه، ولا يكترث بنعيمة التي تتعلق به وتستفز مشاعره وحواسه في آن، تطلب منه أن يعترف بحبها، أو أن يسبحا معا في النهر، أو أن يظفّر شعرها، وأنى له أن يستجيب فـ”الدنيا ما فيها أعمار”، لذلك يُعرض عنها أو يكاد، وتقتصر دراسته على حفظ القرآن بروايتي حفص والدوري.

تُسلِّم العائلة نفسها بهذه النبوءة وتأخذ في تجهيز الجنازة، فتعدّ الكفن وتحضر القطن والعطور ومختلف مستلزمات الدفن، ولا يبقى إلا اختيار موقع القبر، فهو موضوع خصومة بين الوالدين، وبالتسليم نفسه يتعامل الأهالي مع مزمل، وحين يختفي يتطوع الجميع للبحث عن الجثة لا عن الفتى، لأنه ميت لا محالة، ولأنّ “إكرام الميت دفنه”.

الأم سكينة تلبس السواد حدادا، وتقضي أيامها تحصي ما بقي لابنها “مزمل” من عمر

خمس دقائق.. فتور البناء الدرامي

هل يعود فتور البناء الدرامي إلى تأثير الحياة الروحية الناشئة عن التصوف وما يصحبه من اطمئنان النفوس؟ هل في شخصيات “ستموت في العشرين” شيء من عمر المختار كما تصوره مصطفى العقاد وجسّده أنطوني كوين، فتخيّله الأول رجلا زاهدا معرضا عن الدنيا منصرفا إلى عوالمه الروحية، واعتمد الثاني قدرا هائلا من التركيز والاسترخاء في تقمص هذه الشخصية المتخيّلة لمناضل ليبيا مستخدما جسده وصوته وذاكرته العاطفيّة وقدراته الذهنيّة لبناء هذه السمات؟

لا نعتقد أنّ شيئا من هذا يقع في دائرة اختيارات المخرج، فقد ظل يحشد الأطراف التي يمكن أن تدفع بالصراع دون جدوى، فتعجز نعيمة عن انتزاع الفتى من سلبيته، ويعجز بالقدر نفسه السينمائي سليمان، فيترك الفيلم بإهمال نقطة قوته تذهب سدى دون أن يترتب عليها صدام بين الحياة والموت والوجود والعدم والخرافة والعقل، ويظل يتابع سيرة مزمل وهو يذهب إلى مصيره وينتظر الموت بسلبية.

من المبادئ الأساسية في السينما أن تتجه الشخصية الرئيسية إلى هدفها في منتصف الفيلم وأن تعمل على تحقيقه بوعي، ولكن هذا الوعي يتأخر جدا في “ستموت في العشرين” فيأتي في الدقائق الخمس الأخيرة، ومن هنا مأتى الرتابة التي آخذ عليها كثير من النقاد الفيلمَ.

الفتى “مزمل” يمشي على هامش النيل الذي أعلنت النبوءة أنه سيموت غرقا في مياهه

النيل.. رموز تحمل دلائل كثيرة

ينزع الفيلم إلى جعل المتناقضات تتآلف وتنسجم، أو إلى جعلها لا تتصادم على الأقل، ومن ثمة وجدنا في الفضاء تواصلا وتكاملا، فالخارج عالم ممتد بمشاهده البديعة ومناظره الطبيعية الجميلة التي تستمد جمالها من سحر النيل. يقول أمجد أبو العلاء “قبل عام أو اثنين من بدء التصوير بدأنا البحث عن مواقع التصوير، ولم تكن التجربة صعبة، فالسودان بلد بكر لم تطأها كاميرات التصوير بعد.

ويتابع: كان هدفي من خلال الفيلم أن أقدم صورة جديدة للسودان مبنية على حقيقتها البصرية التي لم يطأها أحد سينمائيًا.

ولم يكن هذا الفضاء أبدا بطاقة بريدية تسرّ الناظرين، وإنما كان جملة من الوظائف والدلالات والرموز، فقد اتفقت الثقافة الإنسانية على جعل الأنهار رمزا للتجدد والحياة، ولذلك اتخذتها بعض الشعوب آلهة واعتبرتها رمزا للخصب والتجدد.

لكن المعتقدات البالية في السودان تجرد هذه الرموز من دلالتها وتجعلها معادلة للموت والقحط، فتجعل مزمل يعيش على هامش النيل وعلى هامش الحياة، ألم تعلن النبوءة أنه سيموت غرقا في مياهه؟ أما الداخل فكان ضيّقا معتما، ولكنه لم يكن يختلف عن هذا الخارج الممتد بلا نهاية كثيرا من جهة الدلالات والوظائف، فيمكن اختزاله في الممرّ الضيق والغرفة التي ترسم أيام مزمل على حيطانها، ويحفها الظلام كدهليز من دهاليز الأهرام، ولا يمكن للأم سكينة دخولها إلا باستعمال الفوانيس كالمستكشفين.

وهذا يجعلها أشبه بكتابة هيروغليفية على جداريات القبور النوبية، ولا غرابة في هذا التشابه، فالموت يخيم هنا وهناك، ولا أمل لمواجهة الفناء الذي يتهدد النوبيين -وفق اعتقادهم- إلا في حياة أخرى بديلة عن العالم الآيل إلى العدم، ولا أمل لمزمل بالبقاء إلا أن يخلد في الجنة.

بوستر فيلم “ستموت في العشرين” لمخرجه السوداني أمجد أبو العلاء

قحط على وقع الترانيم

رغم التنوع الكبير في أفضية الفيلم، فإن المشهد الأول يمثل اختزالا لدلالاتها جميعا، فعلى وقع الأناشيد الصوفية تعرض الكاميرا في لقطات عامة بانورامية صورة الأهالي، وهم يقصدون إحدى الزوايا لنيل مباركة الشيخ من جهة، وتعرض فضاء يغلب عليه الجفاف والقحط من جهة ثانية، بينما تنغرس في الرمال بقرة ميتة واضح أنها هلكت بسبب الجفاف، يراقبها نسر لا شك أنه يجد فيها وليمة شهية، ثم تعرض هذه الكاميرا الريف السوداني الذي ستدور فيه الوقائع، والأم التي ستتحمل عبء هذه النبوءة، ومزمل موضوع هذه النبوءة، ومن شأن المشاهد الأولى في الأفلام الكلاسيكية أن تعرض الديكور وتبسط الفضاء الذي ستتنزل فيه أهم الأحداث، ثم تقدم الشخصيات التي ستضطلع بها.

أما في “ستموت في العشرين” فيتحقق هذا كله وأكثر، فالمخرج يعرض العلاقة السببية بين الصورتين، فيجعل الموت المتربص نتيجة للمعتقدات البالية، فيتّهم هذه التصورات بالمسؤولية في محنة الطفل وفي محنة الأهالي عامة، ويظل على مدار الفيلم يفرّع هذا الموقف ويحشد المؤيدات لاتهامه، فكان هذا الاستهلال قويا من جهة تشكيله البصري، ومن جهة رمزيته، ومن جهة مضامينه السياسية والاجتماعية حتى كاد يتحول إلى شجرة قادرة على حجب الغابة بأسرها.

ورغم هذا الامتداد الخارجي ينشأ حل محنة مزمل في الفضاء المغلق وفي منزل سليمان، تلك النافذة التي تنفتح على العالم الفسيح وعلى الحضارة الغربية وعلى الحداثة، وحيث الفن والسينما والموسيقى وصور فنانات الاستعراض كسامية جمال ومارلين مونرو، ففيه يشاهد الأفلام الروائية، وفيه يتمرد على القدر الذي أراده له الشيخ بتحريض من سليمان نفسه، فيقرر مغادرة البلدة إلى المدينة عبر شاحنة القطن، فيرافقه إلى الحياة بعد أن كان من المقرر أن يرافق القطنُ الفتى إلى القبر.

إدانة مزدوجة الأبعاد.. الفن مرآة الواقع

من الواضح إذن أن الفيلم يستمد جاذبيته من سحر الحكاية التي اقتبسها من الأدب، ونقلها ببراعة من الخبر إلى العيان، ومن تشكيل الفضاء ببراعة، ولكن هذه الميزة تكتسب قيمتها المضاعفة من توظيف الفيلم لجمال الفن لمواجهة قبح الواقع، فقد جاء إدانة لانحرافاته مزدوجة الأبعاد، فوجهُه إدانة للمعتقدات البالية التي أضحت تكبل العقل بقيود الخرافة، وقفاه إدانة لقهر السلطة بما لها من نفوذ لطموح الأفراد، وأقبح وجوه السلطةِ السياسي.

ولفهم هذه المعادلة نعود إلى الخلف قليلا، فلعوامل تاريخية ولدور الطرق الصوفية في نشر رسالة الإسلام، يحظى الشيوخ بمكانة خاصة فيتولون تنظيم حياة المجتمع، ويتمتعون بنفوذ مؤثر في قرارات مريديهم، لكن الفيلم يعري وجها خفيا من هذا النفوذ، فيشير بأصبع الاتهام إليهم أو إلى بعضهم، ويحملهم مسؤولية تحريف الدين واستغلال جهل العامة لتحقيق المكانة، وبسط النفوذ الواسع.

وعبر نفوذهم ننتقل من الوجه إلى القفا، فينقد الفيلم دور السلطة عامة في خنق الأفق أمام المواطن السوداني، فموت مزمل في العشرين في بُعده الرمزي قَتلٌ لأجيال من الشباب، لتهميشهم وسلبهم الحق في الأحلام والطموح بغد أفضل، لذلك جعل أمجد أبو العلاء مزمل يتمرد على هذه السلطة في آخر الفيلم، وينعتق محققا حريته، ويعلن إهداءه الفيلم لشباب الحراك السوداني حينها، فيظهر على الشاشة ومزمل يعدو نحو الحرية والحياة.

ورغم طرافة هذا التخريج، الذي خوّل للفيلم المرور إلى القضايا الاجتماعية السياسية عبر جسر الفن والنبش فيها عميقا، لم يخلُ عمل المخرج من إهمال في خلق الرموز الفنية، فصحيح أن مشايخ الصوفية قد تمتعوا بمزايا مادية، مقابل دعمهم لرجال السياسة، وكان ذلك مع جعفر النميري وتجدد مع عمر البشير الذي دأب إلقاء الخطب في المناطق التي تنتشر فيها الطرق الصوفية وعلى امتداحها، فمن داخل “مسيد”، المجمع الصوفي الضخم، اختتم حملته لانتخابات عام 2015 وهناك تلقى بيعتهم ومباركتهم لفوزه مسبقاً.

ولكن الغمز في السلطة السياسية المحسوبة على الإسلام السياسي عبر نقد الصوفية لا يخلو من قياس خاطئ وتسطيح وتساهل في قراءة المشهد، فالبون شاسع بين الخط السياسي الذي ينتمي إليه عمر البشير، والإسلام الطرقي الذي يمثله مشايخ الصوفية، على مستوى مناهج المعرفة وتصورات الوجود، وعلى مستوى دور الدين في المجتمع.

المخرج السوداني أمجد أبو العلاء مع فريقه خلال تسلمهم جائزة “أسد المستقبل” عن فيلم “ستموت في العشرين”

“أسد المستقبل”.. احتفاء يفتح الآفاق

تطرح السؤال من جديد وأنت تشاهد فيلم “ستموت في العشرين” المقتبس عن أقصوصة حمّور زيادة، هل كان الفيلم يردّ الدَّين للأدب، أم جاءه يطلب مساعدة جديدة؟

مهما تكن الإجابة، فقد كان هذا التعاون مثمرا جدا، فمثّل الفيلم نجاحا معتبرا للمخرج، وللسينما السودانية على حدّ سواء، فقد تلقّف فكرة النبوءة المدمرة لمزمل، ومنحها جناحين لتحلّق في فضاءات شاسعة لم تطلها وهي تقيم بين دفتي الكتاب، وبها اقتحم عددا من المهرجانات المعتبرة، واقتنص جائزة “أسد المستقبل”، من مهرجان “البندقية” عام 2019، ثم أضاف الجائزة الكبرى لمهرجان “الجونة” في نفس العام.

ورغم ما اعتراه من وهن في بعض مفاصله فإن فيلم “ستموت في العشرين” استحق الاحتفاء به، ولا شك أن ساحة النقد ستنتظر أعمالا أخرى لأمجد يبرهن فيها عن نضجه بعد فيلم أول واعد جدا، ولكن يبقى الانطباع بأن ما رافقه من ضجة يعود بشكل ما -فضلا عن ما ذكرنا- إلى الاحتفاء بالحراك السوداني الذي حرر العباد، ومنح السينما حياة جديدة، بعد أن منعت في ظل نظام البشير، واندثرت بشدة، وتلك مشكلة الجوائز فمعاييرها شديدة التعقيد، واعتمادها وحدها أمارة على الجودة كثيرا ما يُضلنا.