“قصة لصّين”.. لغز الرجل الغامض في سرقة قطار البريد الملكي

في رصيد المُخرج والمُنتج التليفزيوني البريطاني “كريس لونغ” أكثر من ثلاثين مسلسلا تلفزيونيا من إخراجه، إلى جانب مشاركته في عشرات الأعمال الإنتاجية المتنوعة، لكن ليس في رصيده الإخراجي أي عمل روائي أو وثائقي.

وفي المرة الأولى التي يقف فيها “كريس لونغ” خلف الكاميرا، يُفضّل الفيلم الوثائقي عن الروائي ليُقدِّم فيه باكورة إخراجه السينمائي.

ويعتبر أول أفلامه من أهم الأفلام الوثائقية التي صُنعت مؤخرا، على الأقل من ناحية الموضوع، ويحمل عنوان “قصة لصّين” (A Tale of Two Thieves).

قطار النقود الملكي.. رحلة محملة بالكنوز إلى لندن

وقعت أحداث فيلم “قصة لصين” قبل خمسين عاما، وقتلتها الصحافة بحثا وتنقيبا منذ حدوثها في عام 1963، وكتبت عنها عدة كتب، منها السيرة الذاتية لأحد اللصوص الذين شاركوا فيها، وبالطبع أنتج عدد من الأفلام الوثائقية والروائية وحتى المسلسلات الدرامية، وكان آخرها قبل عامين أو ثلاثة على أكثر تقدير. فما الجديد إذن، الذي دفع المخرج “كريس لونغ” للمخاطرة في أول أفلامه باختيار مثل هذا الموضوع المُستهلك؟

ليس ثمة شك في أن “كريس” لو لم يجد جديدا يقدمه لما أقدم على مثل تلك الخطوة المحفوفة بالخطر، لكن السؤال الذي يطرح نفسه قبل مُشاهدة الفيلم هو: أما زال هناك ما هو غير معروف بعد، أو ألغاز استعصت على الحل، أو ثغرات لم تقتل بحثا، أو ملفات لم تغلق ويرغب “كريس” عبر فيلمه في تقديمها أو تتبعها وإماطة اللثام عنها؟

وللإجابة على هذا السؤال يتعين علينا أولا أن نسترجع سريعا الخطوط العريضة لتلك القصة المثيرة التي يبدو أنها لا تزال تشغل أذهان الكثير من الناس، وستظلّ كذلك لبعض الوقت على ما يبدو.

ففي الثامن من أغسطس عام 1963، كان قطار البريد الملكي يقوم برحلته المعتادة من غلاسكو إلى لندن، وعلى متنه مبالغ مالية كبيرة وصلت إلى 2.6 مليون جنيه إسترليني، أي ما يقدر في وقتنا الحالي بما يزيد عن 40 مليون جنيه إسترليني. وهو أكبر مبلغ ينقل عبر تلك الرحلة الاعتيادية خلال تلك الفترة.

تخطيط جيد ومسرح أبيض.. لعبة العصابة المحترفة

من دون عناء بالغ أو مجهود كبير يُبذل أو إراقة دماء أو سقوط ضحايا، خلا التخطيط الجيد والمُحكم؛ استطاعت عصابةٌ قوامها خمسة عشر رجلا تنفيذَ السرقة، وهي مجموعة متفاوتة الأعمار والمِهن، لكن أغلبها كانوا من متوسطي وعتاة اللصوص والسارقين.

بعد فترة ليست بالطويلة ألقي القبض على أغلب أفراد العصابة، وتراوحت الأحكام التي صدرت ضدهم بين العشرين والثلاثين عاما، وقضى معظمهم نحبه، بينما فرّ أحدهم من السجن بعد الحكم عليه بعام ونصف العام، وتوفي قبل فترة قصيرة بعدما أصدر سيرته الذاتية، وروى تفاصيل السرقة بدقة.

بعد الإمساك بأطراف خيوط الجريمة ألقت الشرطة القبض على أكثر اللصوص

ولا يزال يعيش آخر أفراد هذه العصابة “غوردون جودي” بإسبانيا، في حين ظلّت شخصية واحدة من أفراد تلك العصابة غامضة وعصية على الإمساك، ولم يستطع أحد التوصل إليها، ولم تصدر ضدها أي أحكام تنفذ، وقد أمسك المخرج “كريس لونغ” بهذا الخيط، وحاول أن يتقفى أثره ويميط اللثام عن ماهيته، بعد كل تلك السنوات.

رجل البريد.. منقذ العملية الغامض يتبخر في الهواء

من أجل تتبع خيط الرجل الغامض قام المخرج بتكليف تحرييّن أو مخبرين سريين للقيام بهذه المهمة البالغة الصعوبة، إذ ليس ثمة أي أثر يدل على ذلك الرجل الزئبقي الغامض، فقد اتضح أنه كان مجهولا حتى لدى أفراد العصابة الذين قاموا بتنفيذ العملية، وذلك برغم دوره الكبير للغاية والبالغ الخطورة في العمل على نجاح تلك العملية من عدمها، خاصة بعدما اتصل بالرأس المدبر للسرقة، وأبلغه بأن القطار سيتأخر يوما، وأن السطو يجب تنفيذه يوم الثامن وليس السابع. ومن هنا، فإن كل ما كان معروفا عنه أنه شخص يعمل بهيئة البريد، وأنه صاحب تلك المكالمة الغامضة فقط.

يفشل التحرِّي الأول في التوصل لأي خيوط قد تفيد في التوصل لهذا الرجل الغامض، رغم الجهد الذي بذله وتابعناه أثناء القسم الأول من الفيلم الذي يبلغ زمن عرضه ما يزيد عن الساعة بقليل. ولذلك يلجأ المخرج إلى تحريّة لخوض غمار تلك المغامرة، وقبل نهاية الفيلم بدقائق قليلة تنجح هذه المخبرة السرية في كشف سر رجل البريد الغامض هذا، وبذلك يُكمِلُ الفيلم تلك الحلقة المفقودة التي ظلت غير مغلقة منذ وقوع السرقة في منتصف القرن الماضي تقريبا.

اللص “غوردون جودي” آخر أفراد العصابة الذي لا يزال يعيش في إسبانيا

وقد أكّد على صدق كلام التحرّية، حين استطاع اللصُّ السابق “غوردون جودي” التعرفَ على شخصية رجل البريد، على نحو لا يدع أي مجال للشك. ومن هنا جاء عنوان الفيلم، “قصة لصيّن”، فاللص الأول هو الرجل الغامض الذي يبحث عنه المخرج في فيلمه، والآخر هو الراوي الرئيسي بالفيلم، اللص “غوردون جودي”.

رب العائلة المتدين.. حياة هادئة لا تبدو عليها مظاهر الثراء

بخلاف المقابلات مع هذين التحرّيين، يتمحور الفيلم بأكمله حول شخصية “غوردون جودي”، ذلك اللص السابق الذي اقترف عددا من السرقات على مدى حياته، ويحكي عنها بالفيلم، ولم يخجل قط أو يشعر بأي نوع من الندم أو تأنيب الضمير لكونه ارتكبها، بل إنه أحيانا يتباهى أيضا بمهنته، وهو العقل المُدبر لتلك السرقة الكبرى، ولا يزال يعيش حتى يومنا هذا مع زوجته، رغم تجازوه الثمانين من عمره، بإحدى جزر مايوركا.

وقد روى “غوردون” للمخرج تفاصيل القصة بأكملها في مقابلة استغرقت ما يقرب من نصف الفيلم، فلا تزال ذاكرته حاضرة بقوة، كما تتسم بالدقة الشديدة، والاحتفاظ بأدق تفاصيل عملية السطو. وأثناء الحوار يتذكر “غوردون” كثيرا من المعلومات المهمة، ويذكر بعض التفاصيل التي ظنّها غير مفيدة، لكنها كانت غير ذلك بالنسبة للمُحققة، فقد استطاعت عن طريقها أن تتتبّع الخيط الذي قاد في النهاية لاكتشاف اسم رجل البريد.

قطار البريد الملكي الذي استهدف في عملية السطو

قبل نهاية الفيلم وختام المقابلة الحوارية مع “غوردون”، يعرض عليه مخرج الفيلم مجموعة من الصور الفوتوغرافية القديمة بالأبيض والأسود لرجل البريد، فيتعرف عليه “غوردون”، ويستدعي اسمه الحقيقي. وبذلك يُنهي المخرج الفيلم، ويغلق معه تلك الحلقة التي ظلت غير مكتملة على امتداد ما يزيد عن نصف قرن تقريبا.

والغريب في الأمر أن رجل البريد الذي لولاه لما وقعت السرقة، ولا انتهب ذلك المبلغ المالي الكبير؛ لا أحد يعرف في أي شيء أنفق حصته من النقود المسروقة، فقد تتبعت المحققة تاريخ حياته حتى وفاته قرب منتصف التسعينيات، وعلمت أنه ظل يعمل في وظيفته، ولم يظهر عليه أي مظهر من مظاهر الثراء، كما أنه كان متدينا ويصلي يوم الأحد في الكنيسة، وكان رب عائلة من الطراز الأول. وهي تُرجح في النهاية، أنه ربما يكون قد أنفق المال أو وهبه لإحدى الكنائس أو المؤسسات الخيرية الدينية.

هنات الفيلم.. نقاط ضعف في عمل وثائقي مبهر

من أجل كسر الإيقاع الرتيب أو الممل بعض الشيء للحوار مع “غوردون جودي”، لجأ المخرج إلى بعض اللقطات الأرشيفية القديمة للعاصمة البريطانية قرب منتصف القرن الماضي، وكثير من الصور وأخبار الجرائد، إضافة إلى استعانته ببعض الرسوم الغرافيكية لإعادة تجسيد أو تصوير بعض الأحداث التي وقعت في الماضي.

وإلى جانب هذا كله، استعان المخرج بالممثل الشاب “هاري ماكوين” للقيام بدور “غوردون جودي” في فترة شبابه، ولسرد بعض الأحداث المُكمِّلة لما يرويه “جودي” بنفسه، وهو أمر لم تكن له أهمية، وأضعف الفيلم ولم يُضِف له أي جديد.

بخلاف هذا، نجد أن الفيلم قد غلب عليه في جميع النواحي الطابع الإخراجي البسيط للمسلسلات، وليس ذلك الطابع المميز أو المركّب للأفلام الوثائقية المميزة في هذه النوعية من الأفلام، ومردّ هذا بالتأكيد عائد لمهنة المخرج الغارقة في إخراج المسلسلات التليفزيونية على وجه الخصوص.

في النهاية ورغم كل المشاكل أو الهنات الموجودة بالفيلم والعيوب الإخراجية التي قد تؤخذ عليه؛ فإن قوة القصة وذيوعها -كما ذكرنا من قبل- وعملية البحث واكتشاف ما هو جديد، غطت دون شك على كل تلك العيوب، وجعلت المُشاهد يتخطّى كل تلك المشاكل الفنية من أجل متابعة ذلك النموذج البحثي الذي يُضرب به المثال على قوة الفيلم الوثائقي، ودوره الخطير الذي يلعبه في عملية الاستقصاء والبحث والتنقيب وكشف الحقائق واكتشاف الخبايا.

وهذا كله لا يستطيع الفيلم الروائي القيام به بتاتا، ومن هنا تأتي وتبرز ضرورة وجود مثل هذا النوع الاستقصائي والبحثي من الأفلام الوثائقية، حتى إن لم تتوصل في النهاية إلى كشف جميع الحقائق.