“سوني”.. عندما تقاوم الغريزة المنفلتة في شوارع نيودلهي

قيس قاسم

كانت سوني مثالا للمحبّ لعمله

الظواهر الاجتماعية المُقلِقة والمشاكل الاقتصادية والسياسية في الهند لا تقدمها سينما بوليوود كما هي، بل تهرب منها عادة -في سياق منطق تجاري- نحو البهرجة والقصص العاطفية المشحونة بأوهام العدالة والرفاهية.

أما السينما الهندية المهمومة بالواقع وعكسه على الشاشات فتواجه على الدوام صعوبات إنتاجية، وتظل -حتى لو توفرت لها إمكانات مناسبة- محصورة التوزيع، ومعروضة على نطاق جماهيري ضيّق، وفرصتها للانطلاق عالميا غالبا ما تكون عبر المهرجانات السينمائية.

قليل جدا من أفلام “آرت هاوس” أو الأفلام الفنية -خاصة المستقلة- تستطيع خرق قواعد السوق وتُوازِن بين التجاري والفني، كفيلم “سوني” للمخرج إيفان أيير المشارك في الدورة الأخيرة لمهرجان فينيسيا السينمائي، ومحاولته عرض جانب خطير من حياة المجتمع الهندي المعاصر، وذلك فيما يتعلق بظاهرة اغتصاب النساء وفساد منظومات قضائية وسياسية.

 

الشرطيتان سوني وكالبانا

يُتيح التقرب من عمل الشرطيَّتين “سوني” و”كالبانا” في أحد مراكز شرطة مدينة نيودلهي لكاتب السيناريو “كيسلاي كيسلاي” إمكانية الانفتاح على مساحة واسعة من المشهد الهندي، فمراكز الشرطة في المدن الكبرى هي مثل بؤرة مجتمعية تعكس التصادمات اليومية لسكانها وما يجري في الخفاء تحت سطحها. ذلك ما تُجليه قصة الشرطية الشابة “سوني” المُستَفَزة من التحرش الجنسي المُنتشر في كل زوايا مدينتها، وانعكاس مواجهتها العنيفة مع مرتكبيها على علاقتها الوظيفية بمسؤولتها المحققة “كالبانا”.

المشهد الأول يقول الكثير عن شخصيتها وعلاقاتها، ففيه تظهر الشرطية سوني وهي تقود دراجاتها الهوائية في طريقها إلى البيت، فيتبعها رجل يبدأ بالتحرش بها، ورغم نهرها له لم يتوقف، وتابع ملاحقتها بوقاحة، فما كان منها إلا النزول من دراجاتها وتوجيه لكمات قوية له أدمت وجهه وجسده.

ولأنها شرطية ينبغي أن تضبط سلوكها وتتخذ الإجراءات القانونية دون استخدام العنف الجسدي؛ وبَّخَتها مسؤولتها على سلوكها ودعتها إلى التحكم بأعصابها.

سيتكرر هذا السلوك مرات ومرات، وتزداد التنبيهات الموجهة إليها، لكنها تظل في حدودٍ يسمح لها بالاستمرار في العمل والمشاركة في دوريات التفتيش الليلية. فسلوكها على عنفه يكشف ميلا لأداء الواجب والإخلاص فيه.

كانت سوني (وتقوم بدورها الممثلة غيتيكا فيديا أوهليون) مثالا للمحبّ لعمله، وهذا ما كانت الضابطة كالبانا (وتقوم بدورها الممثلة سالوني باترا) تثمّنه فيها، فتفهُّمها ورعايتها لها أثمر تواصلا إنسانيا بين الشرطيتين، لكنه مع ذلك سيتعرض لهزّات عنيفة تحت تأثير بيروقراطية مترسخة وذكورية مُهيمنة في أوساط رجال الشرطة الهندية.

يُتيح التقرب من عمل الشرطيَّتين "سوني" و"كالبانا" في أحد مراكز شرطة مدينة نيودلهي لكاتب السيناريو "كيسلاي كيسلاي" إمكانية الانفتاح على مساحة واسعة من المشهد الهندي

نيودلهي ليلا.. غابة وحوش

لا يستعجل فيلم سوني الدخول إلى معترك الحياة في مدينة نيودلهي مباشرة، حيث يترك الوقت الكافي لكاميرته لنقل يوميات الشرطيتين، وعبرها يأخذ مُتفرّجهُ إلى العوالم المسكوت عنها من حياة المجتمع الهندي المغلفة بشعارات الديمقراطية والمساواة.

كل حادث يمرّ على الشرطيتين يكشف جانبا يعزز رؤية مخرجه السوداوية لمجتمعه، فليس الحرمان وحده ما يدفع الرجال لارتكاب جرائم بحق النساء، بل هناك منظومة سياسية فاسدة تشجع عليها، وتعزز في الوقت نفسه من الانقسام الطبقي والمجتمعي الحاصل، ليبدو فعل الاغتصاب محصورا بالطبقات الفقيرة والمحرومة.

الدوريات اللَّيلية للشرطيتين تفتح كنوز القَصص الهندية، فكل حكاية بسيطة تحمل داخلها دلالات عميقة. في الكثير منها تسمع الشرطية عبارة “كان عليها ارتداء ملابس رجالية”، وذلك في إشارة إلى الفتاة المغتصبة وإحالة الفعل إلى نوع الملابس “المُغرية” بمعاملتها كطريدة مُباحة.

أبناء الأثرياء يتصرفون في ليل مدينتهم وكأنهم آلهة خارج المحاسبة وفوق القانون، وفي كل جولة تفتيش ليلية تقابل بشرا متحللين من القيم لا يترددون في الاعتداء حتى على رجال الشرطة.

يصور فيلم سوني مدينة نيودلهي ليلا كغابة وحوش، فأجساد النساء مباحة فيها للضواري البشرية المتربصة بضحاياها في حلكة الظلام.

يراكم الفيلم من قوة بنائه السردي بالقصص الفرعية ذات الدلالات النقدية الواضحة للمجتمع الهندي ومؤسساته القضائية والسياسية

السلطة.. وقاحة وفساد

يراكم الفيلم المنتمي إلى مدرسة “آرت هاوس” من قوة بنائه السردي بالقصص الفرعية ذات الدلالات النقدية الواضحة للمجتمع الهندي ومؤسساته القضائية والسياسية، وعبر تلك القصص يلاحق مخرجه الموهوب المنبع السردي الرئيسي الذي تتحرك وسطه الشرطيتان.

واحدة من القصص تُعلن وقاحة السلطة واستهتارها حتى بقوانينها، وذلك حين يظهر في مشهد طويل نسبيا ضابط من ضباط وزارة الداخلية وهو في أشد درجات الغضب على الشرطية سوني بين الرجال وحدها، وذلك لأنهم طلبوا منه النزول من سيارته الفارهة لقياس درجة الكحول في دمه، حيث لم يكتفِ بتهديدها بطردها من العمل، بل راح يتحرش بها جنسيا دون خجل.

ردود فعلها القوية ضد سلوكه المشين سيُعرضها مرة أخرى للمحاسبة الإدارية، كما وَضَعَها موقفها الشجاع من استهتار ابن وزير في الحكومة أمام خيارات قاهرة، فلم تتحمل رؤيته وهو يدخن الممنوعات أمام الأطفال في ساحة عامة فتدخلت لمنعه. و”تثمينا” لموقفها الشجاع طالب الوزير بطردها من العمل، وبعد تدخل رئيسة القسم لصالحها اكتفى بنقلها إلى قسم بدّالة تلقي الشكاوى، ليدخل الفيلم في مسار دراماتيكي أكثر تعقيدا.

يصور فيلم سوني مدينة نيودلهي ليلا كغابة وحوش

تناقض مجتمعي وذكورية طاغية

إلى أبعد من مكان العمل يذهب الفيلم الروائي الرائع المنتمي إلى السينما الهندية المختلفة، والتي يبدو الجمالي حاضرا فيها، والتحفيز العاطفي غائبا عن نصها؛ إلى حياة سوني الكئيبة يذهب بهدوء مُصِوّرا تفاصيلها اليومية، إلى جانب وحدتها القاسية وعدم اعتنائها بطعامها ولا بملبسها، حيث لا تجد رغبة في إقامة صِلات اجتماعية خارج إطار عملها، فعملها هو سلوتها الوحيدة، ومع ذلك تواجه فيه صعوبات وتتعرض لضغوط.

علاقة سوني العاطفية شبه معطلة مع نافين (الذي يقوم بدوره فيكاس شوكلا)، فلا نعرف طبيعة العلاقة ولماذا وصلت إلى تلك الدرجة من البرود، لكن يبدو في السياق أنه قد خذلها في اللحظة التي كانت بحاجة إليه.

تتعرض الضابطة “كالبانا” في بيتها لأشكال من التعنيف غير المباشر بسبب عدم إنجابها أطفالا، فحماتها تُعَيّرها وزوجها يوبّخها على “رقتها” مع موظفيها، وفي لحظات غضبه تنمّ عنه عبارات تؤكد ذكورية المؤسسة القانونية التي لا ترى وجوبا لوجود شرطيات فيها.

التناقض المجتمعي يظهر في تفاصيل القصص الجانبية الموازية للقصة المركزية، وكلما مضى الفيلم في مساره البطيء والمُشَبع بروح القراءة البصرية الواعية للظواهر السلبية وعكس عذاب الشاعِرين بعجزهم عن إصلاحها.

منبع الحزن في حياة سوني ليس شخصيا بحتا، بل مردّه صدقها وإخلاصها المُجابَهان بالخذلان

خذلان وأمل

منبع الحزن في حياة سوني ليس شخصيا بحتا، بل مردّه صدقها وإخلاصها المُجابَهان بالخذلان، فسياق انقلاب المجتمع الهندي من الإيمان الروحي إلى المادي الصرف يعزز سلوكيات تكرهها وتقف بكامل قوتها ضدها. في المقابل تأخذ الممارسات المتحللة من قيم طالما رفضتها الهند طريقها إلى ثنايا المجتمع، لتصبح مع الوقت عادية وأكثر قبولا.

يترك منجز المخرج إيفان أيير المبهر في جمالياته التي لعب التصوير فيها دورا مهما؛ فسحة للأمل تُبَشر به النساء، وبذلك ينحو فيلمه نحو أنثوية شجاعة منبثقة من وسط ذكوري بامتياز.

ويجسد الأداء الرائع للممثلتين تحولات الأمل من درجة الصفر تقريبا في بداية الشريط وصولا إلى مستوى أكبر في نهايته، وبالتحديد عبر قصة الضابطة مع ابنة أختها التي تعرضت للتعنيف والسخرية من قبل زملائها في المدرسة، وتمنت لو كان بإمكانها إطلاق النار على الضاحكين والمستهزئين منها. هذه العبارة التي كانت في العادة تقف ضدها عندما كانت تنطق بها سوني؛ تبنتها وشجعت الطفلة على عدم القبول بالإهانة والظلم. وهو موقف يتوحد مع سلوك طالما عرّض سوني للنقد، لكنه في النهاية تسرب إلى آخرين قريبين منها.

لا يدعو فيلم سوني إلى العنف، بل يرفضه، لكنه يشجع النساء خاصة على معاندة الثقافة الذكورية المتسلطة في الهند اليوم، ومقاومة الغريزة الحيوانية المنفلتة في شوارع نيودلهي، وذلك كما يخبرنا مخرج فيلم سوني المُستَحِق للإشادة والتثمين.