“سيكولوجية دونالد ترامب”.. ظلال المستبدين على شخصية الرئيس الأمريكي

عبد الكريم قادري

معتل اجتماعيا وسادي ومحتال وعنصري وكاره للنساء ومتحيّز جنسيا ومريض بـ”النرجسية الخبيثة” التي كان يعاني منها “هتلر” و”موسوليني” و”ستالين”، وغير ذلك من الأمراض النفسية الأخرى التي وجدها فيه علماء النفس وواجهوه بها، لكن رغم هذا فقد حكم أمريكا ومن خلفها العالم أربع سنوات كاملة، قبل أن يخرج من الباب الضيق بعد فوز “جون بايدن”. فما قصة “دونالد ترامب” الذي عاداه الإعلام وحللّ سلوكه علماء النفس؟

كثيرة هي الأفلام الوثائقية والتقارير التلفزيونية التي أنجزت حول الرئيس السابق “دونالد ترامب”، وقد حاول أصحابها زيارة أبرز المحطات التي مر من خلالها هذا الرجل المثير للجدل، خاصة أنه أكثر رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية إثارة للنقاشات الإعلامية عبر العالم، إذ لا يكاد يمر يوم دون أن يفتح جدالا ما حول تصريح له، أو فعل جنوني قام به، أو رد غير سوي واجه به صحفيا ما، لهذا بات حاضرا بشكل يومي على واجهة الجرائد والتلفزيونات، توجه له سهام النقد الحادة من السياسيين الأمريكيين، وحتى من نجوم السينما البارزين، وذلك بسبب سلوكه الطائش الذي لا يليق -حسب تعبيرهم- برئيس دولة بحجم أمريكا وحضورها العالمي.

لهذا كانت معظم تلك الأفلام الوثائقية المنتجة عبر السنوات الماضية متشابهة التناول بشكل ما، وتقدم نفس المعلومات والرؤى، ولا يختلف فيها إلا المعالجة وطريقة الإخراج، لكن فيلم “غير لائق.. سيكولوجية دونالد ترامب” (Unfit: The Psychology of Donald Trump) الذي عرض أول مرة نهاية سنة 2020 للمخرج “دان بارتلاند” كان مختلفا عن ما جرى طرحه سابقا من أفلام.

كان سبب تميز هذا الفيلم هو أنه ركّز على جانب واحد في الموضوع، وهو سيكولوجية دونالد ترامب، من خلال تفسير سلوكه عن طريق مجموعة قوية من علماء النفس الأمريكيين ممن يملكون تجارب قوية وخبرات واسعة في تفسير سلوكيات البشر، استنادا إلى نظريات علم النفس البشري، وفتح مقارنات سلوك بين “ترامب” وبعض القادة العالميين الذي تركوا بصمة واضحة في التاريخ الحديث، ومن بينهم الرئيس الألماني “أدولف هتلر” المعروف بدمويته، و”بينيتو موسوليني” الرئيس الإيطالي، وقائد الاتحاد السوفياتي “جوزيف ستالين”، وغيرهم من القادة والزعماء ممن تركوا بصمة واضحة في الدكتاتوريات العالمية التي ألقت بظلالها على عدد من البلدان عبر التاريخ، وكأنها فلسفة القوة التي استمدوا منها إلهامهم، مثل “دونالد ترامب” الذي قالت زوجته السابقة “إيفانا ترامب” إنه كان مولعا بقراءة خطب هتلر النازي.

 

“بينيتو موسوليني”.. سياسة استغلال العواطف وتقويض الديمقراطية

فتح الفيلم الوثائقي “غير لائق.. سيكولوجية دونالد ترامب” مقارنة علمية رهيبة بين “دونالد ترامب” والرئيس الإيطالي السابق “بينيتو موسوليني” (1883-1945) مؤسس الحركة الفاشية، وهي تيار سياسي وفكري يتغذى من القومية والعنصرية، ويقوم على نزعة تقديس الدولة تحت أي ظرف، ولا يهم السلوك المتبع للحفاظ عليها.

وقد صعدت الفاشية بعد أن استغل “موسوليني” عدة عوامل، أهمها شعور الخيبة الذي كان لدى الإيطاليين بسبب المشاكل الاقتصادية بعد الحرب العالمية الأولى، لهذا انتقموا من الوعاء الانتخابي الديمقراطي الذي استغله “موسوليني”، وعندما صعد لهرم السلطة قوّضه وانتقم من كل الوجوه الديمقراطية، كما أفرج عن الأسماء العنصرية التي استعملت العنف وقتلت، خاصة تلك التي دعمت خياره السياسي.

هذا ما حدث مع “ترامب” الذي استغل الأزمة الاقتصادية التي كانت في أمريكا وانتشار شعور الخيبة لدى فئة واسعة من الناس، وقد استغلهم ووعد الشعب بالوظائف وتقوية الاقتصاد وغيرها من الوعود الأخرى، وعندما صعد إلى السلطة حاول هو الآخر أن يقوّض النظام الديمقراطي الأمريكي، من خلال تغليب سلطة المال على حساب الجانب الأخلاقي، مما جعل صورة أمريكا تهتز في العالم، حيت تنازل عن المواثيق الدولية، وجلب المال بطريقة راعي البقر.

وقد امتلك مخرج الفيلم نظرة استشرافية لمستقبل ترامب، من خلال التذكير بشكل واضح بخطره على النظام الأمريكي الديمقراطي، وهذا ما حدث بالضبط في الانتخابات الأخيرة، حيث حاول الاستيلاء على السلطة، عن طريق تحريض أتباعه العنصريين الذين هاجموا الكونغرس لترهيب النواب، وهي الجزئية التي لم يذكرها الفيلم بحكم أنه أنتج قبل هذه الانتخابات، لكنه أشار لها كنتيجة حتمية، ليخرج بعد هذه المقارنة الدقيقة بنتيجة تفيد بأن “دونالد ترامب” رئيس غير لائق لأمريكا.

الكثير من الأبحاث التي أجريت على شخصية ترامب تثبت بأنه شخصية غير لائقة ولديها الكثير من العقد النفسية

 

“النرجسية الخبيثة”.. حين يتجرد المرء من إنسانيته

استمدّ فيلم “غير لائق/ سيكولوجية دونالد ترامب” شرعيته العلمية من الأسماء البارزة التي شاركت فيه، وهي وجوه لها حضورها العلمي البارز، من خلال ما قدّموه في مسار علم النفس الحافل، وتحركهم الخبرات المتراكمة والكتب الذي ألفوها في المجال والتأطير الأكاديمي في الجامعات الأمريكية، ومن بينهم عالم النفس “جون كارتنر” الذي يدرس في جامعة جونز هوبكينز، والطبيب والمُحلل النفسي “لانس دودس” الباحث في السلوك القهري الإدماني، و”جاست فرانك” المحلل والطبيب النفسي الذي مارس هذه المهنة لأكثر من أربعين عاما، إضافة إلى شخصيات أخرى مثل “مالكوم نانس” ضابط المخابرات السابق، ورائد الأعمال والمستشار السياسي “أنتوني سكاراموتشي”.

وقد خلص هؤلاء بعد جملة من الأبحاث التي قاموا بإجرائها حول شخصية “ترامب”، إلى أنه شخصية غير لائقة، وشخص لديه الكثير من العقد النفسية التي تجعله غير مؤهل ليكون على رأس الولايات المتحدة الأمريكية، وقد استند هؤلاء في تحليلاتهم السلوكية إلى مرجعية عالم النفس المشهور  “سيغموند فرويد” (1856-1939) المختص في الطب العصبي، حيث أخذوا منه نظرياته في تحليل الشخصية،  ليخرجوا بنتيجة تفيد بأنه “معتل اجتماعيا وسادي ومحتال وعنصري وكاره للنساء ومتحيّز جنسيا وغشاش”.

وأكثر من هذا فقد شخّصوه بمرض “النرجسية الخبيثة”، وهو مرض خطير اكتشفه المفكر وعالم النفس الشهير “إريك فروم” (1900-1980) سنة 1964، فقد رأى بأنها “حالة يتميز فيها الفرد بالسلوك البليغ والمعادي للمجتمع والعدائي، والأشخاص الذين يمتلكونها يجردون من الإنسانية كل سيناريو يوجدون فيه. وافتقارهم للتعاطف والمكيافيلية يمكن أن يضر الناس”.

دونالد ترامب الذي كان يشارك في دورات بطولة الغولف وحده ويفوز بالكأس دون منافسين

 

بطل الغولف الغشاش.. روح مرحة لرئيس لا يوثق به

أكد على الاستنتاجات التي ذكر العلماء عن نرجسية “ترامب” عالم النفس “جون كارتنر” الذي أن ألف كتبا وكتب عدة دراسات حول الرؤساء الأمريكيين، من بينهم كتاب حول “بيل كلينتون” بعنوان “بحثا عن بيل كلينتون” عام 2008، وكتبا أخرى حلّل فيها شخصيات بعض الرؤساء الأمريكيين، من بينهم “لينكولن” الذي قال إنه كانت لديه القدرة على تحمل المعاناة النفسية بسبب الحرب الأهلية التي عاشها، وجاء هذا التصريح في الفيلم ليقوي حجته العلمية في الفيلم.

وفي المقابل يرى رائد الأعمال والمستشار السياسي “أنتوني سكاراموتشي” أن “ترامب” رجل ذكي، ولديه روح مرحة تسعد الكثير من الأمريكيين خاصة عبر تويتر، وهو رئيس لديه طريقته السياسية التي يحاكي من خلالها روح العصر.

أما بخصوص الغش فقد قال صحفي الغولف والكاتب “رالي ريك” عن “ترامب” إنه لاعب غولف غشاش لم يسبق له أن فاز بأي بطولة في أندية الغولف على عكس ما يدعيه، لأن البطولات التي يشارك فيها يلعب فيها وحده، لهذا يحصل على البطولة، ولذلك لا يمكن الوثوق به، لأن الذي يغش في الغولف بوسعه أن يغش في الضرائب، ويغش الشعب الأمريكي عامة.

الجدار العازل الذي يفصل أمريكا عن المكسيك والذي أمر ببنائه الرئيس السابق ترامب

 

بناء الجدار العازل.. عصر الرئيس اليميني المتطرف

ركز الفيلم على علل الرئيس وأمراضه النفسية، ومن بينها عنصريته المقيتة التي ورثها من والده راجل الأعمال الرائد والمختص في بناء المجمعات السكنية لمتوسطي الدخل، حيث ذكر في الفيلم بأنه كان يرفض وبشكل قطعي بيع المساكن للأمريكيين من أصول أفريقية، وقد أبان “ترامب” خلال فترة رئاسته عددا من المواقف التي تظهر عنصريته ضد الملونين والسود بالخصوص، ولا شيء أدل على ذلك من الجدار العازل الذي قام ببنائه على الحدود المكسيكية، إذ فرّق من خلاله بين كثير من الأسر، خاصة أفراد العائلة الواحدة.

وعندما سُئل “ترامب” في إحدى المقابلات عن عنصريته قال إنه “أقل شخص عنصري عرفه في حياته”، وكأنه من خلال هذا التصريح يؤكد عنصريته، لهذا ركّز في سياساته وخطابه على تقوية اليمين المتطرف الذي كان يسانده في انتخاباته وجولاته السياسية، ووصلت بهم الجرأة إلى أن خلقوا مليشيات مسلحة كانت تهم بالقيام بعدة عمليات إجرامية.

لقطة من فيلم “ضوء الغاز” الذي استمد منه علماء النفس تسمية هذا المصطلح النفسي

 

تقنية ضوء الغاز.. “اكذب اكذب حتى يصدقك الناس”

لم يبتعد المخرج “دان بارتلاند” في فيلمه من رواق العلل والأمراض النفسية، ولم يكن “دونالد ترامب” مريضا نفسيا فقط، بل حاول هو الآخر السيطرة على شعبه من خلال اعتماده بشكل أساسي على تقنية الخطاب النازي الذي يعتمد على خاصية “اكذب اكذب اكذب حتى يصدقك الناس”، وهي التي كان يعتمدها النازيون، بمعنى أن كثرة الكذب على الشعب تجعله يُصدق تلك الأكاذيب.

وأكثر من هذا فإنه استعمل التقنية التي يطلق عليها علماء النفس “ضوء الغاز” (Gaslighting)، وهو مصطلح مشتق من مسرحية “باتريك هاملتون” سنة 1938، وقد رسّخها بقوة فيلم يحمل العنوان نفسه أخرجه “جورج كيوكور” سنة 1944.

ويحاول بطل الفيلم التأثير على زوجته من خلال تعتيم البيت تدريجيا عن طريق تخفيض إضاءة ضوء المصابيح التي كانت تعمل بالغاز، وبالتالي يوهم زوجته بأنها مريضة نفسيا، وأكثر من هذا فإنه يدفعها إلى الاعتقاد بأنها مجنونة، لأنها ترى بأن أضواء الغاز تنقص وتزيد من تلقاء نفسها.

وحسب علماء النفس فإن “ترامب” طبّق هذه التقنية على شعبه ليوهمه بأشياء غير موجودة، من بينها أن الإعلام يتآمر عليه، لأن هناك جهات تحاول النيل منه في كل لحظة، ولا يخلو خطاب له من التصريح بهذا، من أجل ترسيخ هذه المعطيات في ذهن الشعب الأمريكي.

 

شخصية الرئيس.. حفر عميق بمعاول السينما الوثائقية

“غير لائق.. سيكولوجية دونالد ترامب” فيلم ذكي يحفر عميقا في شخصية الفرد من الناحية العلمية، ويثبت بأن السينما الوثائقية يمكن أن تكون وسيلة مواجهة وتغيير في الساحات السياسية، وقد جاء هذا العمل كنوع من المقاومة للوقوف في وجه الرئيس السابق “دونالد ترامب” الذي كان يبحث عن مجد شخصي، بعيدا عن المجد الأمريكي الذي رسّخه رؤساء سابقون في أذهان العالم، لهذا نهض في وجهه الكثير من العلماء وأهل الفن والسياسية، وقالوا له “لا” بصوت مرتفع.

جاءت صور الفيلم منوّعة ومختلفة، من خلال الاعتماد على الكثير من الأسماء والضيوف الذين أثروا الفيلم بوجهات نظرهم المختلفة، كما اعتمد على أرشيف الأفلام، سواء تلك القديمة التي جاءت بالأبيض والأسود، أو الجديدة بالألوان، إضافة إلى وثائق فيديو تُحاكي فترات زمنية مختلفة، وقد أعطت للفيلم تلك القيمة التسجيلية.

وكأنّ المخرج كان يحاول من خلالها تثبيت وثائقية الفيلم وانتمائه الجمالي، ليكون العمل في مجمله غنيا بالوثائق الفيلمية والحوارية التي صنعت سياق الفيلم العام، وساندت بشكل قوى رؤى المخرج وهدفه الأساسي الذي قام من أجله عمل  “غير لائق.. سيكولوجية دونالد ترامب”.