سينما “سام ميندز”.. توظيف الصوت والصورة

إسراء إمام

يمكن اعتبار سام ميندز مخرج بصري بدرجة كبيرة، فهو يستطيع توظيف الصورة بأكثر من طريقة

في يوم ما من أيام السبت، جلس المنتج والمخرج ستيفين سبيلبيرغ على مكتبه ليقرأ سيناريو بعنوان “جمال أمريكي” (American beauty)، وفي يوم الاثنين التالي من نفس الأسبوع، كان قد توصل لقرار حاسم بخصوص إنتاجه على الفور. السيناريو كان للكاتب ألان بول، وقد رشح سبيلبيرغ بنفسه شاباً إنجليزياً يدعى صامويل ألكسندر سام ميندز ليقوم بإخراجه، مانحاً إياه فرصةً سخيةً ليثبت نفسه داخل سوق السينما الأمريكية.

وبالفعل، لم يخذل ميندز مُنتِجه سبيلبيرغ، وجعل من فيلم “جمال أمريكي” قطعة فنية مشهودا لها، ستظل دوماً مُوثّقة في تاريخ السينما الأمريكية باستحواذها على خمس جوائز أوسكار دفعة واحدة، منها جائزة أفضل مخرج، وأفضل فيلم لعام 1999.

لم يتوان سام ميندز بعدها عن العمل على عدة روائع أخرى، أهمها كان “الطريق إلى الهلاك” (road to perdition, 2002)، و”جارهيد” (jarhead, 2005)، و”الطريق الثوري” (revolutionary road, 2008)، وهي الأفلام التي سيكون لها النصيب الأكبر من الحديث في هذا المقال، حيث اختَرت من بينها مجموعة من اللحظات المهمة على مستوى شريط الصوت، وتكوينات الصورة، والتي يمكنها ببساطة أن تدل على سمات خاصة ومميزة وهامة تخص سينما سام ميندز المُلهِمة.

الصورة.. التوظيف بطرائق عدة

يمكننا اعتبار سام ميندز مخرج بصري بدرجة كبيرة، فهو يستطيع توظيف الصورة بأكثر من طريقة، حيث يمكنه استخدامها كدلالة رمزية تعبر عن مشاعر لا يتم ذكرها قولاً، وهذا نراه مثلاً في فيلم الطريق الثوري، حينما كان فرانك مُشتتاً حائراً أمام اقتراح زوجته بنقل كامل معيشتهما إلى باريس، فنرى ميندز وقد التقطه واقفاً في منتصف الكادر ومُحاصراً بين ظليه، مما يشير للمتفرج بكل الضعف والتمزق الذي بداخله.

نفس المحاكاة نعثر عليها في فيلم الطريق إلى الهلاك، وهو أكثر أفلام ميندز اعتمادا على الصورة، حينما نجد جون روني زعيم أسرة المافيا يغادر قاعة الاجتماعات وقد أحاط بمُساعِده مايكل سوليفان، بينما لم يهتم لابنه كونر الذي بقي جالساً ممتعضاً في مكانه لم يتحرك، فيأتي دور ميندز كي يؤكد بالصورة على شعور كونر بالتلاشي، فيضع وجهه في مقدمة الكادر غير واضحاً (out of focus) بينما يبرز منظر أبيه وهو يُحيط بمساعِده المُفضل من خلفه.

وفي أحيان أخرى يكشف لك ميندز مصائر أبطاله من خلال تضمين معنى مُعين يعمل على تبليغه بصرياً، فيكون ذلك التكوين أو غيره نبوءة صحيحة يمكننا أن نستكشف منها ما سيحدث إن أمعنا النظر فيها، فمثلاً نرى مايكل الصغير في فيلم الطريق إلى الهلاك بعد مقتل أخيه وأمه يفر هارباً مع والده مايكل سوليفان مُخلفا وراءه دراجته مُلقاة مُهمَلة، فيمكننا أن نخَمِن بوضوح ما سيعانيه مايكل في الفترة القادمة من حياته مع والده على الطريق من ويلات الحرب التي بدأت للتو بين والده وزعيم المافيا الذي كان يعمل لحسابه، مما سيُنهي حقبة طفولته قبل الأوان، وينقله بوحشية ورغماً عنه إلى طور النضج والأرق النفسي.

أما في فيلم “نذهب بعيدا” (away we go, 2009)، وحينما كان الزوجان يجلسان في عتمة بيتهما بعد انقطاع النور، يشرع الزوج في إشعال شمعة، فنجد ضوء الشمعة يسطع تدريجياً على وجه البطلة، في الوقت الذي تواتيها فيه بالتوازي فكرة انتقالهما إلى منزل آخر، فتكون هذه البقعة من الضوء التي سقطت عمداً وبرويّة على ملامح البطلة هي كلمة السر التي تؤكد لك أن ثمة شيئا ما سيشرق في حياة الزوجين إثر هذا القرار.

في فيلم “نذهب بعيدا” (away we go, 2009)، وحينما كان الزوجان يجلسان في عتمة بيتهما بعد انقطاع النور، يشرع الزوج في إشعال شمعة، فنجد ضوء الشمعة يسطع تدريجياً على وجه البطل

على العكس، يحاول ميندز أن ينبهك بشأن “فرانك” بطل فيلم الطريق الثوري، هذا المسكين الذي يبدو مُنتشياً فَرِحاً بقرار انتقاله إلى باريس، وتوقفه عن عيش حياته بروتينية، فنجد ميندز واضعاً إياه في منتصف الكادر، والموظفين العاديين من حوله يتخذون نهجهم إلى اليمين واليسار، بينما يبقى هو قابعاً ساكناً واقفاً في مكانه، إذ يمكننا أن نفهم مبكراً وقبل أن يعدل “فرانك” شخصياً عن قراره أنه لن يذهب إلى أي مكان، بل ولن يحظى حتى بتلك الحياة المستقرة العادية.

 هذا وقد كان ميندز حريصاً منذ بداية الفيلم أن يصور لك فرانك دوماً بين حشد الموظفين أصحاب القبعات، بحيث لا يمكنك التفريق بينه وبينهم، فهو ليس إلا مجرد شخص عادي سيحاول تغيير حياته بعدها بقرار انتقاله إلى باريس، لكنه في النهاية لن ينجح في أي شيء.

يبتكر ميندز من الصورة تقنيات مميزة ولائقة، تخدم إيقاع السرد وتُحفزه، مما يُورط المتفرج بطريقة أضمن مع الأحداث، ففي فيلم جمال أمريكي نجده يُخَيّل لنا لستر برنام وهو يقف وحده هو وأنجيلا، وكأنهما في مكان معزول، على الرغم من أنهما يقفان في بيته حيث توجد امرأته وابنته، ولكن ميندز أراد أن يؤكد طبيعة تماهي لستر في انجذابه لأنجيلا، ليدفعنا داخل خياله الخاص الذي يرى جمالها دوماً مُخلصه الوحيد من حياته المقيتة.

وفي فيلم جارهيد، وحينما كان يروي لنا المجند سوافورد عن شكل حياته قبل تطوعه في المارينز، نرى ميندز يَعرض لنا في صور متسارعة طفيفة ما يأتي سوافورد بذكره، فتبدو كالبث التلفزيوني الذي يُقرب فيه الكاميرا (push in) من الصور التي لا يجد سوافورد غضاضة في الحديث عنها، ويباعد مُسرعاً (push out) عن الأخرى التي يقول سوافورد إنه ليس لنا حق المعرفة عنها.

يمكن لـميندز أيضاً التعبير بصرياً بسهولة عن المواقف، أو الشخصيات المخيفة، ففي فيلم الطريق إلى الهلاك، نجده يُقدم شخصية ماغواير القاتل المأجور المريب غريب الأطوار، بأسلوب بصري شهير أول من استخدمه كان المخرج هيتشكوك، ولهذا تمت تسميته بـ”طلقة الدوّار” (vertigo shot)، حيث يظهر ماغواير وهو يخطو بسرعة أسفل دعامات الكوبري من خلفه، وبالرغم من أنه يمشي باتجاهنا متقدماً إلينا، إلا أن الدعامات وكل شيء من حوله يتحرك أكثر منه.

تعرف هذه اللقطة أيضاً بـ”دولّي زوم” (dolly zoom)، وكأن ميندز بمساعدة مدير تصويره المُحبب إليه “كونراد هال” يتعمدان تقريب شخصية ماغواير إلينا بشكل مُشَوّه، يوحي بكمّ القدرة التي بداخلها على الأذى والتدمير.

تكرر نفس المبدأ ولكن باستخدام منهج بصري آخر في فيلم جارهيد، حينما أمسك الضابط رأس سوافورد وخبطه بقوة في السبورة التي أمامه، لأن الأخير خالف التعليمات ونظر إلى وجه الضابط وهو يتحدث إليه، بينما بدا عليه بعض الامتعاض وشيء من الانهيار. ميندز هنا يلتقط الكادر بحيوية حركته، ويضاعف من أثر ارتطام رأس سوافورد وقوة يد الضابط، ثم يوقف الكادر لثوانٍ على هذا المنظر، مُعتبِراً إياه أول عتبات الأهوال التي سيمر بها سوارفورد خلال فترة تطوعه في المايرنز.

يُحب ميندز لقطة بعينها دوماً ترتبط بتتابعات النهاية في أفلامه، وهي اللقطة التي يقف فيها البطل أمام نافذة واسعة، وهو يحمل عددا من المشاعر الحاسمة عن حياته، أيا كان نوعها، ففي الطريق الثوري نجد إبريل واقفة في هذا الكادر المفضل لـميندز وهي تشعر بالتحرر نوعاً ما، رغم علمها بأنها سوف تموت بعد دقائق، وكأن الموت لم يكن سوى الحل الوحيد لأزمتها.

وفي فيلم جارهيد نجد سوافورد واقفاً في نفس الوضعية، يتفكر وهو يقر مع ذاته بأن الحرب قتلت الرجل الطبيعي الذي كان من الممكن أن يبقى عليه، وإنما هو الآن مجرد مسخ لا يقدر على عيش حياته بدون أن يغيب عن باله ملمس البنادق ومشاهد الدمار.

أما في الطريق إلى الهلاك نجد سوليفان الأب الذي فقد زوجته وابنه الأصغر وأخذ يجاهد بكامل قوته ليحافظ على حياة ابنه الأكبر طوال الفيلم، يتخذ مكانه في نفس الكادر، ظناً منه في أنه نجح في أن يؤمّن نفسه وولده، ويبدو متأملاً المشهد من النافذة لثوان طويلة، يُداخلنا فيها ومعه بعض من مشاعر الاطمئنان والنجاة.

ولكن حياة سوليفان إن كانت ستنتهي، فهي لا بد وأن تنتهي عند هذا المكان المعتاد لـميندز، حيث يداهمنا فجأة صوت نافذ لرصاصة تأتي من خلف سوليفان، وترسم فوق معدته حفرة عميقة من الدماء، تأتي على كل حساباته عن الأمل والاستقرار التي كانت تدور في رأسه لتوها منذ ثوان.

أحياناً، يقوم ميندز بتبطين رمز بصري خفي يستمر على مدار الفيلم، ليؤكد على معنى معين له علاقة بالحبكة عموماً، كما حدث تماماً في فيلم جمال أمريكي، حيث يجعلنا ميندز دوماً أمام مظهر الورد الأحمر، وانعكاس تأثيره المُبهِج مع الخلفيات البيضاء كالجدران وسور الحديقة، ثم يأتي في نهاية الفيلم ويصدمنا بامتزاج اللونين ذاتهما في تكوين دموي -لحظة انفجار الدماء من رأس لستر برنام على الجدار الأبيض أمامه بعد إطلاق الرصاص عليه- له وقع منقبض تماماً يناقض ما اعتدنا أن نشعر به.

لنجد أن هذه المحاكاة المكتملة بصرياً، تناسب معنى مهما في الفيلم كلياً، وهو فكرة أن الجمال لا يقف بالضرورة عند الرؤى الواضحة البينة، وإنما الأمر يحتاج دوماً إلى التدقيق فيما وراء الصورة، فإن كنت تظن أن عائلة لستر تحيا بسعادة فإن ظنك خاطئ، فثمة جمال أبعد من الأفكار والمناظر القريبة وثمة قبح أيضاً، المهم أن تمعِن النظر، وستعرف الحقيقة أيا كانت.

وقد أكد ميندز على نفس المعنى بصرياً أيضاً ولكن بشكل أكثر مباشرة، حينما جعلنا نرى لافتة صغيرة بعنوان “انظر بتمعن” التي نجدها معلقة ضمن أشياء مكتب لستر برنام في العمل.

كرر ميندز الأسلوب ذاته في فيلم الطريق إلى الهلاك، فطوال الفيلم كنا نرى الأيقونات الدينية وهي تُقارِب الأسلحة، وأحياناً تتراص إلى جانبها في كادر واحد، وهو ما يبرز بقوة معاناة بطلي الفيلم جون روني زعيم المافيا، ومُساعِده مايكل سوليفان، الشخصان الخَيّران بطبعهما واللذان يعملان في الوقت نفسه في بيئة تمتلئ بالقتال والدم، وهو الأمر الذي يؤرق دوماً صدريهما، ويجعلهما -على الرغم من ذهابهما المستمر إلى الكنيسة ومحاولة الاقتناع بكونهما قريبين من الرب- ينازعان على الدوام ويشعران أن مصيرهما الجحيم.

يبتكر ميندز من الصورة تقنيات مميزة ولائقة، تخدم إيقاع السرد وتُحفزه، مما يُورط المتفرج بطريقة أضمن مع الأحداث

الصوت.. بيان فلسفة المشهد

سام ميندز من المخرجين الحريصين على الاستفادة من شريط الصوت في أفلامه، وتوظيفه طبقاً لما يرغب في توضيحه من فلسفة تخص الفيلم أو المشهد، ولهذا نجد عددا من التكنيكات التي يلجأ لها ميندز ليحقق ذلك، ويُسيطر تماماً على العناصر الصوتية لتخدم أفكاره.

أول تكنيك -وهو الأهم أيضاً- حينما ينقلك ميندز فجأة من حالة صوتية إلى أخرى، ليكثف لك مناخا معينا يميز هذا المشهد أو غيره، فمثلاً في فيلم جارهيد، في مشهد هجوم الطائرات تحديداً، نرى سوافود يتمسك في وقفته النصف واعية والمتعنتة، رغم كل صيحات زملائه بأن يختبئ مثلهم ومعهم من الجحيم الذي تمطره السماء من ذخائر، إلا أنه لا ينصاع ويبدو يائساً لدرجة رغبته في الموت، وعلى الرغم من أنه يبدو قوياً غير عابئ إلا أنه يكون مرعوبا في حقيقة الأمر. وهنا يقطع ميندز فجأة أصوات النيران والفزع، ليتضح صوت الصمت، ومن بعده صوت ذرات الرمال الخفيفة التي ترتطم بحدة وكثرة على وجه سوارفورد، فيبدو الأمر كله ككابوس مُفجع وموحش، ينتهي بالعودة إلى صوت الواقع بعد انتهاء الهجوم، وحينها يُدرك سوافورد ونُدرك معه أنه قد بلل سرواله.

يتكرر ذات التكنيك في فيلم الطريق الثوري عند المشهد الذي تُشارك فيه إبريل جارها الرقص، حيث يجعل ميندز الأولوية فجأة لموسيقى الفيلم، فتنمحي تماماً موسيقى الغنوة الراقصة التي يتراقص عليها الممثلان في الأصل، فيبدوان غريبين وهما يتحركان بخفة وانجذاب وتقافز على موسيقى الفيلم الشجِنة الممتلئة بالدراما، مما ينم عن رغبة ميندز الواضحة في تكثيف مشاعر الانجذاب اللحظي بين إبريل وجارها في هذه الليلة، كما يَرمي إلى حالة الانطفاء الواضح بداخل إبريل والتي لا تزال تأكل كافة مشاعرها تجاه الحياة عموماً، حتى وهي تتراقص في انطلاق.

أسلوب آخر يستخدمه ميندز ليستفيد من إمكانيات الصوت درامياً، نراه في فيلم الطريق إلى الهلاك يضع مقطعاً هادئاً ناعماً على مشهد قتل مايكل سوليفان لزعيم المافيا جون روني، فبدلاً من أن يجعلك ميندز تستمع إلى الصوت الفعلي لأسلحة الرشاش، وسقوط رجال جون روني واحداً تلو الآخر، اختار أن تداعب أذنيك في هذا المشهد تلك الموسيقى الرهيفة، ليعود بك إلى طبيعة العلاقة الإنسانية التي سبق وجمعت بين مايكل وروني، والتي كانت في أحسن حالاتها لعمر طويل، حتى انقلبا إلى أعداء من فترة بسيطة، وليؤكد لك جملة روني الجميلة والغريبة التي قالها لـسوليفان قبل أن يموت “أنا سعيد لأن موتي حان على يديك أنت”.

وأخيراً نتطرق لآخر أساليب ميندز في التعامل مع الصوت، ولذلك سنتحدث عن مشهد النهاية في فيلم الطريق الثوري، حينما تتكلم السمسارة مسز جيفينز عن عائلة ويلر -بطلي الفيلم- بمقت وتسخيف واضح بعدما كانت تطير بهما طيراً في بداية الفيلم، وهذا لأنهما أخفقا في إدارة حياتهما، فلم يكونا الشريكين المثاليين اللذين يحققان صورة النجاح الظاهرية أمام الجميع، حتى وإن كانت مزيفة. هذا هو السبب الفعلي لقيام هذه السيدة بالكلام سلباً عن آل ويلر، والذي لم تتطرق له أبداً في كلماتها الثرثارة النافرة من دون أي داع لذلك، لهذا يخفض زوجها صوت سماعات أذنه تماماً، ليختفي صوتها وحديثها الكاذب المؤسف من محيط سماعه، وذلك في الوقت الذي ينظر إليها فيه وكأنه مازال مهتماً.

سام ميندز اعترف مسبقاً أن معظم أفلامه تدور حول أناس ضائعين يحاولون طوال مدة الفيلم الخلاص بأية طريقة، حتى ولو عن طريق الموت

آخر كلمتين

سام ميندز أحب التعامل مع المصور كونراد هال، ولكن آخر تعاون بينهما كان فيلم الطريق إلى الهلاك، لأن هال توفي في عام 2002، كما أن معظم أفلامه تعامل فيها مع المؤلف الموسيقي الجميل توماس نيومان.

سام ميندز اعترف مسبقاً أن معظم أفلامه تدور حول أناس ضائعين يحاولون طوال مدة الفيلم الخلاص بأية طريقة، حتى ولو عن طريق الموت.