“سيّد المجهول”.. وليٌّ غامض الهوية يرقد على كنز لص فوق التلة

تتوقف سيارته المُهترئة وينزل منها مُتعجّلا، يجول في أرجاء المكان بنظرة قلقة تتوقف عند تلة نَبَتت عليها شجرة، يصعد التلة جَرْيًا وهو يحمل مِعوَلا ويبدأ بالحفر، ثم يسوّي الأرض بعدها ويضع علامة شاهدة، حيث بات في المكان قبر، فهنا رقدت حقيبته ومحتوياتها المسروقة. يصله صوت صفارات سيارات الشرطة وهي تقترب، يهبط مسرعا ويستسلم.

إنه مشهد أول سنعرف ما يتبعه، كذلك يحصل مع معظم مشاهد فيلم “سيد المجهول”، لكن هذا لا يمنع سردا مُشوّقا مع حبكة شديدة المتانة لم تُهمل تفصيلا، أو تترك أي شيء يسير على هواه.

مشهد ثانٍ للسارق في لقطة من الخلف أمام باب يُفتح على ضوء يشعّ، نراه يخطو نحوه بعيدا عن ظُلمة المكان حيث كان واقفا. لقطة جميلة دون أن تكون متفردة، ولن تكون الوحيدة. بالطبع سيتجه السارق الذي لا يناديه أحد باسم -لا كلام في المشهدين- مباشرة إلى حيث دفن غنائمه، فهو يظن عند وصوله أنه أخطأ المكان، لكن لا، هذه هي الصحراء التي ما زالت قاحلة برمالها وأحجارها، إذا ما الذي جرى فوق على التلة؟

كانت قبة تعلو مبنى أبيض متواضع الهيئة، لكنه جميل بتصميمه، شبيه بذلك الذي يُبنى فوق أضرحة الأولياء، إنه فعلا كذلك، فالتلة الجرداء باتت مزارا يتدفق إليه الحجاج للتبرّك بـ”السيد المجهول” المدفون هناك. وفي الجهة الأخرى من التلة كانت المفاجأة الثانية، فقد أصبح المكان مُستقرا لقرية جديدة قامت على رماله. سيتعيّن على “أمين” الذي عُرف اسمه فيما بعد؛ التأقلم مع المستجدات كي يتمكن من استرداد ثروته، إنه مفلس، لكن أيادي كريمة تتناسب مع قدسية المكان تمتد لمساعدته كي يستطيع قضاء الليلة في بلدة غدت هدفا لكل مريض وباحث عن معجزة، وذلك كي يحققها هذا الولي الغامض الهوية.

الهجرة إلى الضريح المجهول.. صلاح القلب والجيب

في “سيّد المجهول” للمغربي “علاء الدين الجمّ” تأسرنا روح الدعابة التي تُخيّم تقريبا على معظم مشاهد الفيلم، دعابة ساخرة بارعة تعتمد الموقف أكثر مما تقوم على الحوار، فهي معمولة بذكاء، وتتجنب سخرية مباشرة أو فظّة من معتقدات الناس، وتكتفي بالإشارة بأسلوب مراقب يدلّ على إخراج حاذق يُتقن فن استخدام الهزل إلى حدّ بعيد.

من خلال قصة أمين السارق (الممثل يونس بواب) يخوض المخرج في حياة قرية مغربية معزولة، حيث يبدي تعلّق الناس بالمكان وهجرانهم لقريتهم القديمة للاقتراب من الضريح، وذلك للاستفادة من برَكَته المعنوية والمادية، فقدوم أناس من أمكنة بعيدة للزيارة يُحقق ازدهارا وحركة من بيع وشراء لتعاويذ ولمشروبات مُرطِبة، إلى بناء أماكن سَكَن وغرف للإقامة وفنادق.

كان محور السرد يدور حول محاولات أمين الحثيثة لاقتحام المكان لاسترداد مسروقاته إذ لم يعد هذا بالشيء السهل، فقوة تأثير المعتقدات تدفع الجميع حتى السارقين للخشية، لكن بناء الفيلم يتشعب نحو شخصيات أخرى قروية، ويرصد من خلالها خليطا من مواقف تتنوع بين هزل ومأساة، وتتمحور حول العلاقة مع المعتقد وتحولات مجتمع القرويين الصغير وحياتهم الرتيبة القاسية ومعاناتهم من الجفاف والفقر والجهل.

يعرض المخرج كل هذا دون الاقتراب منهم تماما، بل بالتركيز على جانب من حياتهم، هذا الجانب المتعلق بالمكان من حيث التأثير والتأثر. بالتالي ليس ثمة كشف عن خبايا الشخصيات أو علاقتها ببعضها البعض، فمعظمها يظهر ولا يتكلم في قصة عبثية تتجاوز المعقول.

الفلاح الصامد في أرضه يترقب المطر وابنه الذي يُفكر بالهجرة

الولي الحقيقي.. شخصيات بمصائر مُتقاطعة

هناك قريتان، الأولى هجرها سكانها لقسوة الطبيعة عليهم وجفافها، والثانية بجوارها بُنيت حول المقام وجذبت سكان القرية الأولى للتمتع بمزايا القرب من ضريح وَلِيّ. في الأولى ما زال هناك القروي الذي يقاوم إغراء الرحيل ويُصرّ على البقاء في داره على أرض أجداده للحفاظ عليها، لا ينوبه إلا الشقاء في ظروف تقضي على كل سعي، إنه فلاح ينتظر الأمطار التي لا تهطل، ويستميت للبقاء على الرغم من هذا، مما يدفع ابنه الشاب إلى الهجرة وتركه وحيدا، إنه “الولي” الحقيقي الذي يستحق كل تبجيل.

في القرية الجديدة هناك شخصية الطبيب “أنس الباز” الذي ترسله الدولة للمستوصف، وهو سرعان ما يستسلم بمساعدة الممرض العجوز (الممثل حسن بديدة في أداء لافت)، أمام خمول المكان وأهله، ورفض الرجال القدوم إليه للعلاج، فهم يولون هذه المهمة للسيد المجهول. وهناك أيضا حلّاق القرية الذي أضاف وجوده فكاهة على المكان بالنظر لزبائنه وأسلوبه.

شخصيات لا رابط يجمع بينها وبين الشخصية الرئيسية سوى المكان وصاحبه (الولي)، شخصيات تتقاطع مصائرها في مكان يرمز لعبثية الحياة، إنها تنويع للسرد وإغناء له من حيث إبراز علاقتها بالمحيط، كما تبرز أسلوبين للعيش والتفكير، واحد تحكمه عادات وتقاليد وعقليات جامدة جمود الحركة في صحراء كهذه مُمثَل بسكان القرية، وآخر أكثر عصرية مُمثَل بالطبيب والسارق ومساعده “الدماغ” (الممثل صلاح بن صلاح في أداء لافت أيضا).

لكن هناك أيضا شخصية الحارس وكلبه المكلفان بحراسة المقام في وجود غير مقنع، فلا ثروات ولا ممتلكات سوى بعض القروش القليلة التي يرميها زائرون قلائل أيضا، وذلك في حوض الماء أمام الضريح ذي الباب المغلق. لكن وجود هذه الشخصية ضروري للسيناريو، ليضع العقبات في وجه تسلل السارق داخل المقام، كما يبرر وجودها أسلوب العبث الذي اتبعه المخرج في الفيلم، حيث لا منطق ولا عقلانية لكثير مما يحدث، لكن استخدام أسلوب اللامعقول يسمح بتناول مواضيع جديّة بخفة فعّالة بتأثيرها.

اللص ومساعده الملقب بالدماغ يخططان لآلية تنفيذ اقتحام الضريح على سطح التلة

أسنان ذهبية لكلب الحارس.. كوميديا خلّاقة

السيناريو محبوك ببراعة، لكن بشدّة لا تسمح بتخطيه، فكل شيء مدروس، حيث تتكرر المشاهد في ذات الأمكنة، لكن مع تغييرات دقيقة فيها كل مرة، مشاهد في غرفة استقبال الفندق، وعند الصعود للتلة، ومحاولة اقتحام المكان، والحارس مع كلبه، والحلاق وزبائنه، والاستماع للنشرة الجوية. هي معظم المشاهد التي تُستعاد، لكن كل مرة مع تفصيل جديد وكوميديا خلّاقة في كثير من الأوقات.

يُصور المخرج مكانا للزيارة وبعض التفاصيل البسيطة مما هو متداول حوله، ويُبدي بعض المعجزات، كهذه العجوز التي صعدت بكرسي متحرك ونزلت على قدميها.

روح الدعابة الحساسة تلك طغت على بعض العيوب في الفيلم لناحية السيناريو مثلا، وما شابهُ من ضعفٍ وجنوح خيال، مثلا لناحية قيام الطبيب بتركيب أسنان ذهبية لكلب الحارس، وتحوّله هكذا إلى طبيب بيطري، وذلك نظرا لعدم قدوم المرضى الحقيقيين للاستشفاء عنده.

صدمة السارق المطارد حين عاد ووجد القبر المهجور صار يُسمى بـ”ضريح سيّد المجهول”

متعة الخيال.. لغة سينمائية هزلية

هذه اللغة السينمائية الهزلية هي أفضل ما في الفيلم، وذلك لإبرازها مدى عبثية الحياة، فقد استخدمها المخرج علاء الدين الجمّ للحديث عن أشياء حسّاسة في المجتمع، وعن سطوة المعتقد، وليس الأمر متعلقا بالإيمان، بل إنها مسألة معتقد -كما يقول في حوار ترويجي للفيلم في فرنسا- بهطول أمطار لا تأتي، ودواء ينفع لكل الأوجاع، بالحصول على حقيبة مدفونة منذ سنين، أو الاعتقاد بمعجزات وليّ نجهل من هو، إنها لغة تُمرِّر كل هذا بذكاء، لأنها تحتاج للخيال، من أجل إيراد كل ذلك بسهولة ومتعة مؤكدة أكثر من المباشرة.

لقد اختار المخرج أسلوب الهزل هذا رغم مخاطره وتحذير البعض له منه، ومن كون القصة ليست اجتماعية بما فيه الكفاية، لأن المخرجين من جيله “سئموا من كون الأفلام التي تأتي من هذه المنطقة يجب أن تحكي بالضرورة عن ظرف المرأة أو الإرهاب أو الدين أو الهجرة، مع أن هناك الكثير من الأشياء الأخرى في المجتمع ليحكى” كما قال.

الفيلم الذي مثّل المغرب في المسابقة الرسمية للدورة الـ18 في مهرجان مراكش الدولي للفيلم (من 29 نوفمبر/تشرين الثاني وحتى 7 ديسمبر/ كانون الأول 2019)؛ عُرض في افتتاح أسبوع النقاد في الدورة  الـ58 لمهرجان كان عام 2019. والمخرج علاء الدين الجم المولود في الرباط درس السينما في مراكش، ثم أكمل دراساته السينمائية العليا في بروكسل ببلجيكا، كما حقق عدة أفلام قصيرة، منها “أسماك الصحراء” (2015) الذي نال جائزة أفضل فيلم قصير، وجائزة النقاد والسيناريو في مهرجان الفيلم الوطني في المغرب، كما عُرض في عدة مهرجانات دولية.