“شرطة”.. معركة الصورة النمطية في الحي العربي

يرى الكاتب والمحاضر الأكاديمي الأمريكي “صامويل هنتغتون” أن الصراعات بعد الحرب الباردة ستأخذ منحى مغايرا عن ما قبلها، وذلك لبُعدها عن السياسة بقدر اقترابها من الثقافة والأعراق، وهذا وحده كفيلا ليس بجعل الحضارات تتصارع فقط، بل يدفعها نحو صدام لا محالة، ومع نمو سياسات النيوليبرالية (الليبرالية الحديثة) التي صاحبت صعود اليمين المتطرف في الدول الغربية بصفة عامة؛ أصبحت بوادر صدام الحضارات وشيكة الوقوع، إن لم تكن قد بدأت بالفعل.

هذه الأجواء المعتمة لم تبتعد السينما عن طرق دروبها وفهم حقيقتها، وأحدث ما ألقي في بحيرة الماء الآسن الفيلم الدنماركي “شرطة” (Shorta) الذي أنتج عام 2020، وهو من سيناريو وإخراج “فريديرك لويس هافيد” و”أندريس أولهم”، وقد عرض في مسابقة أسبوع النقاد الدولي أثناء فعاليات الدورة الـ77 من مهرجان البندقية السينمائي الدولي.

في إطار تحكمه الإثارة والتشويق تدور أحداث الفيلم التي ترصد 24 ساعة في حياة ضابطي الشرطة الدنماركيين “مايك” (الممثل ياكوب لوهمان) و”جينز” (الممثل سيمون سيرس) أثناء عملهما في الدورية الأمنية في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن، وذلك حينما يصلان بالخطأ إلى الحي العربي، ليصبح أمر خروجهما قيد المستحيل بعد أنباء عن وفاة أحد الطلاب العرب في إحدى المداهمات الأمنية.

يبدو الفيلم مهموما بالتعبير عن حالة الصراع الأزلي بين الشرق والغرب، ذلك الصراع الذي تحوّل في السنوات الأخيرة إلى حالة من العداء الصريح بين الغرب من ناحية، والعرب والمسلمين من ناحية أخرى، لكن الفيلم هنا يزيح اللثام عن دوافع الكراهية المتبادلة وأسباب نفور كل طرف من الآخر، والأعمق والأجرأ فيه هو الكشف عمّا يتعرض له العرب في بلاد القارة العجوز من عنصرية، وكأن نيران الغربة وحدها لا تكفي للنيل منهم.

“لا أستطيع التنفس”.. صرخة شاب عربيّ في الدنمارك

يبدأ الفيلم بمشهد نرى فيه لحظات مداهمة الشرطة الدنماركية لمنزل الشاب العربي طالب بن حاسي وهو يصرخ أثناء القبض عليه قائلا بصوت مبحوح “لا أستطيع التنفس”، في معارضة فنية للصيحة الشهيرة التي أطلقها المواطن الأميركي “جورج فلويد” أثناء القبض عليه من قِبل الشرطة الأمريكية. ثم ننتقل للمشهد التالي، حيث نرى تدريبات وتجهيزات قوات الشرطة وكأنها مُقبلة على معركة مصيرية.

يُدخلنا السيناريو شيئا فشيئا في عالم الفيلم ويُهيئ المتفرج لما هو آتٍ، حيث الشرطة في مقابل المهاجرين العرب، فلكل منهما عالمه المبتعد عن الآخر، فالشرطة تنظر إلى العرب بعين الاحتقار وكأنهم حثالة لا يستحقون العيش، وأما العرب فيعيشون في المهجر ويعانون من العزلة والظلم.

كل طرف يرتاب من الآخر وكأنه عدو لدود وجب رجمه، ففي أحد المشاهد نرى طائرة مروحية تابعة لقوات الشرطة وهي تُحلّق أعلى الحي العربي راصدة ما يدور بداخله، وفي الأسفل طفلة عربية ترسم على الأرض حدقتي عينين تنظران للأعلى، في إشارة لحالة العدائية وتربّص كل منهما للآخر، ولسان حال الطفلة يقول: إن كنتم تروننا، فعيوننا مصوّبة عليكم.

يسعى السيناريو عبر مشاهده الأولى إلى ترسيخ حالة المقارنة بين العرب والشرطة، ويميل ميزان قوتها لصالح الشرطة، سواء عبر مشاهد التدريب المكثفة التي يُمارسها ضباط مفتولو العضلات بشكل مبالغ فيه نوعا ما، أو في مشاهد أخرى ترصد سيارات الشرطة المجهزة بأحدث التقنيات، وذلك من خلال زوايا الكاميرا المقرّبة نحو السيارات في أوضاع تُبرز مدى حداثتها، ومن ناحية أخرى يظهر العرب الذين يقطنون على الأطراف والضواحي، في إشارة إلى وضعهم على الهامش، هذا عدا عن باقي المشاهد التي تُبرز تباين الصورة بين كل طرف وآخر، مثل المشهد الذي نرى فيه سيّدة عربية تسير برفقة طفلها وهي تنظر بريبة مفعمة بخوف نحو سيارة الشرطة.

الممثل ياكوب لوهمان في دور ضابط الشرطة الدينماركي مايك

صناعة الذروة التدريجية.. أسلوب السيناريو التقليدي

اختار السيناريو أن تسير أحداثه وفق الأسلوب التقليدي في الدراما، حيث البداية والوسط والنهاية، وذلك في سرد خطي تتصاعد أحداثه تدريجيا حتى نصل للذروة المرتقبة، والبداية مع شذرات من عالم الشرطة والعرب كل على حدة، فنرى “مايك” و”جينز” أثناء ممارسة عملهما في الدورية الأمنية في شوارع كوبنهاغن، وذلك في لقطات “فوتومونتاج” طويلة بعض الشيء، فنلمحهما وهما يلقيان القبض على أحد المجرمين، وفي أحيان أخرى يتناولان طعامهما، وفي أغلب الأوقات وهما يتفحصان الحالة الأمنية في الأحياء السكنية.

ثم ينتقل السيناريو للمرحلة الثانية أو فصله الثاني، حيث بدايات الأزمة التي تتشكل مع وصول سيارة “مايك” و”جينز” بطريق الخطأ إلى الحي العربي، وذلك مع أنباء عن وفاة الشاب العربي طالب بن حاسي متأثرا بإصابته أثناء القبض عليه، لتصبح هذه النقطة دافعة السرد للأمام، ومُشكلة ملامح عقدة للأحداث لن ينفرط عقدها بسهولة.

ومع بدايات الفصل الثالث تتبدل المصائر والأدوار فجأة، وتتغير الرؤية العامة للشخصيات، وتبزغ شرارة حل الأزمة رويدا رويدا، فقد جعل السيناريو المنسوج أحداثه وفق منوال متصاعد بشكل احترافي للغاية لتتأجج الأحداث على مهل، ولكل حدث أو فعل دافع أو حافز يبعث على حدوثه، وبشكل يحافظ على ثبات المتفرج أمام الشاشة، منتظرا بلهفة المزيد من الأحداث المُطعّمة بجرعة لا بأس بها من الإثارة كفيلة بحبس الأنفاس.

قائد الشرطة “جينز” يرافق “مايك” خلال دوريتهما الأمنية في الحي العربي، والتي اختطفا فيها الشاب العربي عاموس

“مايك” و”جينز”.. وجهان لعملة واحدة

يطلب قائد الشرطة من “جينز” أن يرافق “مايك” في الدورية الأمنية، خاصة بعد تصاعد موجات الغضب والاحتجاجات ضد مقتل طالب بن حاسي، والأهم هو خشية القائد من أفعال “مايك” المتهورة، فقد رسم السيناريو شخصية “مايك” بشكل يتعارض كليا مع شخصية “جينز”، وكأنهما يُمثلان النفس الإنسانية بما تحويه بداخلها من خير وشر، فالإنسان وفقا لتعريفات علم النفس تحتوي طبيعته الشخصية على الخير والشر، وبناء على خياراته تتباين أفعاله بين الصواب والخطأ، فليس كل الخير خيرا صافيا، ولا كل الشر شرا مطلقا.

نرى “مايك” أثناء عمله وهو يمارس التنمر والسخرية من شعوب الغجر وغيرهم من الشعوب غير الأوروبية، حيث ينعتهم بأسوأ الألفاظ في صلف وكبرياء سرعان ما يتبدد، أما “جينز” فلا يعنيه ما يُطلقه “مايك” من قذائف كلامية يُعاقب عليها القانون.

رسم السيناريو هاتين الشخصيتين كوجهي عملة واحدة، كل منهما في حاجة للآخر، فـ”مايك” بحاجة إلى “جينز” لضبط انفعالاته، و”جينز” أيضا بحاجة إلى “مايك” منقذه الشخصي في الأوقات الصعبة.

يُمثل “جينز” رمانة ميزان أفعال “مايك”، فحينما يهم “مايك” بالشجار مع أحد العرب الغاضبين يقف “جينز” حائلا بينه وبين فورة غضبه التي ستؤدي لعواقب لا يقدر أحد على كبح زمامها، لكن “مايك” يرى أن كل أفعاله تقع في خانة الصواب ولا تقبل المناقشة، وهنا تنشأ نقطة صراع جديدة وهي الصراع بين طبقات النفس الإنسانية، وتُضاف هذه النقطة للصراع الدرامي الرئيسي، ألا وهو الصراع بين العرب والشرطة، أو بمعنى أدق العرب والغرب.

مايك الذي يرى المهاجرين العرب أقل مرتبة وأدنى شأنا يُلقي القبض على الشاب العربي عاموس

اختطاف في الحي العربي.. وقوع الشرطة في المصيدة

يتمحور نسج السيناريو للصراع الدرامي حول نقطة جوهرية، وهي الصراع بين العرب والشرطة الدنماركية، فكل منهما يُجابه الآخر سواء بالقول أو بالفعل، مما يعكس حالة من العدائية التي تُخيّم على أجواء الفيلم، مُعبرة بصراحة متناهية عن أزمة واضحة وهي عدم قبول الآخر.

يرى “مايك” المهاجرين العرب أقل منه مرتبة وأدنى شأنا، وينظر لهم بريبة وحذر بل وبعنصرية أيضا، ولا يتورع عن استغلال نفوذه في التحرش بهم، وأثناء عمله في الدورية الأمنية بصحبة “جينز” يدخلان بالخطأ الحي العربي، وهناك يلفت نظر “مايك” الشاب العربي المار في الشارع عاموس (الممثل طارق الشامي)، ليبدأ “مايك” التحرش به وإلقاء حاجياته في الشارع دون سبب مفهوم سوى العنصرية والكره الذي يُحرّك أفعاله تجاه الآخرين، ليبدو هذا الفعل محركا للصراع، ومشعلا لفتيل أزمة لا نهاية لها تلوح في الأفق.

ينتفض عاموس لكرامته ويلقي بالألوان على سيارة الشرطة ويهرب بعدها، ويدخل الفيلم في دوّامة من المطارادات بين الشرطيين بعد اختطافهما عاموس وبين العرب الغاضبين، فالشرطيان يبحثان عن مخرج من الحي العربي، والعرب يبحثون عنهما لفك أسر عاموس من قبضتيهما.

هنا تتبدل المصائر، فقد أصبحت الشرطة في وضع الحصار بعد أن كانت في حيز الأمان، بينما يحكم العرب سيطرتهم على مخارج الحي، لتقع قوات الشرطة في المصيدة التي لا تبين لها ثغرة.

صراع الشرق والغرب.. معركة التفوق العرقي

يُدخلنا الفيلم رأسا منذ مشاهده الأولى إلى جوهر أفكاره ومضمونها، وهو الصراع العرقي بين الشرق والغرب، ونظرة كل طرف للآخر، وكلما توغلنا في السرد انكشف ما ظهر وما بطن من كل طرف، وتحديدا العرب.

فقد أراد الفيلم أن يُزيح الستار عن تلك الصورة النمطية المنتشرة عن العرب، وينسج صورة جديدة قد تفاجئ العرب أنفسهم عند مشاهدة الفيلم، وهي وقوف الفيلم بجانب العرب، والتعبير عن مأساتهم بأسلوب فني جذاب وطموح، سواء على مستوى الإخراج أو السيناريو.

فقد جعل السيناريو من العرب وتحديدا في بداية الفيلم الطرف الأضعف في معادلة صراع القوة الدائرة طوال الفيلم، وذلك عبر وضع الشخصيات العربية في مرمى الحدث، بحيث تبدو مفعولا بها، مثل شخصية عاموس الطالب العربي المتفوق رياضيا، فلا حول له ولا قوة، إذ يتحول في لمح البصر لعصفور في قفص، ولا يدري ما هي فعلته التي أدت به إلى ما وصل إليه، وتصبح الرغبة في التغيير والتعبير عن رفض الظلم نقطة جوهرية لتوهج السرد، ومن ثم اشتعال الصراع، ذلك الصراع المعبر عن حال العرب في الغربة من ناحية، واكتشاف رؤية جديدة عنهم من ناحية أخرى.

الضابط “جينز” يكبت غضبه من أفعال زميله “مايك” بعد شجارهما مع بعضهما حول ترك عاموس يعود لمنزله

رصاصة طائشة تسقط “مايك”.. إعادة اكتشاف الذات

مع نهايات الفصل الثاني من الفيلم، يتشاجر “مايك” مع “جينز” حول ترك عاموس يعود لمنزله، بينما يرى “جينز” تركه حتى تتنهي فورة غضب العرب، لكن “مايك” يختلف معه فيرى الاحتفاظ بعاموس كورقة ضغط على العرب، وعلى إثر هذا الشجار يبتعد “مايك” و”جينز” عن بعضهما ويفترقان في طرق مغايرة، ثم يُصاب “مايك” برصاصة طائشة يفقد على إثرها وعيه، ليستيقظ بعد فترة ويجد نفسه في منزل عاموس، حيث أمه عبية (الممثلة أوزلم ساغلانماك) تُقدم له الرعاية اللازمة.

وهنا يُصاب “مايك” بنوبة وعي فجائية تُعيده إلى صوابه، وتجعله يرى الأمور من زواية أكثر رحابة، فالعرب مثله قوم لديهم قلوب أيضا، ليصبح هذا الجزء أعمق أجزاء الفيلم من حيث طرح الأفكار والاشتباك معها.

فقد لجأ المخرجان إلى تقنية المونتاج المتوازي، حيث نرى مشهدا فيه “مايك” مع أم عاموس وهو يُعيد اكتشاف ذاته ورؤيته لمن حوله، ومشهدا آخر لـ”جينز” وعاموس أثناء حصارهما داخل الحي العربي، فلا يستطيعان العودة بعد فورات الغضب العربية المتناثرة في أرجاء الحي، وكأنهما في جحيم لا نهاية له.

إضاءة اللون الأحمر القاتم.. نيران الكراهية

مع وصول “مايك” إلى منزل عاموس وتلقيه للعلاج، تتحول الألوان والإضاءة تدريجيا إلى اللون الأحمر القاتم، رغم أن إضاءة الفيلم ككل تتسم بالقتامة والظلام نوعا ما، وذلك تعبيرا عن الواقع المظلم الذي تعيشه الشخصيات، وتعبيرا عن ما بداخل نفوسهم أيضا من غل وكراهية، وتحديدا شخصية “مايك”.

هذه الإضاءة الخافتة تصل إلى ذروتها في مشاهد “مايك” وعبية وحوارهما معا، لتُطعّم تلك الإضاءة باللون الأحمر القاتم الممزوج بظلام الصورة، تعبيرا عن الكراهية المكنونة داخل نفس “مايك”، وإشارة لبحر الدماء الساخن الذي ينتظر أجساد الضحايا في تلهف.

يستعين “مايك” بأحد الشبان العرب للهروب من الحي العربي المحاصر، وأثناء هروب الشاب من الرصاصات الطائشة يُصاب بعيار ناري من سلاح “جينز” عن طريق الخطأ ويلقى مصرعه على الفور، وهنا تعود شخصية “مايك” إلى ما كانت عليه  في السابق، حيث يضع سلاح “جينز” في يد الشاب العربي، لتبدو القضية دفاعا عن النفس خشية تعرض “جينز” للمساءلة القانونية.

يُحيلنا الفيلم مرة أخرى لضعف النفس الإنسانية التي تُبدل الإنسان من حال إلى حال، ليبدو وكأنه ألعوبة في يد نفسه الأمارة بالسوء، ومن ثم يبقى الحال على ما هو عليه، ونيران الكراهية تتأجج بعد أن أوشكت أن تُصبح رمادا.

مخرجا فيلم “شرطة” “فريديرك لويس هافيد” و”أندريس أولهم” اللذان اختارا عنوان الفيلم لدلالته الشعبية

دلالات العنوان الشعبية.. انحياز الفيلم للعرب والأقليات

اختار المخرجان “فريديرك لويس هافيد” و”أندريس أولهم” -حسب قولهما- اسم الفيلم مُعبرا ليس فقط عن الشرطة أو البوليس بمعناه في اللغة العربية، لكنه يحوي أيضا معنى آخر في الثقافة الشعبية في الدنمارك.

يُشير المصطلح في الثقافة الشعبية إلى الشرطة كقوة عسكرية تختلف وجهات النظر حولها في الدنمارك سواء بالإيجاب أو السلب، ليصبح مضمون الفيلم لا ينحاز للعرب فقط ويُندد بالعنصرية تجاههم، لكن المعنى يتسع لآفاق أكثر عالمية عن قبول الآخر وحقوق الأقليات المتناثرة هنا وهناك، التي لا تجد آذانا صاغية لأنينها المتصاعد.