شكل الماء.. مزج الحلم والواقع

محمد هاشم عبد السلام

لقطة من الفيلم – إيلايزا وشكل الماء

عن جدارة واستحقاق، فاز فيلم “شكل الماء”، للمخرج المكسيكي الموهوب “جييرمو دل تورو”، بجائزة الأسد الذهبي للدورة الرابعة والسبعين من مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، الذي انعقد مؤخرا. وقد استحق فيلم “شكل الماء”، دون ريب، الفوز بتلك الجائزة، التي تُمكن قراءتها، أيضًا، كجائزة إجمالية، توَّجت العديد من أوجه الجمال والتميز التي جاء عليها الفيلم. ولو كان المهرجان يمنح جوائز أخرى للمونتاج أو الموسيقى أو المؤثرات البصرية أو الديكور إلى آخره، لفاز بها الفيلم بمنتهى السهولة.

منذ المشهد الافتتاحي البديع لفيلم “شكل الماء”، يُدخلنا دل تورو مباشرة في عوالمه الغريبة. ونُدرك للحظات، أننا إزاء أحد الأفلام المُفارقة للواقع. في ذلك المشهد، الذي يستمر لدقائق قليلة، نسبح للحظات حالمة مع كاميرا دل تورو، وألوانه، وتكوينه البصري الخلاب، الذي يُشبه الحلم. ومع تعليق صوتي مقتضب، يُدخلنا المخرج لعوالم البطلة، التي نجدها، مع نهاية المشهد، غارقة في نومها، ولا يوقظها سوى دقات المنبه، الذي يخرجنا وإياها من لحظات الحلم الجميلة، التي غرقت فيها شقتها بالكامل تحت مياه بحر فيروزية اللون، ويردنا إلى أرض الواقع. وفي مشاهد سريعة ومتواترة، محسوبة بدقة، ينقل لنا دل تورو، في دقائق قليلة، الروتين اليومي الذي تتسم به حياة بطلته الحالمة، “إيلايزا إيسبوزيتو”.

“إيلايزا”، الممثلة البريطانية الرائعة (سالي هوكينز) – بالتأكيد مُرشحة بقوة للأوسكار بعد هذا الدور –بوجهها الملائكي، والروح الطفولية التي نستشفها عبره، تؤكد لنا، أن تلك الفتاة، رغم قسوة وصرامة العالم من حولها، لكنها تعيش في انفصال تام عنه، فهي تعيش في عالمها الخاص، عالم من الأحلام والتخيلات. وما يُضاعف من وحدة “إيلايزا” أنها بكماء، لا تستطيع التعبير عن نفسها كلية، إلا عبر قسمات وجهها ولغة الإشارة. ويبدو من سياق الأحداث، أنها قاست قليلا أثناء طفولتها، وأن حياتها الحالية هي نتاج لتلك الطفولة البائسة. ما من أحد في حياة “إيلايزا” سوى جارها الرسام العجوز المغمور “جايلز” (ريتشارد جنكينز)، وهو صاحب التعليق الصوتي على الفيلم، وصديقتها المرحة المقربة لقلبها، “زيلدا” (أوكتافيا سبنسر)، وهما معًا من تتعامل معهما “إيلايزا” طوال الفيلم وتمحضهما ثقتها الخالصة.

لقطة مقربة لشكل الماء

بعد البداية التمهيدية الضرورية لتقديم الشخصيات، لا يتركنا دل تورو نغرق في الكثير من التفاصيل البعيدة عن قصة الفيلم، فسرعان ما يغوص بنا في موضوعه المُغرق في الغرابة والفانتازيا. فذات يوم روتيني عادي في حياة “إيلايزا”، التي تعمل كعاملة نظافة في أحد مختبرات الفضاء السرية التابعة للحكومة الأمريكية، أثناء فترة الحرب الباردة في أوائل ستينيات القرن الماضي، تستدعى وصديقتها “زيلدا”، لتنظيف بعض ما تراكم من فوضى داخل إحدى حجرات المختبر البالغة السرية. وهناك، تُصعق “إيلايزا”، في بداية الأمر، لرؤيتها ذلك المخلوق أو الشكل شبه البشري شبه السَمَكي، الذي يعيش في الماء، ويمكنه التنفس خارجه لبعض الوقت.

ذلك الكائن الغريب، الذي يتسم بالكثير من العنف والقسوة والحدة ويجرح ويصيب من حوله، يتحول تدريجيًا على يدي “إيلايزا”، إلى مخلوق جد مسالم، يتعلم منها شيئًا فشيئًا بعض الكلمات، عن طريق لغة الإشارة. وسرعان ما تُنمي لديه حس الاستماع إلى الموسيقى، وهو بكل أريحية وهدوء وحب يستجيب لها. وتنشأ بينهما علاقة تقرب وصداقة، ويأنس أحدهما للآخر. لكن ذلك الشكل أو الكائن الخرافي، يتعرض من ناحية لبعض التجارب العلمية من أجل فحصه وتبيان قدراته من جانب أحد الأطباء، دكتور “هوفستلر” (مايكل ستالبارج)، الذي يتضح لاحقًا أنه يعمل لصالح المعسكر الروسي، لكنه يبذل قصارى جهده للحفاظ على حياة هذا الكائن. ومن ناحية أخرى، يتعرض لفتك وتعذيب انتقامي على يد مسئول الأمن السادي بالمختبر، “ستريكلاند” (مايكل شانون)، في أحد أقوى أدواره، الذي لا يهمه بقاء ذلك الكائن من عدمه، بل ويرغب في الإجهاز عليه بغية تشريحه، والاستفادة من معرفة كيفية عمل جهازه التنفسي المزدوج، من أجل الاستعانة بها وتحقيق السبق، في سباق غزو الفضاء.

بطبيعة الحال، يصعب القول إن دل تورو قد أتى في فيلمه، سواء على مستوى القصة أو تطورها، بأي جديد أو بقدر من التجريب، الذي يمكننا معه القول إنه قد أحدث قطيعة أو نقلة نوعية مع ما سبقه من أفلام، منذ فجر السينما، تناولت العلاقة بين البشر وغيرهم من المخلوقات أو الكائنات الخرافية أو غرام أحدهما بالآخر أو امتداد الأمر لعلاقة غرامية أو جنسية أو أو إلى آخره. وبالطبع، دل تورو، أدرك هذا جيدًا، وأدرك أيضًا أنه أمام مأزق يصعب الخروج منه إلا بتقديم ما هو فارق، يُبعد عن الأذهان شبهة أية مقارنة تحيل إلى ما سبق من أفلام راسخة تنتمي إلى تلك النوعية. ولذا، وذلك من بين أوجه التميز العديدة بالفيلم، لجأ دل تورو إلى خلطة سحرية خاصة جدًا، مزج في بعضها العديد من المشاهد السينمائية القديمة أو بالتابلوهات أو اللوحات الاستعراضية الغنائية وكذلك الرقص الإيقاعي أو النقر الإيقاعي بالأقدام. كل تلك المفردات، وغيرها، جعلت المُشاهد لا يمل ولو لدقيقة من أحداث الفيلم أو يشعر بأي تكرار.

من المشهد الافتتاحي للفيلم.

من ناحية، كان اختيار دل تورو في غاية التوفيق فيما يتعلق بالممثلين، وحتى من قاموا بأدوار ثانوية. إلى جانب بالطبع، قوة السيناريو المكتوب ببراعة وساعدته فيه “فانيسا تيلور”، مع قدر من الفانتازيا المخلوطة بواقعية محضة دون أدنى تنافر، وفوق ذلك، العديد من الجُمل الحوارية التي خلقت الكثير من الطرافة والضحك والعمق أيضًا. من ناحية أخرى، وكما ذكرنا في المقدمة، كان مونتاج الفيلم على قدر كبير من الدقة البالغة والتوليف البارع للقطات وطولها، فليس ثمة مشهد بالفيلم في غير محله أو بحاجة لحذف أو تقصير، علاوة على ذلك كله، جاءت موسيقى العبقري “ألكسندر ديسبلات” لتنقلنا إلى عالم حلمي آخر، لا يقل حلمية وفانتازية عما نراه أمامنا على الشاشة. بالإضافة بالطبع، إلى ديكور الفيلم الذي اتسم بالبساطة الشديدة والإيحاء بأجواء الستينيات، وتركيزه على أماكن بعينها دون الحياد عنها كثيرًا. ويتوازى مع ذلك كله وربما يسبقه، انتقاء باليته ألوان رائعة للفيلم، جعلته ينبض بتدرجات ألوان المياه المختلفة، ما خلق صورة بصرية في الكثير من مشاهده يصعب على الذاكرة نسيانها. مثل، المشهد الافتتاحي كما ذكرنا أو مشهد سباحتهما معًا، “إيلايزا” والمخلوق، في حمام المنزل بعد غمره كلية بالمياه.

إن فيلم “شكل الماء”، ليس من الأفلام التي تبحث في النهاية عن قول شيء ما له مضمون قوي أو فلسفي عميق كامن تحت السطح، يحتاج إلى الكثير من الجهد والتمرس لقراءته واستيعابه. فهو يتسم ببساطة شديدة، وعدم افتعال في أي من جوانبه، إذ إن هدفه الأساسي في النهاية هو الإمتاع وتقديم متعة بصرية وموسيقية، وقصة خيالية ساحرة، مليئة بالحب والإثارة والتشويق، وكل ما يجلب المتعة والبهجة للمشاهد العادي أو المتخصص، وهذا ما نجح فيه دل تورو بامتياز، دون شك. بالتأكيد يمكننا الخروج من الفيلم ببعض المعاني البسيطة، المتعلقة بالحب والعطاء وإنكار الذات والثقة، وعدم التكبر أو التعصب والعنصرية، واكتشاف المرء للمغاير وللحب ولذاته أيضًا، إلى جانب التعامل الإنساني مع ما هو غير إنساني. ناهيك عن احتياج المرء للحب، وهنا ما تفتقده “إيلايزا”، وإلى أي شخص أو كائن ما يحبه ويتواصل معه ويبادله الكثير من التفاهم. وذلك ما تنطق به “إيلايزا” إلى صديقها الرسام عندما يسألها عن سبب ولعها بذلك المخلوق ورغبتها في إنقاذه وتهريبه، فتخبره ببساطة إنه الإنسان الوحيد الذي استوعبها وفهمها وأحبها، بل وأنصت إليها، دون أدنى مقابل.