صالون حلاقة.. المدينة حين تُدمغ بـ”الإرهاب”

قيس قاسم

 

 

 

“صالون الحلاقة” و”مولينبيك في الزاوية”؛ فيلمان وثائقيان أحداثهما تجري في صالون حلاقة، منه يحاول صُناعهما إدخالنا إلى عوالم وحيوات تعيش لحظة تأزم واحتدام بسبب عوامل خارجية تؤثر فيها وفي الفضاء الذي يحتضنها، ولهذا سيتحول المكان نفسه وبسببها إلى بطل.

المخرج العراقي المقيم في بلجيكا “سهيم عمر حليفة” يقترح في فيلمه “مولنبيك في الزاوية” رصد الحياة اليومية في منطقة بلجيكية تقطنها أغلبية مغربية بين فترتين؛ قبل تفجيرات باريس الدموية وبعدها، وكيف ألصق الإعلام الغربي صفة “الإرهاب” بها وبناسها عنوة.

فيما يذهب الثاني القصير “صالون الحلاقة” للمخرجين “غوستافو ألمينارا وإميلين كانسي” لإظهار بؤس ما يعيشه المهاجرون في معكسر “كاليه” الفرنسي عبر التقاطه التناقض الحادّ بين الإحساس بالجمال المتولد من عملية “الحلاقة” وبين قبح وبشاعة المكان المقيمين فيه.

الفيلم برُّمته عبارة عن حوارات متبادلة بين زوار الصالون.

مولينبيك في الزاوية.. الأخطر في العالم!

سهيم عمر خليفة صاحب الروائي الطويل “زاغاروس 2017” والقصير “ميسي بغداد 2013″ و”نان 2008” يعود إلى بلجيكا ليصور المكان الذي تحول فجأة إلى “الأخطر في العالم”، بعد أن ظل عادياً لأكثر من نصف قرن عاش فيه المغاربة مع بقية القوميات والديانات في تجانس يظهره “صالون حلاقة سعيدي” الذي يدخله كل يوم بشر من جنسيات مختلفة يتسامرون داخله ويتباحثون في شؤون حياتهم، في الوقت الذي تتجه فيه أنظارهم إلى المرآة لرؤية ما الذي صنعه حلاق منطقتهم برؤوسهم.

 مكان تشي تسجيلات كاميرا “سهيم” المتأنية في التقاط تفاصيله وروحه بعادية الحياة والعلاقات الإنسانية فيه، يعكسها الودّ المتبادل بين ساكنيه ويؤكد ثباتها قبل أن تنقلب أحواله فجأة.

جاء الانقلاب عندما أعلنت السلطات الفرنسية معطيات تؤكد أن مخطِط عملية باريس الإرهابية المنفذة قبل عامين تقريبا استأجر سيارة من منطقة مولينبيك، انتقل بها إلى فرنسا لينفذ عمليته الدموية التي راح ضحيتها عشرات المدنيين الأبرياء، فقد شكل هذا الإعلان تحولا دراماتيكيا في حياة المنطقة وناسها، وأحيا ذكريات قديمة كما أثار جدلا محتدما طال مسائل وجودية وموضوعات آنية إشكالية مثل الإرهاب والاندماج والإعلام والمستقبل الذي تنتظره أجيال جديدة من المهاجرين وجدت نفسها في مأزق شديد الصعوبة.

"مولنبيك في الزاوية" يرصد الحياة اليومية في منطقة بلجيكية تقطنها أغلبية مغربية بين فترتين؛ قبل تفجيرات باريس الدموية وبعدها.

 جامع المتقين وصالون مولينبيك

من مزايا المكان وقوع “جامع المتقين” فيه قبالة صالون الحلاقة مباشرة، مما سهّل على الوثائقي نقل المشهد العام الشديد الصلة بثيمته المُشيّدة دراميا على فكرة تحذر من خطورة تعميم ربط “الإرهاب” بالإسلام و”دمغ” المسلمين كلهم بفعل مرفوض يرتكبه عدد صغير منهم.

دهشة زوار الصالون بعد إعلان الشرطة عن وجود صلة بين منطقتهم والعملية الإرهابية وكثافة تكرار وسائل الإعلام لاسم مولينبيك -التي غطت شهرتها السيئة على كل ما غيرها من مدن وأفعال خلال أيام قليلة- منبعها حيرة صادقة واندهاشا من فعل لم يستسيغوا وقوعه لا في حيّهم ولا في أي مكان آخر من البلاد.

ضخّ الأخبار وكثافة التركيز على المنطقة وتفتيش رجال الشرطة لبيوتها أثار ردود فعل سكانها وقاد إلى استرجاع موضوعات لم تظهر كلها دفعة واحدة في عمل سينمائي كما ظهرت في “مولينبيك في الزاوية” والتي جعلت منه نصاً يُعوّض مضمونُه عن مئات الصفحات وعشرات الأفلام الروائية، لسِعة المساحة الممنوحة لأبطاله في التعبير عن أفكارهم وحتى تناقضاتهم. فالأحاديث ليست كلها تُحيل السبب فيما آلت إليه أحوال المنطقة وسكانها إلى الطرف البلجيكي فيها، بل إلى بعض العوامل الذاتية والممارسات الخاطئة جاء على ذكرها في سياق سلس غير متعمد التضحيم والتهويل كما تفعل وسائل الإعلام.

كانت النقاشات تجري وسط التقاط الكاميرات للحركة الخارجية المحيطة بالصالون وبخاصة حركة الداخلين والخارجين من الجامع، وبقية المحال والشوارع القريبة منه. لم تبتعد الكاميرا عن محيط صالون الحلاقة كأنها بذلك تريد المكوث في النقطة الجامعة التي يمكن تلمّس الكثير من الأشياء عبرها.

ما يلفت الانتباه في عمل “سهيم” استباقه تسجيل مشاهد كثيرة من حياة الصالون قبل هجوم باريس، وحين عاد وأضاف إليها تلك المتعلقة بردود الفعل على الحدث تشكلت صورة جديدة متكاملة عن مكان وقع بين حدثين وبين منعطفين، صار بمحض الصدفة يشبه إلى حد كبير أماكن أخرى من العالم شهدت حوادث إرهابية كبيرة، وبالتالي صار المشهد المصغر للصالون أكبر في أبعاده، لدرجة يمكن معها تعميم ملامحه العامة حين يتعلق الأمر بمناقشة موضوعات آنية شديدة الإشكالية كالإرهاب. فهذا لم يأت من أغلبية سكان الحي العمالي الهادئ المتاخم للعاصمة البلجيكية والذي بفضل العمال المغاربة والأجانب تم تشييد الكثير من معالم المدينة وعمرانها.

ذكريات الوافدين القدامى عن سنواتهم الأولى التي جاؤوا خلالها إلى البلاد، تعيدهم إلى زمن الشباب والحيوية، لكنها لا تنسيهم الل��ظة الراهنة، وفيها تبدو البلاد وكأنها نسيت كل ما قدموه لها من عَرق وشقاء في خضم النقاشات.

ذكريات الوافدين القدامى عن سنواتهم الأولى التي جاؤوا خلالها إلى البلاد، تعيدهم إلى زمن الشباب والحيوية.

مهاجرون مسلمون وإشكالية الاندماج

الفيلم برُّمته عبارة عن حوارات متبادلة بين زوار الصالون، ويبرز موضوع الاندماج وضعف الطرف الأقوى فيه من الاقتراب من الطرف القادم من بعيد بحثا عن عيش آمن.

لم يأت المغاربة ولا المسلمون لمحاربة وقتل مضيفيهم، بل أرادوا تأمين حياة أفضل لهم ولعوائلهم في المكان الجديد، وكان لهم ذلك لولا أفعال مشينة لقلة منهم لم تتردد الأغلبية في التعبير عن رفضها لسلوكهم، وتنكرها لبشاعة ما يفعلونه.

في المقابل هم لا يترددون في تشخيص عيوب الحكومات والمؤسسات الاجتماعية التي ما زالت تعاملهم كأغراب لا كمواطنين حقيقيين، وقلة فرص العمل فيها مما يدفع البعض لممارسة سلوكيات خاطئة كالتلاعب والغش.

يطرح الوثائقي أسئلة الهجرة والاندماج، ويعكس قوة وعي المهاجرين بدور الإعلام في تشويه صورتهم، والغايات التي تقف وراء تضخيم الفعل الفردي وتحويله إلى فعل عام يشمل كل المسلمين في العالم.

تلعب الموسيقى في ظل غياب الحدث الدراماتيكي المباشر دورا في نقل الإحساس العام لسكان المنطقة بما يجري حولهم، فحين كانوا قبل العملية الإرهابية يتعاطون مع المكان والمحيطين به بهدوء وبنوع من الانسجام المتطامن سينتقل إيقاعها بعدها مباشرة إلى السرعة المتوترة المتناسبة مع التوتر الحاصل بعد الحدث الذي أحال حياتهم إلى قلق متصاعد ليس من السهل تجاوزه بعد أن صاروا في نظر العالم “إرهابيين” كل نقاشاتهم فيما بينهم تحاول إبعاد الصفة عنهم وأحيانا تجرّ بعضهم إلى “التطرف” حين ينبري إلى تبرير الفعل بقوة الأسباب الكامنة وراء بروزه!

لا ينحاز الوثائقي إلى رأي بعينه، بل يترك كل واحد من شخوصه يعبر بحرية عن موقفه، يسجله ثم ينتقل إلى حوارات أخرى تقود أحيانا إلى قصص فرعية مثل؛ التفكير بهجر “مولينبيك” إلى مكان آخر، أو الهجرة العكسية من البلاد التي عاشوا فيها عقودا طويلة وفيها ترعرعت أجيال منهم إلى بلدانهم الأصلية.

يلاحظ متابع الوثائقي حرص صانعه على توثيق وجود الأطفال داخل الصالون في أغلب النقاشات المثارة، يسمعونها ولا يعلقون عليها، نظراتهم إلى المرآة تحاول التستر على ما يؤثر في دواخلهم ويستقر ربما طويلاً، فحال المدينة لم يعد يرضِ أهلها، والشعور باللامعنى من البقاء فيها يدفع حتى آخرين غير مسلمين بتركها، كما في حالة صاحب المطعم اليوناني الذي بدأ يساوم أصحاب الجامع على سعره، بعد أن أبدوا رغبة في شراء بيته ومحله لتوسيع مسجدهم الأقدم في بلجيكا.

يتطرق الوثائقي بأسلوب غير مباشر للجامع وتاريخه الشديد الصلة بوجود المغاربة في المكان الأول لهم في البلاد، فعبر استعادة ذكريات بعضهم يُقدم جزءاً من تاريخه، وعبر نصب الأجهزة الأمنية لكاميرات مراقبة جديدة قربه يثير جدلاً بشأن مبادئ الديمقراطية واحترام الخصوصية.. كل خطوة أو فعل يلتقطه الوثائقي يذهب إلى مناقشته عبر غيره من زبائن الصالون.

لاعبو أدوار البطولة إلى جانب البطل الحقيقي “الصالون” نفسه ومن خلاله؛ تمكن وثائقي شديد الأهمية من تجسيد موضوعات إشكالية عبر مساحة مكانية صغيرة، وبمهارة السينمائي تحوّلت إلى ما يشبه بلادا كبيرة أو ربما عالما مصغرا بأسره. فيلم “صالون الحلاقة” القصير لا يخلو من ذلك التوصيف ولا تنقصه محاولة عرض المشهد العام عبر عينة صغيرة، المكان فيها هو البطل الأبرز.

فيلم "صالون الحلاقة" خلال ١٦ دقيقة يكثف حال مجموعة من المهاجرين الواصلين -بعد رحلة محفوفة بالمخاطر- إلى فرنسا.

صالون الحلاقة.. في معسكر كاليه

خلال ١٦ دقيقة يكثف فيلم “صالون الحلاقة” حال مجموعة من المهاجرين الواصلين -بعد رحلة محفوفة بالمخاطر- إلى فرنسا، استقروا في معسكر “كاليه” أو “الغابة” كما سمته الصحافة وذلك لسوء أوضاعه وقلة الخدمات المقدمة للمقيمين فيه.

لا يهتم مخرجاه بتاريخ تصوير مشاهد المعسكر التي تعود إلى حوالي عامين من الآن، لأن موضوعهم لم يُستهلك بعد ولم يفقد معناه، فتجارب من عاش فيه ما زالت قوية، والمشهد الأخير من الفيلم يكشف بعضا من جوانبها الدراماتيكية.

المشاهد الأولى الخاصة بثلاثة رجال جاؤوا من ثلاثة بلدان مختلفة، تحكي فصلاً من فصول حكاية الهجرة الواسعة الأخيرة، نراهم جالسين على كرسي الحلاقة وقد تركوا رؤوسهم تحت رحمة حلاقين غير محترفين، لكنهم يعرفون جيداً كيف يُظهرون جمال زبائنهم بأبسط الأدوات.

لحظة الجلوس أمام المرآة صمتا تعبير ضمني عن جلوس حميمي أمام الذات، فالإصغاء يكون لحظتها إلى الداخل لا إلى الخارج. لحظة تُتيح فرصة استرجاع الذكريات والتفكير بحال جديدة لم يفكر أي واحد منهم في عيشها يوم كان في وطنه. كلهم؛ السوداني والأثيوبي والأفغاني أحبوا عوائلهم وأرادوا البقاء معهم بقية العمر، لكن الظروف أجبرتهم على تركهم.

 

 

 الثلاثة لا يقدمون في البداية أنفسهم إلى المُشاهد، كل واحد منهم مكتف بنظرته الساهبة نحو المرآة أو بمنولوجه الداخلي الدائر حول تجربته الحزينة، صوت المقص وترقب النتائج يأخذ الدقائق الأولى من الفيلم، ثم بعدها ندخل في عمق أشد تجلٍّ تفاصيله أحوال شديدة التراجيدية، حيث دفعت كل واحد منهم إلى “كاليه” بعد قطعه دروباً مهلكة.

 الانتهاء من الحلاقة يجلي بدوره فرحة وابتهاجا بمظهر مرغوب فيه، فكل كائن يريد حصته من الجمال حتى لو كان يقيم وسط “المزابل” التي سرعان ما ستنقلها الكاميرا لنا مُقربة، حالما تأخذ بالارتفاع عن مستوى رأس المحلوق وصولاً إلى الخارج الكريه القذر المتناقض جوهره مع الجمال البشري البارز للتو. والتناقض بين الحالتين يعكسه المكان، فبدونه تبدو عملية الحلاقة عادية، لكنها في كاليه أخذت شكل فعل متحد للقبح، يبحث عما هو جميل في داخل الكائن المهاجر، الباحث بدوره عن حياة أفضل، جديرة بأن تعاش في مكان آخر غير كاليه؛ هذا الاسم المُذكِّر بأحوال بشر ترتجي في أصعب الظروف جمالا هو من صُلب تكوينها الإنساني السوي!