“صانعة الملوك”.. عودة العائلة المستبدة للمنافسة على العرش

قيس قاسم

تعود “إيميلدا ماركوس” التي كانت يوما ما سيدة الفلبين الأولى من منفاها، رغم كل ما فعلته وزوجها الراحل بالبلد الذي نهبا ثروته وجوعا شعبه وأخضعاه لحكم ديكتاتوري، لتستعيد من جديد سلطتها المفقودة عبر توصيل ابنها إلى كرسي الحكم ثانية غير عابئة بتاريخ أسرتها المخجل.

حاولت المخرجة الأمريكية “لورين غرينفيلد” استعادة هذا التاريخ من خلال ملازمة “إيميلدا” منذ وصولها للبلد عام 2014، وعلى ضوء ما ستعرفه من خفايا وخطط مبيتة لاستعادة حكم عائلتها؛ أطلقت عليها اسم “صانعة الملوك”، استعارة لتوصيف كان يلصق بشخصيات تاريخية لعبت دورا كبيرا في صناعة ملوك بلدانها من خلف الستار.

لكن الفرق بينهم وبين “صانعة الملوك” الفلبينية أنها تريد صناعة ملكها الخاص وملك ابنها في العلن، انطلاقا من قناعة لديها بأن المال والأكاذيب السياسية والتحالف مع الدكتاتوريين في الخفاء هي عوامل فعالة تستطيع صناعة رأي عام وخلق مزاج شعبي جديد يسمح بأخذها السلطة ثانية لنهب كل ثروات البلد كما كانت تفعل سابقا.

 

سيدة الفلبين الأولى.. بحر من الأكاذيب المغلفة بالتمويه

القرب من السيدة الأولى السابقة ومراجعة تاريخها الشخصي والسياسي بدءا من الفترة التي دخلت فيها قصر “ملاكانانغ” الرئاسي عام 1965 بوصفها زوجة للرئيس الفلبيني “فرديناند ماركوس” حتى لحظة هروبها مع العائلة الحاكمة عام 1986؛ كل ذلك مكن المخرجة الأمريكية من كشف أكاذيبها وصلافتها في تحوير الحقائق التاريخية من دون أن يظهر على وجهها أي تعبير يكشف حقيقتها.

انطلاقا من تلك القدرة العجيبة على التمويه والتخفي لجأت المخرجة إلى أسلوب بارع في كشفها عبر التعمد في نقل كلامها في الزمن الآني كما هو، ومن بعد تعود بالمتفرج  إلى الوراء عبر تسجيلات مصورة وشهادات شخصيات حية كانت قريبة منها، لتكشف له بعد كل ما تقوله عن الحقيقة.

صانعة الملوك “إيميلدا ماركوس” في الثمانينات من عمرها، حيث تبدو بمظهرها الباذخ كدمية منتفخة أكثر منها كائنا بشريا

 

“صانعة الملوك”.. طموح السلطة رغم السجل الأسود

يولد التناقض الصارخ بين الكلام والحقيقة حالة من الدهشة والاستغراب عند مستمعه ويسمح في الوقت نفسه بالسخرية المُرَّة من شخصية سياسية تجاوز عمرها الثمانين، ولكنها ما زالت تتمسك بحلم استعادة السلطة والثروة بثبات.

هذا ما تنقله لنا اللقطات الأولى من الوثائقي المدهش “صانعة الملوك” حين تظهر “إيميلدا” بمظهرها الباذخ الذي تبدو فيه كدمية منتفخة أكثر منها كائنا بشريا، وهي جالسة في المقعد الخلفي لسيارتها الفارهة تتحدث بألم عما يحل بالعاصمة “مانيلا” اليوم ، وكيف كانت في عهد زوجها جنة.

تتوقف السيارة في تلك الأثناء لتقوم بتوزيع المال بسخاء على أطفال فقراء تجمعوا حولها، لتعيدنا المخرجة مباشرة بعد هذه اللقطة إلى زمن “الجنة” عبر صور مأخوذة من الفترة التي حكم فيها زوجها البلاد، وكيف كان عامة الناس يعيشون في فقر وبؤس بالمقارنة مع حياة البذخ الأسطوري التي كانت تعيشها هي وعائلتها في القصر الرئاسي.

 

هروب العائلة.. جرائم السيدة الأولى التي طالت كل شيء

لا تكتمل صورة السيدة الأولى من دون زوجها رئيس البلاد الذي حكمها بالنار والحديد، وصفى خلال حكمه أغلب القوى الديمقراطية، وكبل حرية الصحافة، وكرس قانون الطوارئ والأحكام العرفية لسنوات رسخ خلالها ديكتاتورية بشعة أجبرت الغرب -الذي طالما دعمه خلال فترة حكمه- على التخلي عنه.

يقابل الوثائقي معارضين وسياسيين عانوا من ظلم حكمه، ويسلط الضوء على عملية اغتيال المعارض الديمقراطي “نينوي أكينو” العائد من الخارج لمواجهة “ماركوس”، وتهمة قتله تنسب إلى سيدة القصر مع أنها تنفي ذلك بقوة.

يرجع الوثائقي إلى فترة تردي صحة الرئيس وتوليها هي بنفسها كل مسؤولياته، فقد اعتمدت مثل زوجها على الجيش في تثبيت السلطة، وتشير التسجيلات والشهادات إلى تورطها في عملية الاغتيال التي كان من نتائجها ازدياد الغضب الشعبي ضد العائلة الحاكمة وإجبارها عام 1986 على الهروب إلى هاواي، بينما تولت أرملة الزعيم المعارض المُغتال “كورازون أكينو” بعدها إدارة شؤون الحكم.

“بونغ بونغ” هو الابن الأكبر لسيدة الفلبين الأولى، والذي ترتبت من خلاله عودة العائلة إلى الحكم

 

ملايين العائلة.. قارب عودة الشبل “بونغ بونغ” إلى القصر

رغم كل ذلك التاريخ المخزي لم تجد “إيميلدا” حرجا في العودة إلى البلد وعينها على السلطة التي أُجبرت هي زوجها على التخلي عنها، فقد رتبت عودة العائلة للحكم من خلال الابن الأكبر “بونغ بونغ” الذي ضمنت له الوصول قبلها إلى البرلمان المحلي في جنوب البلاد أولا، ثم قررت ترشيحه لمنصب رئيس الوزراء على أمل الوصول لاحقا للرئاسة.

لقد كانت تستخدم مخزونها من المال لتمهيد الطريق له، ولا أحد يعلم أين كانت تخبئ كل تلك الأموال، لكن اللجنة التي شكلت بعد هروب العائلة وكلفت بالبحث عن الثروات العامة المنهوبة كشفت عن وجود ثروات كبيرة عندها تقدر بالمليارات وزعت على أكثر من 70  بنكا دوليا، وبقسم منها ابتيعت لوحات لكبار الرسامين ومجوهرات نفيسة إلى جانب امتلاكها عقارات في عواصم عالمية.

“إيميلدا ماركوس” سيدة الفلبين الأولى تتحدث أمام الكاميرا عن ضعف الحال وظلم لجان التفتيش عن الثروات المنهوبة

 

شراء الذمم في الجنوب.. خطة الزحف إلى العاصمة

تشتكي “إيميلدا” -في حديثها أمام الكاميرا- من ضعف الحال ومن ظلم لجان التفتيش عن الثروات المنهوبة، لكن سلوكها بعد عودتها يُكذب ذلك، فطيلة وجودها في شقتها الفخمة كانت مساعدتها تلازمها وحقائب المال بيدها.

كانت تُوزع المال على الناس وتشتري ذمم الناخبين، فحقائبها مليئة على الدوام بالمال الذي تنثره أينما حلت، وهذا ساعد كثيرا على كسب أصوات الناخبين وساعد في وصولها هي أيضا إلى البرلمان المحلي في منطقتها بجنوب البلاد، فقد كان من بين تفاصيل خطتها الانطلاق من تلك المناطق زحفا إلى العاصمة.

الحملة الانتخابية لابن صانعة الملوك في انتخابات عام 2016 الرئاسية

 

حملة الوريث الانتخابية..  محاولة تنظيف أدران الماضي

يعطي الوثائقي مساحة جيدة من زمنه لملاحقة الحملة الانتخابية للابن في انتخابات 2016 الرئاسية ودور والدته في ترتيبها، فقد كانت حريصة في كل اجتماع جماهيري على الحضور بنفسها، وتقدم دوما باسم السيدة الأولى المنحدرة من سلالة عائلة حاكمة خدمت البلاد.

تستغل الأم بدهاء طيبة أهل البلد وثقافة التسامح المترسخة عندهم من أجل محو الصورة السيئة التي انطبعت في أذهانهم عن الفترة التي حكم فيها “ماركوس” الفلبين وجعلها نموذجا للدولة القمعية، واليوم تحاول “صانعة الملوك” تقديمها بشكل مغاير عبر تسليطها الضوء على جوانب إيجابية قليلة فيها.

أما أرقام القتلى والمساجين فلا تأتي على ذكرها، فخلال فترة قانون الطوارئ التي دامت أكثر من ثماني سنوات زج بأكثر من 70 ألف إنسان في السجون وتعرض قرابة ثلاثين ألفا منهم للتعذيب، ومات من بينهم آلاف.

توثيق لحال شعب الفلبين الذي يُعاني أغلبيه سكانه أوضاعا اقتصادية صعبة وفقرا مستمرا في كافة العهود

 

شعب الفلبين.. بين مطرقة الفقر وسندان الجريمة

يذهب الوثائقي لتوثيق حال البلد اليوم، ويقر ما تحصل عليه كاميرته من وقائع بعجز المعارضة خلال حكمها عن معالجة الفقر، فما زالت أغلبية السكان تعيش -وبشكل خاص في القرى- أوضاعا اقتصادية سيئة، والبنية التحتية للبلد مهترئة إلى جانب انتشار الجريمة والمخدرات.

يستغل الطامحون في العودة للحكم تلك الأوضاع، ويستغل المرشحون للرئاسة حاجة الناس لرجل قوي يوفر الأمان لهم، وهذا ما يفسر حصول الديكتاتور “رودريغو دوتيرتي” على أعلى الأصوات في الانتخابات الرئاسية.

أما خسارة الابن “بونع بونغ” في الوصول إلى منصب رئيس الوزراء أمام  مرشحة المعارضة “ليني روبريدو” فيمثل فشلا لخطة والدته التي أرادت من خلال دعم الحملة الانتخابية للرئيس ضمان حصول ولدها على منصب رئيس الوزراء.

سيدة الفلبين الأولى تُلقي نظرة الوداع على زوجها “ماركوس” الذي طلبت من الرئيس الجديد دفنه في “مقبرة الأبطال”

 

عودة الأموال المنهوبة للفلبين.. دكتاتوري جديد في الحكم

يفضح الوثائقي الخيط الرابط بين الأموال المنهوبة التي عادت بطرق سرية إلى الفلبين، وبين وصول “دوتيرتي” لدفة الحكم، فقد مكنت الأموال الكثيرة الديكتاتور الجديد من الدخول إلى قصر “مالاكانانغ”، لكنها لم تحقق عودة العائلة بالشكل الذي خططت له.

ولهذا عادت “صانعة الملوك” للعمل من المناطق الجنوبية التي انطلقت منها لمحو الصورة القديمة عنها تماما، وذلك عبر دفع الرئيس الجديد لإصدار قرار يسمح بدفن زوجها “ماركوس” في “مقبرة الأبطال”، إلى جانب العمل على طرد رئيس لجنة تقصي مصير الأموال المنهوبة.

لا تتردد “السيدة الأولى” -رغم فشل ابنها- في الإعلان عن قناعتها بأنها قادرة على نيل كل ما تريده، وما وصول ابنها إلى مجلس النواب رغم فشله في الانتخابات الرئاسية سوى خطوة أولى نحو عودة عائلة “ماركوس” إلى الحكم ثانية، لكن متى؟ هذا أمر متروك للزمن ولقوة المال وقدرته على صناعة الملوك.