“صرخات من سوريا”.. فيلم يقطر بالدماء والأوجاع والفظائع في سنوات المأساة

 

 

استطاع المخرج المعروف “يوجيني أفرينيفسكي” أن يحقق مكانة سينمائية مرموقة، فهو صاحب الوثائقي المرشح عام 2015 لنيل الأوسكار “شتاء مشتعل.. نضال أوكرانيا من أجل الحرية” (Winter on Fire: Ukraine’s Fight for Freedom).

وقد اشتغل على خامات فيلمية بلغ طولها مئات الساعات، وعرضت فيلمه قنوات مرموقة مثل “أتش بي أو” (HBO) الأمريكية، وشارك في مهرجانات سينمائية عالمية، إلى جانب إشراكه عددا من طلائع نشطاء الحراك الشعبي السوري فيه.

لكن هل تمنع كل تلك المعطيات من طرح أسئلة أخرى موازية لها حول أسلوب بناء فيلمه الجديد التشيكي الإنتاج “صرخات من سوريا” (Cries From Syria)، وارتكان معماره السردي على مشاهد كثيرة كان قد عُرض كثير منها في أفلام أخرى وفي سياقات سردية مختلفة؟

الأرجح لن يكون الجواب بالنفي لأن لكل مخرج الحق في استخدام أي خامة فيلمية، مهما كان مصدرها، ولا يهم حتى لو كانت قد عُرضت في أفلام أخرى، بل المهم هو المحصلة النهائية، ودرجة مصداقية المنجز ومقدار توفره على الشروط الفنية، ثم إن الأهم توظيفها لخدمة العمل السينمائي، ومساعدته في توصيل رؤية صاحبه للموضوع المشتغل عليه.

 

المخرج الروسي الأصل “يفغيني أفرينيفسكي” أخذ كل ما من شأنه نقل الحقيقة وما يجري على الأرض دون اعتبارات للجوانب النظرية

إعادة تكوين الخامات.. زوايا مختلفة تسرد لأول مرة

من مشاهدة وثائقي يقارب زمنه الساعتين، أغلب مشاهده حيّة صورها سوريون بكاميرات رقمية شخصية، تُستشف بوضوح رغبة صاحبه في تقديم نظرة بانورامية عن المأساة السورية، على غرار ما صنعه في أوكرانيا، لأن تناول تفاصيل صغيرة منها أو قصص متناثرة عنها لن تشفي غليله، ولا تحقق رغبته في عرض موقفه من صراع دموي ما زال يشغل العالم.

لذا فإن رصده من زوايا ضيقة غير ملائم في هذه الحالة، ولا بأس لتحقيقها من استثمار ما يتوفر من خامات، وهي كثيرة تستحق الدراسة (لوفرتها ودورها في نقل تفاصيل الأحداث في سوريا)، والعمل على إعادة صياغتها ضمن سياق فيلمي مختلف، بحيث تبدو كأنها تُسرد لأول مرة، مثلها مثل الكلمات في النص الأدبي.

فالمفردات هي نفسها، لكن الصورة المُشَكلة بها والتعابير المحمولة بواسطتها تتغيَّر، وهذا تقريبا ما جرى في فيلم “صرخات من سوريا”.

فظائع الحرب.. مشاهد تنقل الواقع المرعب إلى الشاشات

رغم أن خامات الفيلم الأصلية صُورت على يد غير المخرج، فإنه لجأ إلى أسلوب حاذق، قلب فيه المعادلة السائدة بين الوثيقة وبين المتحدث عنها، حين أعطى للمقابلات/ الشهود قوة الفعل الدرامي، من خلال اختياره نشطاء وشخصيات شاركت بالفعل في الحراك الشعبي منذ انطلاقه، ورافقت لسنوات انتقالاته من مرحلته السلمية إلى المسلحة، وصولا إلى الهجرة الجماعية.

وبذلك خلق تداخلا نسيجيا بين الشخصية المُصورة بكاميرته، وبين تجربتها، وعليه لم تعد التسجيلات الخام مُلك أصحابها (مجازا)، بل صارت مُلك المتحدث عنها. بتلك الحيلة السينمائية أبعد عنه تهمة الارتكان على جهد جاهز لغيره، وبها أيضا أعطى لنصه خصوصية نابعة من خصوصية تجربة المشاركين فيه، وما صوروه بأنفسهم، أو ما كان يعرض على خلفية أحاديثهم.

ومن هنا جاءت أيضا ديناميكيته وأسباب تثبيته لأشد المشاهد قسوة أمام أنظار مشاهديه، لدرجة أن لم يعد التحذير المكتوب -الذي كان يسبق عرضها- كافيا لتجنبها ولا الهروب من حقيقتها، وبالتالي سيُثار ثانية السؤال الذي طالما شغل بال المشتغلين في حقل الوثائقي والصورة، حول جدوى نقل فظاعات الأحداث الدموية -وخاصة الحروب- كما هي للمشاهد، وما إذا كانت ستفيد العمل نفسه أم تعمل العكس، فتبطل التفاعل والتعاطف المطلوبين مع الضحايا، وهما يتحققان غالبا بقدر ضئيل منها؟

نقل الفيلم الحرب في سوريا بلا رتوش

لم يحسم لحد الآن الجدل حول تلك الأسئلة، لكن يبدو أن المخرج الروسي الأصل “يوجيني أفرينيفسكي” قد حسم أمره، وقرر أخذ كل ما من شأنه نقل الحقيقة وما يجري على الأرض، من دون اعتبار للجوانب النظرية.

موضوعية الفيلم.. انحياز تفرضه وقائع الجُناة الشنيعة

الوصول إلى نهاية فيلمه يصب في صالح خياره الواعي، ويطرح أسئلة حول انحيازه لطرف دون آخر، حين يلح بالتركيز على ضحايا النظام والاستماع إلى وجهات نظرهم، بينما يكتفي بمنح الطرف الثاني مساحة بسيطة من المشهد العام للحرب الأهلية الطاحنة.

في فيلمه عن أحداث “ميدان” الأوكرانية سُجل عليه ذلك المأخذ أيضا، لكن معاينة نصه بدقة ستشير إلى موضوعية منحازة فرضتها الوقائع لا الإرادات الشخصية. فكل ما جرى من شناعات كانت بسبب مواقف السلطات في أوكرانيا وسوريا، وهي التي أوصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، وقراءة في فصول فيلم “صرخات من سوريا” الأربعة تعزز ذلك الاستنتاج بقوة.

شرارة الثورة.. أطفال يحملون شعارات التغيير

في كل فصل منه كتب الفيلم مرحلة من مراحل تاريخ الصراع في سوريا، أولها كان عن بداية الحراك، فوفق الشهود والمشاركين فيه (مدعومة بالتسجيلات المصورة) فإن الحراك كان سلميا، انطلقت شعلته من مدرسة ابتدائية في مدينة درعا، حين كتب طلاب صغار السن منها على جدرانها شعارات تتوعد الرئيس بشار الأسد بمصير مماثل لمصير زعيمي تونس ومصر.

شهادة مشارك في تلك الأحداث توثق ذلك بالصوت والصورة، لكنه تعرض لتعذيب بشع مع أصدقائه، وبعضهم مات بسببه، مما أثار غضب أهاليهم، فخرجوا في مظاهرات احتجاجية، ثم توسعت بعد انضمام آخرين متعاطفين معهم فيها، لكن همجية مجابهتها الأمنية وسعَت نطاقها، فانتقلت إلى مدن سورية أخرى.

الصغار، كما الكبار، دفعوا ثمنا باهظا للحرب في سوريا

شهود الفيلم.. أبطال الواقع يعيدون سرد الحكاية

استعراض المشهد السياسي العام قبل التظاهر تولته الناشطة السورية خلود حلمي، وقد أوجزت مراحل الحكم في سوريا منذ الاستقلال حتى وصول بشار الأسد إلى سُدته، لهذا ستأخذ مساحة جيدة من الوثائقي لأنها عاشت التجربة، وخسرت أفرادا من عائلتها.

وعلى درجة قريبة منها سيلعب الناشط ولاعب كرة القدم ومنشد الثورة عبد الباسط ساروت نفس الدور، بفارق خوضه تجربتي العمل الاحتجاجي السلمي أول الأمر، ثم الانتساب إلى إحدى المنظمات السياسية المعارضة التي قادت في مرحلة تالية عملا مسلحا.

وأما بقية الشهود وأغلبيتهم من الأطفال، فسيمنحون بتعليقاتهم صدقية للتسجيلات التي يظهرون فيها، أو التي لها علاقة بهم، أو بالفصل الذي يتناول جانبا يخصمهم.

تحولات الصراع.. عالم حقيقي يتمزق أمام عينيك

باهتمامه برصد التحول الدراماتيكي لانتقال المعارضة السورية من السلمية إلى المواجهات المسلحة، يذهب الفيلم بعيدا في سرد تفاصيل صراع دموي امتد على طول البلاد وعرضها لسنوات، وتجلي المَشاهد بتركيبها الجديد (بالمونتاج والتعليق الشخصي) آلام ذلك الصراع بسطوع، فمشاهدة تفصيل صغير لواقعة مؤلمة ليس كأن تشاهد عالما حقيقيا يتمزق أمام عينيك.

 

“خلود حلمي” أخذت مساحة كبيرة من الوثائقي لأنها عاشت التجربة وخسرت أفراداً من عائلتها.

أكثر ما يوجع في سرد الفيلم الحكائي هو الأطفال، فبهم تتجسد المأساة السورية أكثر، هؤلاء هم الخاسرون الأكبر فيها بالمعنى الدقيق للعبارة، أطفال أنضجتهم الحرب الأهلية ولن تُعاد إليهم طفولتهم أبدا.

يتوقف الوثائقي المؤثر عند كل منعطف خطير شهدته البلاد خلال السنوات الخمس الماضية، خراب المدن، والعنف المنفلت، وشرعنة استخدام كل الوسائل الممكنة لتحطيم الخصم.

مشاهد الرعب.. أجساد ممزقة وأسلحة كيميائية ومدن مخربة

من شدة قسوة النظام وجيشه برزت حركات مسلحة، وستتغير وظائف ومهن، فمن الصحافة التقليدية ستظهر صحافة فردية معتمدة على وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، ومن خارج المستشفيات سيأتي مسعفون مدنيون يقومون بمهام لم نكن نتصور صعوبتها، لولا الكاميرات الرقمية الشخصية القادرة على نقل كل ما يقع أمام عدساتها إلى العالم بسرعة فائقة.

العويل والخراب والموت بالقنابل والأسلحة الكيميائية، والأجساد الممزقة النازفة والمطمورة تحت الركام، ملأت مشاهدها الشاشة، وأصوات الطائرات والقذائف ما فارقتها. لم نرَ من قبل مثل تلك التفاصيل مجتمعة، فما نقل عن الحرب الأهلية السورية قبل فيلم “صرخات من سوريا” إنما كان مبسترا مجزءا، فكل فيلم أخذ زاوية منه أو مقطعا.

أما هنا في هذا الفيلم فالتفاصيل تفيض وتثير في ذهن متلقيها أسئلة عن أهوال تزيدها الأحقاد المتراكمة رسوخا، كما تزيد تدخلات أطراف خارجية على خط أحداثها تعقيدا.

 

واقع أليم ومستقبل مجهول

حقبة الهجرة.. ملايين انقطعت آمالها من الوطن

كل التدخلات فاقمت الأوضاع كما يسجل الوثائقي، وبالتالي فالأمر عنده سيان، إن كان إسلاميا متشددا، أو روسيا وإيرانيا يحابي السلطة ويدعمها، فكل تلك العوامل دفعت الملايين للتفكير بالهجرة بعد يأسها من حل قريب.

في فصل الهجرة ما يؤلم، لأنها -كما يقول الوثائقي عبر ملازمته لتجارب بعض من وصل إلى بلاد بعيدة- قد قطعت كل أمل في نجاة بلد، كان الناس فيما مضى يعيشون فيه حياة عادية، ولكنه بعد كل ما جرى وما رأيناه من بشاعات وتمزقات لن يعود إلى سابق عهده، ولن تمحى الذكريات المريرة من نفوس الضحايا.

حتى كلمات التلميذ الذي خطها بيده على جدران المدرسة، وقد كبر الآن وتزوج. آماله في أن يرى أطفاله يعيشون في بلاد خالية من الموت، بدت أقرب إلى حلم منها إلى أمنيات.