صلاة قبل الفجر.. أوبرا العذاب الإنساني والجحيم الأرضي

أمير العمري

تدور أحداث الفيلم عن قصة حقيقية بطلها مدمن مخدرات ولص إنجليزي

عن قصة حقيقية بطلها مدمن مخدرات ولص إنجليزي، تدور أحداث الفيلم البريطاني المثير “صلاة قبل الفجر” (A Prayer Before Dawn) الذي يعد أحد أهم اكتشافات عام 2018 بمستواه الفني البديع، وموضوعه الذي يذكرنا بفيلم آلان باركر الشهير “قطار منتصف الليل”، وإن كان يتجاوزه في تجاوزه للأسلوب التقليدي في رواية الموضوع. إنه فيلم دراسة للشخصية أكثر منه فيلم قصة درامية.

كتب السيناريو لفيلم “صلاة قبل الفجر” جوناثان هيرشبيم ونيك سالتريس وذلك عن كتاب “صلاة قبل الفجر.. كابوس في تايلند” (2014)، والذي يروي فيه الشاب الإنجليزي “بيلي مور” ذكرياته عن الفترة التي قضاها في السجن في تايلند، وأخرجه المخرج الفرنسي “جان ستيفان سوفير” صاحب الفيلم الذي صنع شهرته “جوني الكلب المسعور” (2008).

 

مدمن ولص إنجليزي في سجن تايلندي

إننا أمام عمل بصري مدهش، أساسه شخصية مدمن المخدرات واللص الهارب من ليفربول في بريطانيا إلى تايلند، حيث ينغمس في الملاكمة مع استمراره في الاستحواذ على المخدرات ليتعاطاها أو يبيعها ويحصل على السيولة المالية التي تجعله يستمر في الحياة، كما يندمج في مباريات بدائية غير قانونية للملاكمة ينظمها الأشقياء في الشوارع الخلفية، مقابل الحصول على مبالغ ضئيلة إن تمكن بالطبع من الحصول عليها.

يتم تعقبه من جانب الشرطة والقبض عليه، ويحكم عليه بثلاث سنوات يتعين أن يقضيها في أعتى سجون بانكوك، وهناك يتعرض للاعتداءات المتكررة، ويُرغم على أن يُشاهد -دون أن يملك دفعا- اغتصابا جماعيا يجري أمام عينيه تحت التهديد لسجين شاب يتناوب عليه مجموعة من الأشقياء، فقط لمجرد استعراض قوتهم وقدرتهم على الفتك بكل من يتحدى سلطتهم.

في اليوم التالي يعثرون على الشاب ضحية الاغتصاب قتيلا بعد أن شنق نفسه. يغضب بيلي مور ويحنق ويرتفع صوته بالسباب، ويتحايل بالحصول من “فاين” على أكبر كمية من السجائر لرشوة الأشقياء حتى يتوقفوا عن إيذائه، ثم يصبح الطريق الوحيد الانتقال إلى مجموعة السجناء الذي يحظون بمعاملة خاصة أفضل كثيرا في جناح داخل السجن مخصص لمن يجيدون لعبة “مواي ثاي”، وهي الملاكمة على الطريقة التايلندية التي يستخدم فيها الملاكم قبضة يده وركبته وساقه في الركل، فيما يصبح أقرب ما يكون إلى المصارعة الحرة، لكن لها أيضا قواعدها التي تقضي بالتحرك ضد الخصم بطريقة معينة، وإن كانت لا تخلو من عنف بالغ واحتمالات إصابة بارتجاج في المخ ونزيف حاد كما يحدث لصاحبنا بيلي.

يصور الفيلم يوميات الحياة داخل السجن من وجهة نظر بيلي

جحيم أرضي.. يوميات سجين

الفيلم مصور من وجهة نظر بطله الشاب الغريب عن المكان، لذلك جاء الحوار في غالبيته باللغة التايلندية مع عبارات قليلة للغاية بالإنجليزية ومن دون ترجمة على الشريط، فالمقصود أن نستقبله كما يستقبله مور، كما أن العبارات التي تتردد لا تخرج عن صيحات وشتائم ولعنات وسخرية وسط هرج ومرج وضحكات هازئة، وكلها يمكن فهمها من تعبيرات وجوه الممثلين الثانويين في الفيلم.

يصور الفيلم يوميات الحياة داخل السجن من وجهة نظر بيلي، وكل ما يجري داخله من إساءات وتحرشات واشتباكات بين السجناء أنفسهم بشكل يقنعك تماما بواقعيته، فالمخرج اختار أسلوبا أقرب إلى أسلوب “سينما الحقيقة” من دون أن ينحرف في اتجاه أي مبالغات ميلودرامية.

ويبدو السجن بما يسوده من عنف شديد معادلا للجحيم الأرضي، والفيلم بأسره محاولة للخروج من هذا الجحيم، كما يمكن فهم هذا الجحيم أيضا على المستوى الوجودي إذا ما استدعينا مقولة سارتر الشهيرة “الآخرون هم الجحيم”.

لكن وسط هذا الجحيم التايلندي هناك أيضا شخصيات قليلة طيبة تساند بيلي. يزوره الصبي الذي رأيناه في بداية الفيلم ملاكما بائسا، يطمئن عليه ويعبر له عن سعادته بأن يراه سليما معافى، وهناك “فايم” التي تنتمي لما يسمى “الجنس المتحول”، أي أنها كانت في الأصل ذكرا ثم تحولت إلى امرأة، وتقول لبيلي إنها قتلت والدها بسبب اعتداءاته المتكررة عليها، ويسمح لها في السجن بالقيام بخدمة النزلاء، وهي تتعاطف مع بيلي وتحاول مساعدته، بل ونلمح بينهما شبح علاقة حسية لا تكتمل، فاهتمام الفيلم ليس بالقصص الفرعية التي يمكن أن تحرفه عن موضوعه الأصلي.

 

عنف وعري ووشوم.. واقعية حوض المطبخ

إن كل ما يحيط بهذا الشاب داخل السجن الرهيب يعمق من شعوره بالاغتراب عن العالم. صحيح أنه مدمن مخدرات ويتاجر فيها أيضا، وصحيح أنه يميل للعنف، لكن إدمانه يعكس نزعة لتدمير الذات، أما عنفه الشديد فهو طريقته لتفريغ شحنات غضبه، وهو غضب على نفسه وعلى العالم من حوله.

لكن هذا ليس فيلما من الأفلام التي تشرح وتفسر وتقيس نوازع الشخصية ودوافعها في ضوء علم النفس، فأسلوب الإخراج يجعل منه عملا تجريديا إلى حد كبير رغم واقعيته، فأحداثه تبدو كما لو كانت كابوسا رهيبا يعكس الحالة الذهنية المضطربة لمدمن مخدرات. إنه واقعي “واقعية حوض المطبخ” حسب تعبير روسليني، لكنه لا يخضع للقواعد المنهجية للواقعية، فبناء المشهد لا يعتمد على الانتقال من اللقطات العامة إلى المتوسطة إلى القريبة، بل يكاد يحصر وجه البطل معظم الوقت -بل ووجوه غيره من الممثلين أيضا- في لقطات قريبة وقريبة جدا.

إننا نستمع إلى لهاثه وأنفاسه المتقطعة وصوته الضعيف الواهن وسط الأصوات التي تصدر عن قطيع السجناء الذين يتحركون جميعا أنصاف عراة، ويبدو جسد بيلي الأبيض النحيل مميزا بينهم، خاصة وأن أجسادهم جميعها مغطاة برسومات الوشم الأخضر. وعندما يتحقق في النهاية نوع من الانسجام بين بيلي وزملائه في جناح الملاكمة، يتحلقون حوله ويرسمون وشما على ظهره. لقد أصبح واحدا منهم وهي أولى وسائله كي يسعى للانعتاق من الجحيم بعد أن جرب كل شيء، الرشوة والخضوع والاستكانة والعنف بل والانتحار بقطع شرايين إحدى يديه.

يمكن اعتبار الفيلم أوبرا للعنف، لالتحام الأجساد، للعذاب الأرضي المستمر داخل العنابر والزنازين. هناك أكوام من اللحم البشري تتمدد، تفترش أرضية عنابر السجن القذرة، دورات المياه مجرد علب ضيقة قذرة تغلق أبوابها ذات القضبان الحديدية الخانقة على السجين إلى أن يقضي حاجته، الحبس الانفرادي داخل زنزانة ضيقة عارية عقوبة من يُخلّ بالنظام ويعتدي على زملائه.

وتستمر عمليات المقايضة والرشوة بعُلب السجائر طول الوقت؛ رشوة زعماء السجناء والحراس، وهي التي تنجح في انتقال صاحبنا إلى جناح الملاكمين حيث يتم تدريبه على إجادة الملاكمة التايلندية “مواي ثاي”، ولكن يتعين عليه اقتسام أي مكافآت في حالة فوزه مع عتاة المجرمين الذي يتولون حمايته.

إن انغماس بيلي مور الحماسي في الملاكمة لا يترك له مجالا للتنفيس عن غضبه فحسب، بل هي وسيلته الوحيدة لاستعادة ثقته بنفسه

ملاكمة تايلندية.. البحث عن الذات

إن انغماس بيلي مور الحماسي في الملاكمة لا يترك له مجالا للتنفيس عن غضبه فحسب، بل هي وسيلته الوحيدة لاستعادة ثقته بنفسه وقدرته على التخلص من الهيروين والتسامي على النفس. وهو يخوض معركة قاسية من أجل إقناع القائمين على التدريبات بجديته وقدرته على الفوز، وهو يتغلب على خصمه في مباراة دموية يتعرض للموت خلالها، فيُنقل للمستشفى، وبعد أن يتعافى قليلا يهرب من المستشفى، وذلك في المشهد الوحيد في الفيلم الذي يدور خارج السجن.

إنها اللقطة/المشهد التي تتحرك خلالها الكاميرا تتعقبه، ثم تواجهه وتتراجع أمامه بينما يتقدم هو في طريقه، يمر على أشخاص يقفون أمام بعض المحال والمطاعم لكن لا أحد يلتفت إليه رغم شكله المميز وملابس المستشفى التي يرتديها وبقع الدم تصبغها. يواصل بيلي السير فوق قضبان القطار ثم يتوقف فجأة ويقرر العودة، لقد أدرك أنه لا يستطيع مواصلة الهرب إلى المجهول.

هذا الأسلوب في اللقطات الطويلة المتحركة بالكاميرا المهتزة -التي تعكس اهتزاز العالم أمام هذه الشخصية المهتزة بفعل الإدمان، العنيفة المليئة بالغضب- هو أسلوب يسود الفيلم خاصة في المشاهد العامة الاستعراضية داخل السجن، بل يمكن القول إن الفيلم كله يبدو وكأنه مصور في لقطة واحدة ممتدة، ويرجع هذا دون أدنى شك إلى قدرة المخرج ومصوره الفرنسي الكبير ديفيد أونغارو على التخطيط الجيد لكل مشهد، وضبط جميع عناصر “الميز أون سين” والحركة وتوزيع كتل الممثلين الثانويين في الكادر (وعددهم كبير)، وتوزيع الضوء بحيث يمتد ليشمل أركان المكان.

ويستخدم المصور الكاميرا المهتزة المحمولة الحرة في مشاهد الملاكمة التي تختلف عن مثيلاتها في أفلام أخرى شهيرة مثل “الثور الهائج” لسكورسيزي، فالملاكمة التايلندية تتخذ طابعا أكثر فوضوية ودموية، وتبدو المنازلة فوق الحلبة أمام جمهور السجناء الذين يهتزون نشوة بالعنف كما لو كانت معركة من أجل البقاء على قيد الحياة وليس مجرد الفوز، بل إن بطلنا يتلقى بالفعل تهديدا بالقتل إن لم يحقق الفوز من جانب عتاة الإجرام الذين سيضعون رهانهم عليه. تهتز الكاميرا مع اهتزاز الملاكمين، تهبط وتنحرف لتضطرب الرؤية، وتغيم الصورة مع شدة الضربات وترنح الجسد، في مزيج بصري سوريالي.

تم تصوير الفيلم في 27 يوما في الأماكن الطبيعية في تايلند داخل سجون سابقة

لا يستخدم المصور قط عدسة التكبير (زوم)، ولتوليد الشعور بالدوار تدور الكاميرا حول كتل الممثلين الثانويين داخل السجن في حركة دائرية متكررة، ويعود الفضل في دقة التصوير داخل السجن إلى التعاون الجيد بين المصمم الفني للمشاهد ومدير التصوير، والتوزيع الجيد للممثلين (الكومبارس) في أدوار الحراس والسجناء. ولا شك في أن الفيلم يصلح من ناحية التصوير تحديدا للتدريس على الطلاب في معاهد السينما.

لم يكن هناك من يمكنه أن يتفوق على أداء الممثل جو كول في هذا الدور الذي بدا وكأنه صنع خصيصا له. إنه بوجهه المعبر وجسده النحيل وهو يتحرك في ملابسه الداخلية تقريبا طول الفيلم، يتلوى ويعاني نوبات الاحتياج إلى المخدر، ثم يتجه للعنف الشديد ثم يهدأ ويحسب خطواته، ثم يثور وهو في الحبس الانفرادي ويضرب بقبضة يده الجدار، كلها انتفاضات جسدية قاسية لا شك في أن الممثل عانى وهو يؤديها في محيط حقيقي تماما. وحتى داخل حلبة الملاكمة بدا أن معظم الضربات حقيقي وموجع.

ويعتبر شريط الصوت في الفيلم تحفة فنية ونموذجا على عبقرية الموسيقى عندما تلتحم بالصورة وتصبح جزءا عضويا منها: إيقاعات سريعة متدفقة، همهمات، صيحات تبدو كما لو كانت استغاثات في الخلفية، الموسيقى “الميلانكولية” التي تدفع للجنون، مع استخدام جيد ومحسوب للموسيقى الشعبية التايلندية التي تبدو في مشاهد الملاكمة في النهاية كما لو كانت تزين احتفالا شعبيا أو عرسا، كما أنها في اختلاطها بصيحات السجناء من الجمهور وكأنها تحاول أن تدفع بهم إلى ذروة النشوة.

قضى المخرج سوفير عاما أملا في البحث عن المواقع المناسبة للتصوير والإعداد لفيلمه، وتم تصوير الفيلم في 27 يوما في الأماكن الطبيعية في تايلند داخل سجون سابقة، أو حتى داخل سجن حقيقي بنزلائه في الفلبين، ومعظم الممثلين الثانويين الذين ظهروا في الفيلم من نزلاء سجون سابقين وتجار مخدرات ومجرمين قضوا عقوباتهم، كما ساهم عدد من الملاكمين المحترفين في مشاهد الملاكمة.

يخرج بيلي مور الحقيقي من السجن عام 2010 بعفو من ملك تايلند، ويعود إلى بلاده على أمل أن يتمكن من الإقلاع عن المخدرات

عودة إلى السجن رغم العفو

يخرج بيلي مور الحقيقي من السجن عام 2010 بعفو من ملك تايلند، ويعود إلى بلاده على أمل أن يتمكن من الإقلاع عن المخدرات والتوقف عن السرقة، بل إنه يصدر كتابه المشار إليه ليصبح من أكثر الكتب تحقيقا للمبيعات ويباع لصناع هذا الفيلم، لكن بيلي مور يعود مجددا للسطو على منزل جيرانه في ليفربول ثلاث مرات في يوم واحد، فيُقبض عليه وينال حكما بالسجن مدة عامين، وتفوت عليه فرصة حضور العرض الأول لفيلمه.