صندوق الطير.. غضّ البصر وطمس البصيرة

في رواية وفيلم “صندوق الطير” يُصاب العالم بذلك الطاعون أو اللعنة، ويصبح لزاما على من يرغب في النجاة أن يتجاهل “حاسة البصر” طالما كان في الهواء الطلق

هاجم الطاعون المدينة ولم يستطع أحد التصدي له، لكن “أوديب” الملك كان شجاعا ووعد بالقضاء عليه، ولجأ إلى الكاهن الذي أخبره أن القضاء على الطاعون لن يتم إلا بعد التخلص من الخطيئة، والتي تتمثل بأن يقتل أحد الأشخاص والده ويتزوج من أمه.

وكان أوديب يعتقد أن زوجته تحاول أن تثنيه عن البحث عن والديه الحقيقيين لأنها تعتقد أنه ابن لأحد العبيد، لكن زوجته “جوكاستا” وحدها علمت أن زوجها أوديب إنما هو ابنها، لذلك ذهبت بعد لقاء معه وشنقت نفسها، وأصبح الأمر غريبا بالنسبة لأوديب الذي اكتشف بعد سنوات طوال أنه ليس ابنا للراعي الذي رباه، وأصبح ملكا بعد أن قتل الملك السابق في معركة وقعت بالصدفة، وسلمه أهل المدينة تاج الملك وأرملة الملك التي هي أمه، لأنه استطاع أن ينجو من لغز “أبي الهول”.

عَرف أوديب أخيرا أنه تزوج أمه وقتل أباه، وأن والده الملك المقتول تخلّى عنه بعد نبوءة للكاهن -بعد ميلاده مباشرة- أن الطفل سيقتل أباه ويرث مُلكه وزوجته، فقرر أوديب أن يعاقب نفسه وفقأ عينيه.

تقرر الأسطورة اليونانية القديمة أن العقاب الذي قرره أوديب لنفسه هو فقء عينيه والتخلي عن المُلك والأبناء والسير في شوارع المدينة حتى الموت. وقد وردت في العديد من الأعمال الأدبية القديمة والحديثة وألهمت المئات من الكتّاب، وقام عالم النفس الأشهر في العالم “سيغموند فرويد” بتسمية أحد العوارض النفسية بـ”عقدة أوديب”، حيث يتخد الابن موقفا عنيفا من الأب بدافع الغيرة على الأم.

وفي رواية وفيلم “صندوق الطير” (Bird Box)


وبينما ينتهي الفيلم بوصول أبطاله بعد رحلة كفاح إلى مكان مخصص للمكفوفين، فإن الرواية التي صدرت في عام 2014 بالاسم نفسه للكاتب “جوش مالرمان” تنتهي بأن يتخلص العالم من حاسة البصر في عقاب أو خلاص مشابه لخلاص أوديب.

وقد حقق فيلم “صندوق الطير” للمخرجة الدانماركية سوزان بيير وبطولة النجمة الفائزة بالأوسكار ساندرا بولوك؛ رقما قياسيا في عدد مرات المشاهدة في أسبوعه الأول، وهو 45 مليون مشاهدة، وهو ما دفع الشركة المنتجة “نيتفلكس” إلى الإعلان عن عدد مرات المشاهدة لأحد أعمالها لأول مرة.

وبعد أسبوع من عرض الفيلم ظهر تحدٍ باسم “تحدي صندوق الطير” (Bird Box challenge)؛ قرر خلاله عشاق الفيلم تنفيذ فكرة التخلص من “حاسة البصر” بشكل مؤقت، وسار بعضهم في الشوارع معصوبي الأعين؛ فسارعت الشركة المنتجة إلى إصدار بيان للتحذير من هذا التحدي الذي يمثل خطورة على حياة الناس.

مالوري.. رحلة النجاة معصوبة العينين

لا يمكن التشكيك في عناصر التشويق والقلق التي اختار صُنّاع “صندوق الطير” على أساسها القصة، فلا  يوجد ما هو أضعف من طفل صغير، ولا يوجد ما هو مخيف ومسبب للتوتر أكثر من وحش يقتلك أو يدفعك للانتحار بمجرد النظر إليه ويهدد هذا الطفل، ولا غريزة أقوى من الأمومة لحماية حياة طفل والنجاة بحياة الأم نفسها معه، وهكذا جمع صُنّاع فيلم “صندوق الطير” عناصرهم الأولية الضامنة لجذب الجمهور والضامنة لإبقائه متوترا ومتعاطفا ومتشوقا للمتابعة حتى نهاية الفيلم، وبقي البناء الدرامي للعمل الذي يحكي عن امرأة لا تستطيع أن تقبل سوى ذاتها ورغم ذلك تخوض رحلة لإنقاذ طفلين أحدهما ابنها.

وتبدأ أحداث الفيلم بذهاب امرأة تُدعى مالوري “ساندرا بولوك” إلى فحص روتيني للحمل، وذلك بعد أن شاهدت قصة إخبارية غريبة عن حالات للانتحار الجماعي في أوروبا ولم تصدقها، وبعد مغادرة عيادة الطبيب ترى امرأةً تضرب رأسها بلوح زجاجي، وتدرك أن هذه الأحداث حقيقية فعلا، وبعد أن ترى الفوضى والهلع الذي يضرب المدينة، تحاول الفرار في سيارة مع أختها “جيسيكا” التي ترى بدورها أشياء تخفيها ولا تستطيع السيطرة على نفسها وتقوم بالانتحار.

تبتعد مالوري عن الفوضى والحشد الانتحاري، وتنضم إلى مجموعة من الناجين الذين يختبئون في أحد المنازل، وبينهم نماذج مختلفة من البشر كأنهم في سفينة “نوح”، وبعد مرور بعض الوقت يفكرون في كيفية حصولهم على الغذاء اللازم لهم، وتقرر مالوري وعدد قليل من الناجين الذهاب إلى متجر قريب للحصول على الإمدادات، وهناك تجد مالوري “صندوق الطير” وتقرر اصطحابه في رحلتها للنجاة، واختارت مالوري الطيور لأنها تنتبه لوجود المخلوقات دون رؤيتها، فقد حركت أجنحتها حين دخلت مالوري ورفاقها المتجر دون أن تراهم.

وتعيش مالوري نحو خمسة أعوام في المأوى الذي لجأت إليه، وتستمر بعد أحداث درامية أدت إلى قتل رفاقها وميلاد طفل من إحدى الناجيات بالإضافة إلى طفلها (لم تطلق على أي منهما اسما إلا في نهاية الرحلة والفيلم)، وتقرر الرحيل إلى مكان أكثر أمنا لتخوض الرحلة معصوبة العينين هي وطفليها بين النهر والغابات، وهجوم المصابين الذين يحاولون دفعهم إلى خلع “العصابة” عن عيونهم وتبشيرهم بما يشبه الجنة.

مالوري تعيش نحو خمسة أعوام في المأوى الذي لجأت إليه، وتستمر بعد أحداث درامية أدت إلى قتل رفاقها وميلاد طفل من إحدى الناجيات بالإضافة إلى طفلها

طمس البصر والسمو بالبصيرة

تقول الأسطورة إن خطيئة أوديب هي قتل أبيه والزواج من والدته، بينما كانت خطيئة أبينا “آدم” هي تناول ثمار الشجرة المُحرّمة، أما خطيئة مالوري فهي تلك الذاتية المتوحشة وذلك الإهمال الذي قابلت به خبر حملها، لدرجة أنها فكرت في عرض الطفل المنتظر للتبني قبل أن تلده (وهو ما فعله والد أوديب حين أخبره الكاهن بنبوءة قتل الابن له، إذ أعطاه لأحد الرعاة خارج مملكته).

ويُدين الروائي جوش مالرمان -وصناع الفيلم بالتبعية- مالوري والبشرية بتلك الخطيئة، وبالتالي فإن الفيلم باعتباره رحلة للنجاة بـ”النفس” وبـ”الطفلين” لم تكن إلا طقسا من طقوس التكفير للوصول إلى “الغفران”، واستمرار الحياة بشروطها الجديدة، وتبدو الأم وطفلاها ومجموعة الناجين بعد نهاية العالم التي بدأ بها الفيلم بداية لعالم جديد يتخلى عن الرؤية بمعناها الحسّي وهو “البصر”، ولا يسعى لتشغيل “البصيرة” بل يعطلها تماما.

وقالت ساندرا بولوك في تغريدة لها إن ثمة تجسيدا لوحش كان يفترض أن يظهر في الفيلم لكنه أثار ضحكها حين رأته، فتم حذفه في المونتاج لتظهر آثار الرعب منه على وجوه البشر فقط. والحقيقة أن عدم إظهار ذلك الوحش أضاف أبعادا منحت الفيلم قيمة إضافية، إذ على كل مشاهد أن يختبر أسوأ مخاوفه في تصوره للوحش، أو أفضل ما يمكن أن يدفعه للموت بحثا عنه.

وكانت رؤية ذلك “الوحش” تدفع الأغلبية ممن شاهدوه للانتحار بشوق بالغ وفرح، والبعض للانتحار أيضا بحزن شديد، وتدفع آخرين للتبشير بعظمة ما رأوه ودعوة الآخرين لرؤيته، ولعل قراءة الفيلم في هذا الإطار تشير إلى دعوة واضحة لغضّ البصر عن ذلك الذي يتجاوز الحواس ويرى بالقلب أو بالبصيرة.

وتستدعي ردود الأفعال المتنوعة لمن شاهدوا “الوحش” قراءة تتعلق بالتصور الكامن وراءها، إذ تبدو أكثر شبها بردود فعل الذين يمسّهم الإيمان الخالص بما يتجاوز الطبيعة المادية للأشياء، ويصلون بذلك الإيمان إلى حالة من السمو و”السعادة” تتجاوز إدراك مادية الحياة التي يعيشها الآخرون، وتستدعي أيضا ردود الأفعال المتعلقة بالشوق إلى رؤية ما يستحيل رؤيته طالما كان الإنسان على قيد الحياة، في إشارة إلى من رحلوا أو إلى الجنة، كما تشير ردود الأفعال إلى ندم شديد حيث ينتاب البعض منهم “شعور بالذنب”، وبالتالي الرغبة في الخلاص.

الفيلم استعرض عبر رحلته نماذج بشرية في المنزل الآمن الذي لجأت إليه مالوري، فكان هناك الشاذّ والساذج والهستيري والمتعصب والمتسامح والشجاع والجبان والأناني

المتعصب الذكي.. والمسيح الأفريقي

استعرض الفيلم عبر رحلته نماذج بشرية في المنزل الآمن الذي لجأت إليه مالوري، فكان هناك الشاذّ والساذج والهستيري والمتعصب والمتسامح والشجاع والجبان والأناني، وصوّره كما لو كان سفينة نوح خاصة بعد اصطحاب مالوري للطيور التي تملك “بصيرة” خاصة، ومن ثم انفصلت الأم بطفليها عن سفينة نوح؛ لتفضّل العيش في عالم قام بالتكفير عن خطاياه متخليا عن “تضحية” المسيح طبقا للعقيدة المسيحية بنفسه فداء للبشر، لكن الفيلم أوردها إذ قام توم (ترافيليت رودس) بالتضحية بنفسه فداء للأم وطفليها فوهبهما الحياة.

ويأتي اختيار “المسيح ذي الأصل الأفريقي” في الفيلم مقابل اختيار “شخصية المتعصب الذكي” دوغلاس التي قدمها جون مالكوفيتش ذو الملامح الغربية، ليشير إلى موقف مكتمل الملامح من فكرة الروحانيات والعقائد إجمالا باعتبارها ميراثا جنوبيا خالصا يمكن تقدير تضحيته، لكن واقع الفيلم يتخلص منها باعتبارها ماض.