“صنع في بنغلاديش”.. حين تتمرد المرأة

اسمه يتربع على 60% من الملابس الجاهزة التي تباع في أوروبا، وهو المُصَدّر الأكبر لها في العالم، مباشرة بعد الصين. صناعةٌ تُدِرّ حوالي 30 مليار يورو كل سنة ولا ينوب العاملين فيها -من الأكثر عددا وفقرا كي لا نقول بؤسا- إلا قروش قليلة.

في بنغلاديش، حيث تُشكّل الملابس الجاهزة 80% من نسبة صادرات البلد الكليّة، فإن رواتب عمال معامل ومشاغل النسيج هي الأدنى وتتراوح ما بين 54 و82 يورو، أي ما يعادل سعر قميصين أو ثلاثة قمصان من الألف وخمسمئة قميص التي يصْنَعها العامل شهريا.

ليس هذا فحسب فظروف الشغل هي الأصعب والأكثر إهمالا وبعدا عن قواعد السلامة. ولا تزال في الذاكرة كارثة عام 2013 حين انهار مبنى صناعي يضمّ عدة معامل للغزل والنسيج وقضى على 1130 عاملا وعاملة، مما أثار فضيحة بشأن الشركات الغربية الكبرى التي تنتج بضائعها هناك متغاضية عن الظروف المعيشية والأمنية للعاملين، وأدت تلك الكارثة إلى قيام حملات إعلامية وحقوقية في العالم تندد بما يحصل وتُعرّي نفاق واستغلال رأس المال للفقراء والضعفاء.

شروط العمل القاسية في هذه المصانع والتي تحيط بالعاملات على وجه الخصوص، كحال “لقاء” العاملة التي عانت الكثير جراء الظلم الواقع عليها في العمل؛ أوحت لمخرجة بنغلاديشية بإنجاز فيلم ينقل معاناة نساء يعملن في صناعة الملابس لتبيان الاستغلال الذي يتعرضن له وإظهار سعي بعضِهن للتمرد عليه والمطالبة بحقوقهن سواء في حياتهن الشخصية أم في العمل.

فيلم ملتزم.. ولكن

هو فيلم ملتزم إذا؟ نعم، ولكن ليس فقط!

ففي “صُنع في بنغلاديش” لمخرجته “رُبَيعِت حسين” لفتات جميلة ومحاولات حثيثة للتخلص من أَسرِ موضوع يفرض التزاما يضيق به محبّ الفن السينمائي. تجلّى هذا أولا في حُسْن اختيارها لبطلتها التي حملت الفيلم على كاهلها بحضورها القوي وأدائها المُعبّر والعفوي. ريكيتا شيمو أو “شيمو” عاملة شابة (23 عاما) في مشغل للملابس الجاهزة في دَكّا عاصمة بنغلاديش. تقرر مع عدد آخر من العاملات بتشجيع من ناشطة حقوقية تأسيس جمعية للدفاع عن حقوقهن المهضومة تماما. وعلى الرغم من كل المعوقات التي تتراوح بين ردود فعل عَدائية لمسؤولي المشغل ورفض زوجها لنشاطها، وصولا لخوف العاملات وترددهن؛ تُقرر شيمو المُضيّ في مشروعها.

بُنْية الفيلم الروائية إذًا ترتكز على شيمو، تلاحقها الكاميرا في كل خطوة تخطوها؛ في البيت، في المعمل، في ذهابها وإيابها وفي متابعتها إجراءات تسجيل الجمعية في الوزارة. إنها عمود السرد.

فتاة مملوءة بالحيوية والإصرار والفضول والصلابة، كل ما يلزم الشخصية المكافحة، لا يصدها فشل ولا تأنيب أو تعنيف بسبب أفكارها ومشروعها. إنها شخصية بطلة قيادية استوحتها كاتبة السيناريو المخرجة من نماذج عالمية في السينما؛ من شخصية “نورما راي” في الفيلم الأميركي الذي يحمل اسمها للمخرج مارتن ريت (2011)، والذي يدور حول عامِلة في مصنع للنسيج في مدينة صغيرة في الولايات المتحدة تتغير حياتها حين تلتقي بنقابية من نيويورك وتخوضان معا معركة ضد أرباب العمل.

كذلك لم تبتعد بطلة “صُنع في بنغلاديش” عن شخصية “روزيتا” للأخوين داردين (1999) في كفاحها اليومي لتجد عملا وموقعا. لكن “شيمو” البنغلاديشية استطاعت بفضل أدائها وإدارة المخرجة لها أن تبني شخصيتها المستقلة وأن تَنقل أحاسيس مُعبِّرة تماما عن وضعها وعن أجوائها بحيث جسدت دور ابنة هذا المحيط بشكل رائع.

شيمو تدرس قانون العمل وتتحدى الواقع الذكوري حتى تطالب بحقها وحق زميلاتها في المشغل

شيمو.. تحدي الواقع

لكنها وإن كانت أدت ما عليها في هذا المجال، فإن السيناريو بالغ في رسم دورها كفتاة متحدية لا سيما في المشهد الأخير حين دخلت مكتب المسؤول بوزارة العمل وأجبرته على التوقيع على ورقة قبول تأسيس جمعية العاملات، وهو أمر غير معقول ويصعب تصديقه في بلاد يخاف فيها الضعيف ولا يجرؤ على محاسبة “الكبار” على هذا النحو. فلا يمكن الاقتناع بهذا المشهد الأخير وبموقف شيمو الحازم والمتحدي حتى لو كانت الدوافع الدرامية إليه مقنعة، فقد باتت مهددة بالطرد من مدير المشغل بعد انكشاف أمر اشتراكها بالجمعية، كما أُسيئت معاملتها وأصبحت زميلاتها يَخشيْن مساندتها ويشعرن بالضعف والتردد حيال الأمر.

ولعل المخرجة أرادت من فيلمها إعطاء المشاهدين أملاً بتقديم نهاية سعيدة لهم تتلخص في حصول شيمو على مطلوبها بعد معاناة قليلة نسبيا من زميلاتها العاملات، فاكتفى السيناريو بالتعبير عن هذ المعاناة عبر طرد عاملة أو عاملتين ومقاومة بسيطة من قبل المسؤولين انتهت بالرضوخ والتوقيع لهن. لكنها نهاية غير مقنعة ولا تتناسب مع حقيقة شراسة المنتفعين والمتسلطين الذين لا يجدون حرجاً بظلم الناس مقابل الحفاظ على مكتسباتهم وكراسيهم، فبدت كل هذه التحولات في المواقف وكأنها أمر مفروغ منه، ولكن شابها شيء من الارتباك ظهر في تسرعها وعدم وضوحها.

الرجل الذي يظهر في الفيلم كسولا ومتحرشا وظالما يفرض رأيه

الرجل ظالم.. وكسول

اهتمت المخرجة بنواحٍ أخرى من الظلم الواقع على المرأة وما تعانيه من الرجل والمجتمع في بنغلاديش، كتفضيل تشغيلها في المعامل بسبب سهولة إخضاعها، وإجبارِها على لبس الحجاب الأسود بدلا من الوشاح التقليدي الجميل الملون، وتَعرُّضِها للتحرش، والتخلي عنها دون تردد بعد قصة حب.

وأظهر الفيلم الرجل كسولا ومتحرشا وظالما يفرض رأيه، ويترك الزوجة لتشقى وحدها مع الأولاد في بلدهم في حين أنه يسرح ويمرح في “دبي”. وأظهره أيضا جبانا مخادعا عنيفا غيورا. أما زوج شيمو فلم يَظهر مثلا متعاطفا إلا كي يطلب منها التخلي عن عملها، وبالتالي عن زميلاتها بعد أن سِرْن معا في طريق لا يستطعن التراجع عنه البتة.

وقد اختير مصنع مهجور كموقع رئيسي للتصوير بعد أن أعيد تأثيثه. بيد أن المخرجة لم تكتف بالأمكنة المغلقة بل اعتنت -بمساعدة المصورة البلجيكية “سابين لانسلان”- بتصوير المدينة، فبدت دكّا لمن يعرفها مُمَثّلة بشكل جيد في الفيلم، بإظهار أزقتها الضيقة ومركزها الذي يعجّ بعربات “الريكشة” (المعروفة عربيا بالـ”تُكتُك”) وبالناس والسيارات وهم في ازدحام هائل.

واختارت المصورة التصوير من عُلوّ أحيانا، من فوق جسر مثلا لسهولة التنقل وإلإيحاء بأجواء المدينة. وسواء أكان التصوير في الداخل أم في الخارج، فإن اختيار مواقع التصوير كان موفقا وأعطى إحساسا حقيقياً بالمكان.

صورة تجمع شيمو وزميلاتها في المشغل الذي يتقاضين فيه مبلغا زهيدا مقابل عملهن

ملابس مبهجة وأجواء معتمة

كما أظهر التصوير ببراعة هذا التضاد بين ألوان الملابس النسائية المبهجة وبين العتمة والأجواء الرمادية في المدينة، فبدت الصورة نابضة بالحياة مع هؤلاء الفتيات الحيويّات الممتلئات نشاطا؛ ولا نقول تصميما، فقد كُنّ في بعض الوقت مُترددات خائفات من مصير مجهول ينتظرهن في حال فشل الحصول على موافقة وزارة العمل لتأسيس الجمعية التي ستحفظ حقوقهن، وهذا ما أبرزه الفيلم جيدا؛ تَردّد كامن في شخصيات ضعيفة بمواقعها، تعيش واقعا ظالما، وتحيط بها كائنات قاسية لاتعبأ بها، كائنات عاشت عهودا من الظلم والجهل وها هي تُقْدم على مغامرة تُعطيها بعضاً من حقّ منْهوب، “فالفقراء لا قوانين تقف معهم” كما تقول إحداهن في الفيلم هازئة من شيمو التي كانت تشرح لهن إمكانية حمايتهن بقوة القانون.

أما الأجنبي، فقد ظهر في الفيلم بِدَوْر سلبي، فبدا مُحرِّضا ومُتآمِرا وهو يزور المعمل في جولة تَفقُديّة ويطالب ربّ العمل بعرضٍ أكثرَ منفعةً له، وهو ما يعني مزيدا من خفض الأجور للعمال، لأنه لن يخفض بالتأكيد من ربحه لكن من ربح عاملاته.

رُبَيعِت حسين واحدة من قليلات عاملات في السينما البنغالية، كانت درست السينما في نيويورك، واستغرقها التحضير للفيلم هذا ثلاث سنوات من البحث والكتابة عن المرأة العاملة، وجاء بعد “قيد البناء” الذي اهتمت فيه بقصة امرأة من الطبقة الوسطى.

وقد أكدت في حوار معها أنها ستهتم في فيلمها القادم بالمرأة الغنية.. بل الغنية جدا، ونحن في الانتظار.