“ضد الثلج”.. كفاح الإنسان لمنازلة الطبيعة وانتزاع أسرارها

أمير العمري

مغامرة مذهلة في القطب الشمالي ليست كسائر المغامرات السينمائية التي عرفناها من قبل، فهذه المغامرة تكتسي بالصور الحيّة والشخصيات التي تنبض بالحياة، شخصيات حقيقية لقصة حقيقية يرويها لنا فنان سينمائي بكاميرا تلتقط أدق التفاصيل المدهشة في جبال الثلج التي لا تنتهي قرب القطب الشمالي، تستمر المعاناة مع الطبيعة لثلاث سنوات، مع الإصرار على النجاة والعودة بالسر الذي دفع البطلين إلى ولوج تلك المغامرة.

فيلم “ضد الثلج” (Against the Ice) هو أحد الأفلام التي عُرضت مؤخرا بمهرجان برلين السينمائي فبراير/شباط الماضي قبل أن يبدأ بثه على منصة نتفليكس مؤخرا، وهو عمل غير مسبوق، فهو أولا يقوم على قصة حقيقية سجلها أحد بطليها “إنجر إيفرسون ميكلسن” في روايته التي صدرت عام 1957 تحت عنوان “إثنان ضد الثلج”، كما أن الغالبية العظمى من مشاهد الفيلم صُوِّرت في الأماكن الطبيعية في غرينلاند وآيسلندا في درجات حرارة منخفضة وصلت إلى 30 درجة تحت الصفر، وتعطل العمل في الفيلم أكثر من مرة، بعد أن حوصر فريق التصوير في نهر متجمد بسبب عاصفة ثلجية. ويمكن اعتبار الفيلم الذي أخرجه الدانماركي “بيتر فلينث” عملا من الإنتاج المشترك بين الدانمارك وآيسلندا، وقد أنتج أساسا لحساب نتفليكس.

 

يعتبر الفيلم من أفلام “الرحلة” التي تتداعى خلالها أحداث تحفل بالمفاجآت والإثارة، مع لحظات كثيرة من التأمل والتقارب الإنساني في ظروف تنذر بالخطر، لكنه أكبر من مجرد “فيلم رحلة”، فهو ليس فيلما عن اكتشاف المكان فقط، بل وعن اكتشاف النفس البشرية والذات، وتلك الرغبة الإنسانية المستبدة بالمعرفة.

غرينلاند.. بعثة دانماركية تستكشف حقيقة الأرض المُتصلة

تبدأ أحداث الفيلم عام 1909، حيث كانت بعثة استكشافية دانماركية أُرسلت من طرف الحكومة كي تعثر على دليل يثبت امتداد أرض غرينلاند والتصاقها ببعضها البعض، وعدم وجود قناة فاصلة بين شمالها وجنوبها، بعد أن زعم الأمريكيون سيطرتهم على الجزء الشمالي منها، ووضع بعض المستكشفين الأمريكيين الأعلام الأمريكية عليها. لكن هذه البعثة لم تعد، وبات من الأرجح أن أفرادها قد قضوا نحبهم بسبب العواصف الثلجية، أو بسبب هجوم حيوانات ثلجية ضخمة، وبالأخص الدببة.

وأصبح يتعين الآن على قبطان سفينة راسية في البحر كانت تنتظر عودة البعثة أن يقرر: هل يعود من حيث أتى دون أي دليل على أن أرض غرينلاند متصلة وتتبع بلاده، أم يذهب بنفسه لتقصي الحقيقة ويرى بعينيه ما يمكن أن يكون قد وقع للبعثة السابقة؟

القبطان “إنجر ميكلسن” يقرر المضي قدما في الذهاب إلى غرينلاند لاستكشاف حقيقة الأرض هناك

 

يختار القبطان “إنجر ميكلسن” الحل الثاني رغم ما في ذلك من مغامرة قد لا يعود منها حيا، لكنه يحتاج إلى مساعد يذهب معه، وعندما طلب متطوعا من فريق البحارة المدربين الموجودين معه على متن السفينة ممن لديهم خبرة في طبيعة المنطقة القطبية؛ لم يستجب له أحد، فهم يعتبرونه مجنونا، لكن شابا لا يتمتع بأي خبرة يدعى “أيفر إيفرسن” تقدم للذهاب معه، لكنه مجرد “ميكانيكي” لا يعرف المنطقة، ولم يجرب هذا النوع من الرحلات الصعبة التي تعتمد على الطاقة والقدرة على الصمود والحدس السليم، غير أن القبطان وافق مضطرا على أن يذهب معه، فليس أمامه بديل آخر.

كلاب وزلاجات.. إصرار القبطان رغم لعنة الطبيعة

كانت بعثات الاستكشاف في تلك الأيام تعتمد على الزلاجات التي تجرّها الكلاب لنقل العتاد الذي يأخذه المستكشفون معهم، ويتكون من الأطعمة والخيام التي ينصبونها في العراء كلما اقتضى الأمر، وبعض الأشياء الأخرى.

كانت الكلاب إذاً تلعب دورا أساسيا في تلك الرحلات، وهي تلعب دورا بارزا في هذا الفيلم أيضا، فالشاب “أيفر” يُظهر من البداية حُبا كبيرا للكلاب، ويُصادق واحدا منها رغم أن أحد أفراد طاقم السفينة يحذره من البداية بألا يرتبط بالكلاب، لأنه قد يضطر لقتل أحدها وإطعام باقي الكلاب بجثته إن اقتضى الأمر، وذلك بسبب البرد الشديد وقلة الطعام.

يترك القبطان “ميكلسن” طاقمه في السفينة ينتظر عودته، ويشق طريقه مع “أيفر” آملا أن يقطع 625 كيلومترا. وإذا كانت الكلاب التي تجر الزلاجات تلعب دورا رئيسيا خصوصا في النصف الأول من الفيلم، فالبطل الثالث في الفيلم هو الطبيعة نفسها التي تثور وتغضب وتفاجئ بغضبها الرجلين وكلابهما، وتتسبب لهما بالكثير من المآزق والعقبات، ومنها عندما أفلت زمام زلاجة تتدفق بسرعة هائلة على الجليد، فسقطت من فوق ربوة جبلية في هوة سحيقة وتحطمت، ومات معظم كلابها، ومن بينها الكلب الصديق المقرب لصاحبنا “أيفر”.

“ميكلسن” و”أيفر” مع الكلاب التي تجر الزلاجات، والتي لعبت دورا محوريا في مغامرتهما الشاقة

 

أصبحت هناك الآن زلاجة واحدة فقط وبعض الكلاب، والقبطان يُصرّ على مواصلة الرحلة الشاقة. إنه يشبه في ملامحه القبطان الأسطوري “أهاب” في رواية “آرنست هيمنغواي” الشهيرة “العجوز والبحر”، بتصميمه على معاندة الطبيعة ومصارعة الأخطار من أجل الوصول إلى هدفه مهما كلفه الأمر.

حطام السفينة الأصل.. مفاجآت الزمن والوحدة والبرد

ما يحدث أولا أن الرجلين يصلان إلى المكان الذي لقي فيه أفراد البعثة السابقة حتفهم، حيث يعثرون على جثة قائدها، ثم داخل مجموعة من الأحجار المتراصة التي تركها السابقون يعثرون على يوميات الرحالة، وكذلك على ما يؤكد أنه لا وجود للقناة التي يزعم الأمريكيون أنها تفصل بين قطعتي الأرض من غرينلاند.

إذن هذا هو الجواب الذي يسعى القبطان للعثور عليه والعودة به إلى كوبنهاغن، إنه خطاب النصر، لكن كلا، ليس بعد، فالمفاجآت لن تنتهي هنا.

يقرر الرجلان العودة إلى السفينة، لكن خلال الطريق سيضطران للتوقف، حيث ينفد منهما الطعام أو يوشك، والكلاب تعاني وتموت واحدا بعد آخر بسبب الإنهاك الشديد والجوع، وسيضطر “أيفر” بالفعل إلى أن يطلق رصاصة رحمة على أحدها، ثم ينتزع كبده ويقليه كي يتناوله مع القبطان، فلم يعد لديهما ما يأكلانه. لكن هل يمكن أن يكون كبد الكلب ساما؟!

القبطان يقول إن الطريقة الوحيدة لاختباره هي وضع ملعقة فضية فيه، فإن تغير لون الفضة إلى الأخضر كان السم موجودا، لكن لا ملعقة هناك، بل هناك تلك السلسلة التي يلفها حول رقبته والتي تحمل صورة حبيبته “نايا” التي تركها خلفه في الدانمارك. لا بأس، لكن الاختبار لا يثبت شيئا، ويتناول الرجلان قطعة الكبد على أي حال، وفي الصباح يتقيآن، ثم يواصلان الرحلة بعد التخلص من باقي الأمتعة، فقد أصبحا يعتمدان الآن على سواعدهما فقط.

السفينة التي انطلقت منها المغامرة الدانماركية المدهشة من كوبنهاغن إلى غرينلاند

 

يعود الاثنان إلى حيث تركا السفينة ليكتشفا أن رفاقهما قد رحلوا وتركوهما وحدهما. هناك فقط حطام السفينة الأصلية، والواضح أنها تحطمت في عاصفة ثلجية عنيفة، وقد صنعوا من بعض أخشابها كوخا، وغالبا تم التقاطهما من طرف سفينة صيد كانت تعبر في المنطقة بعد ذوبان الجليد. لكننا الآن في موسم التجمد، ومن المستبعد أن تأتي سفينة أخرى في هذا الوقت، والأيام تمر، ويستخدم المخرج طريق كتابة أرقام الأيام على الشاشة بحيث يشعرنا بمرور الزمن: 168 يوما وصولا إلى 680 يوما، وسيمر الوقت، وتمضي ثلاث سنوات أو أكثر على الرجلين وهما في تلك الرحلة العبثية، وينتهي بهما الحال محاصرين بالثلوج في هذه البقعة القفر الباردة، حيث الصمت والوحدة والهواجس المفزعة.

ميكلسن وأيفر.. أدوار متبادَلة بين الاضطراب والهدوء

التباين بين الشخصيتين مصنوع جيدا في الفيلم، سواء من خلال النص السينمائي (السيناريو) أو الأداء التمثيلي، فالقبطان في البداية أكثر حكمة وهدوءا وتقبلا للعقبات بحكم خبرته، بينما مساعده الشاب الذي يفتقر للخبرة لا يكف عن طرح التساؤلات الصعبة المقلقة. ثم يأتي وقت يتبادل فيه الاثنان دوريهما، فيصبح القبطان هو الأكثر اضطرابا، والميكانيكي الشاب أكثر هدوءا وحكمة اكتسبهما بفعل التجربة.

تبدأ الهلوسات تطارد القبطان ميكلسن، فيتخيل تارة أنه يرى منطادا يهبط في تلك المنطقة الوعرة التي وصلا إليها، تنزل منه حبيبته “نايا” وتدخل معه الى الكوخ الذي صنعه، تخاطبه وتُهدئ من روعه، بينما يشعر هو بالذنب لتركه إياها وحدها. وصل الرعب و”جنون الارتياب” (البارانويا) بميكلسن إلى حد أن يمسك بالبندقية ويحاول قتل رفيقه للتخلص من التشوش والعذاب الذي يمزقه.

في مشهد من مشاهد الإثارة في الفيلم يهاجم دب قطبي ضخم القبطان “ميكلسن”، ويكاد يقتله لولا يقظة أيفر الذي يهرع لنجدته، ويطلق رصاصة على الدب فيسقط مع ميكلسن في هوّة مائية عميقة بعد تحطم الثلوج من فوقها، لكن أيفر ينجح في انتشاله بواسطة حبل.

القبطان “ميكلسن” والميكانيكي الشاب “أيفر إيفرسن” اللذان خاضا تجربة شاقة للوصول إلى المنطقة القطبية غرينلاند

 

الطريف أن هذا المشهد تمت الاستعانة فيه بـ”دوبلير” (شخص ينوب عن الممثل أو البطل للقيام بمشاهد خطرة) يرتدي ملابس الدب، وهو شخص ضخم الجثة سقط بجسده فوق الممثل، فأصابه إصابة شديدة في رأسه.

لحسن حظهما أن رفاق السفينة تركوا لهم كميات كبيرة من الطعام، لكن مع مضي الوقت سينفد الطعام، ويصبح الجوع قاتلا، والبرد مستبدا، والأخطر بالطبع الهلاوس التي تهاجم رأس ميكلسن، وتتخذ الحوارات فيما بين الرجلين طابعا غريبا، فأيفر يقول إن الفرق بين الحيوان والإنسان هو الأيدي التي يستخدمها البشر في أشياء كثيرة، بينما لا يقدر الحيوان. فيقول له القبطان “ماذا لو متّ من دون يدين؟”، فيجيبه أيفر: في هذه الحالة يمكنني أن آكلك وأنا مطمئن الضمير. لقد أصبحنا الآن أمام حوار حول أكل لحم البشر. هل سيأتي الإنقاذ بعد أن يتغلب العقل على البيروقراطية في كوبنهاغن؟

لماذا تفعل هذا؟.. الأمل يدفع الإنسان لفعل المستحيل

في الثلث الأخير من الفيلم ينتقل الفيلم إلى كوبنهاغن حيث مقر الحكومة، لنرى أن طاقم السفينة الذي عاد تاركا وراءه ميكلسن وأيفر؛ يحاول الآن إقناع الوزير المسؤول “نيغارد” بإرسال سفينة إنقاذ، أو حتى الإعلان عن مكافأة جيدة لتشجيع أحد صيادي الحيتان على التطوع للقيام بالمهمة، لكن الوزير يرفض بشدة أن يخصص أموالا عامة لمهمة تبدو من وجهة نظره مستحيلة، فهو على قناعة بأن الرجلين قد لقيا حتفهما، وأن المهمة بالتالي قد فشلت.

يهتم المخرج “بيتر فلينث” بتصوير العلاقة الإنسانية بين الرجلين؛ كيف تبدأ، ثم كيف تنمو وتصبح علاقة صداقة حقيقية تمتد حتى نهاية العمر بعد أن تنتهي المغامرة، وذلك كما يخبرنا التعليق المكتوب على الشاشة في نهاية الفيلم مع ظهور صور الشخصيات الحقيقية للقصة القديمة.

في أحد المشاهد، وبعد أن تشتد الأزمة والوحدة والهواجس، يتوجه أيفر بسؤال الى القبطان ميكلسن: لماذا تفعل هذا؟ لكن القبطان لا يفهم مغزى السؤال في البداية، فيوضح أيفر له: لماذا تفعل ما تفعله، ولماذا لا تعود وتنهي هذه الرحلة رغم أنك تعرف أنها لن تحقق الهدف منها، ألا ينتظرك أحد في الوطن؟

 

يجيبه ميكلسن: لماذا يفعل أي إنسان ما يفعله؟ هذه وظيفتي وليس من الممكن أن أتخلى عنها، فأنا لا أعرف أي شيء آخر، كما أن هناك دائما أمل، وهذا الأمل الغامض هو الذي يدفع الإنسان إلى عمل المستحيل، وقد تكون هذه هي رسالة الفيلم البديع.

فيلم دانماركي بصبغة إنجليزية.. قصيدة شعر سينمائية

يختار صُنّاع الفيلم جعل الحوار باللغة الإنجليزية، ويشرك المخرج عددا من الممثلين الإنجليز في الفيلم، أولهم بالطبع “جو كول” الذي قام بدور “أيفر”، كما يشارك الممثل الإنجليزي الكبير “تشارلز دانص” في دور الوزير البيروقراطي المراوغ “نيغارد”، وهو من أكثر ممثلي الفيلم بروزا وموهبة، لأنه يستخدم الحركة ونبرة الصوت ونظرات العينين في التعبير خارج الأداء النمطي، فنحن أمام ممثل مسرحي “شكسبيري” كبير.

أما اللغة الإنجليزية كلغة للفيلم يستخدمها حتى بطله الممثل الدانماركي “نيكولاي كوستر والداو” (شارك في بطولة عدد من الأفلام الأمريكية)؛ فكانت لأسباب تتعلق بالتجانس بين الممثلين، وكذلك بتسويق الفيلم، لكنها ربما تكون قد سببت بعض الارتباك أمام المشاهدين، فنحن أمام فيلم دانماركي بدور أحداثه أساسا بعيدا عن بريطانيا، لكن حتى اختيار طاقم الممثلين روعي فيه التنوع، فكان اختيار الممثلة “هيدا ريد” من آيسلندا في دور “نايا”، والممثل الأمريكي “نيك جايمسون” في دور “هولم”، والممثل الإنجليزي “سام ريدفورد” في دور “لاوب” من طاقم السفينة، وهكذا.

وإذا كان الإخراج قد ساهم في دفع الإيقاع وادخار المفاجآت بين المَشاهد المختلفة ونجح في تقديمها في اللحظات المناسبة، فالفضل في هذه الصورة البديعة التي جاء عليها الفيلم يعود إلى مدير التصوير الدانماركي “توربن فورسبرغ” الذي صنع قصيدة شعر سينمائية رائعة، وذلك من خلال لقطات الطبيعة التي بدت كأنها القدر نفسه من خلال اللقطات العامة البعيدة، وكيف تنتقل أجواء الصورة من الضبابية والغموض مع هطول الجليد إلى العاصفة الجليدية، إلى ظهور قرص الشمس في الأفق يسطع بنوره على الثلج الأبيض الممتد إلى ما لا نهاية.
إن “ضد الثلج” أنشودة تحتفي بكفاح الإنسان من أجل منازلة الطبيعة وانتزاع أسرارها مهما كلفه الأمر.