طريق الكوكايين الجديد.. يُعبّده الفساد الأمريكي

 

قيس قاسم

من أخطر ما يتوصل إليه الوثائقي الاستقصائي أن الفساد وانتشار الرشوة في الجانب الأمريكي من الحدود بين البلدين هي ما يسهل عملية انتقال المخدرات

يكشف الصحفي والمخرج الفرنسي ألكسندر دوفال من خلال اندساسه بين صفوف أخطر عصابات تهريب المخدرات في العالم، حقائق صادمة عن عمليات تهريب الكوكايين من المكسيك إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

ومن أخطر ما يتوصل إليه الوثائقي الاستقصائي أن الفساد وانتشار الرشوة في الجانب الأمريكي من الحدود بين البلدين هي ما يسهل عملية انتقالها والاتجار بها في المدن الأمريكية. كَشفٌ يترك ظلالاً ثقيلة من الشك بشأن جدوى مشروع الرئيس ترامب لبناء جدار عازل بين الدولتين، فمع تفشي الفساد بين صفوف شرطة الحدود الأمريكية، ستستمر عمليات التهريب وستعجز الجدران الإسمنتية عن إيقافها.

ذلك الاستنتاج الخطير الذي ينقله الوثائقي ضمنا إلى متفرجه، ويحيله للتفكير في الأسباب الحقيقية التي تقف وراء فكرة بناء الجدار، يحيل معه سؤالا آخرا عن التقارب بين الاشتغال التلفزيوني والسينمائي وشدة التداخل بينهما.

فوثائقي دوفال المعنون “سيوداد خواريز – نيويورك.. طريق الكوكايين الجديد” المنتج للعرض التلفزيوني، فيه الكثير من عناصر صناعة الوثائقي السينمائي، لا يكتفي صانعه بالمقابلات، بل يعمل على بناء نص استقصائي مشحون بالتشويق السينمائي، إلى جانب تمسكه الشديد بعرض خفايا وحقائق جديدة تُثري وعي مشاهديه.

يكشف الصحفي والمخرج الفرنسي ألكسندر دوفال حقائق صادمة عن عمليات تهريب الكوكايين من المكسيك إلى الولايات المتحدة الأمريكية

 

من سيوداد خواريز إلى نيويورك

يستعرض الوثائقي طبيعة المدينتَين:

نيويورك “المدينة التي لا تنام” ظلت وجهة دائمة لتجار المخدرات، وتُعَد من بين أكثر مدن العالم استهلاكاً للكوكايين، ولأنها مركز تجاري وفني مهم فقد عُرف عن كثير من المشتغلين في حقول الموسيقى والموضة تعاطيهم المخدرات، وبسبب الطلب المتزايد عليه وصل سعر الغِرام منه في شوارع منهاتن إلى مئة دولار.

ولتأكيد تلك المعلومات يقابل الصحفي دوفال أحد منظمي الحفلات الموسيقية ويسأله أثناء أخذه لجرعات من المخدرات عن مصدرها، وعما يعرفه عن الثمن الغالي الذي يدفعه البشر في الطرف الثاني من الحدود بسببها. يجيب على السؤال الأول بالتفصيل دون خوف من كشف أمره، أما السؤال الثاني فلم يهتم به أبدا.

ذلك التجاهل سيدفع الصحفي للذهاب إلى المدينة المكسيكية ليتحرى عن حقيقة تحولها إلى مركز جديد لعصابات تهريب خطيرة نقلت صراعاتها فيما بينها إليها ودفع سكانها ثمن ذلك غاليا.

مدينة سيوداد خواريز سادس المدن المكسيكية من حيث عدد السكان، تتاخم حدودها ولاية تكساس الأمريكية، وتصلها من كولومبيا يوميا مئات الكيلوغرامات من الكوكايين، ويتنافس على التحكم بتجارتها زعماء عصابتي “سينالواز” و”لا لينيا”.

ولكشف نشاطاتها قرر دوفال خرق مجموعة “سينالواز” دون الكشف عن هويته الحقيقية، وبعد وثوقهم به راح يصور عمليات التهريب سرا، وأحياناً باستخدام كاميرا خفية دون أن ينسى عرض تفاصيل الحياة في المدينة.

يرافق الوثائقي مراسم دفن شاب مكسيكي قُتل على أيدي تجار المخدرات

 

موت.. وفساد شرطة

يرافق الوثائقي مراسم دفن شاب مكسيكي قُتل على أيدي تجار المخدرات، ومن خلال حديث والدته يتضح حجم البشاعة والبربرية المستخدمة في عملية قتله في وضح النهار، وخوفها على بقية أولادها من مواجهة نفس المصير يدفعها للتفكير بترك المدينة والانتقال إلى مكان آخر.

الخوف يسيطر على المدينة، وفي كل زواياها يكمن خطر الموت، فالعصابات المسيطرة عليها بالكامل لا تتردد بتصفية أي شخص لا يتوافق معها، حتى رجال الشرطة يخافون من انتقامها، ومن تجليات انتشار العنف في المدينة ارتفعت نسبة عدد جرائم القتل فيها سنويا إلى مستويات أضحت معها من بين أكثر المدن عنفا في العالم، مما دفع قناة “أن فيفو” التلفزيونية لتخصيص كل برامجها اليومية لنقل أخبار الجريمة وعمليات ملاحقة العصابات.

لكن المشكلة الأكبر لا تكمن في ضعف سيطرة الدولة على ما يجري فيها من جرائم فحسب، بل في انعدام ثقة الناس بالشرطة والأجهزة الأمنية، فكثير من رجالاتها متواطئون مع العصابات، وقسم منهم يعمل لصالح الطرفين.

يرافق الوثائقي الشرطي المكسيكي “ميغيل” طويلاً، فهو لم يخفِ أمام الصحافي عمله نهارا مع الشرطة وليلا مع عصابات “سينالواز”، ويقوم بنفسه بنقل شحنات من الكوكايين إلى داخل الولايات المتحدة الأمريكية.

يكشف كلامه التعاون الجاري بينه وبين بعض رجال شرطة الحدود الأمريكية مقابل حصولهم على رشاوى كبيرة من زعماء العصابات. قبل مرافقة الوثائقي لـ”ميغل” في رحلته بسيارته الخاصة لنقل عدة كيلوغرامات من الكاكويين إلى نيويورك، ينتقل إلى الجهة الأمريكية من الحدود ليصور عمليات التفتيش في واحدة من أكثر نقاطها ازدحاما.

لا يريد الوثائقي خلق انطباع خاطئ عن الشرطة المكسيكية واتهامها كلها بالفساد

 

 

شرطة حدود مُختَرقة

عند مدخل المعبر البري لمدينة “إلباسو” الأمريكية تجري عملية تفتيش دقيقة للقادمين إليها من الجهة المكسيكية. الكاميرات المتطورة تُصور وكلاب التفتيش لا تتوقف عن شم كل ما يعرض أمامها، فيما تجري عمليات المسح الإشعاعي لهياكل السيارات على مدار الساعة، بحيث يصعب تصديق إمكانية تمرير أي كمية من المخدرات أو الأسلحة عبرها. الضعف كما يكشفه الوثائقي ليس في أنظمة التفتيش بل في المفتشيّن أنفسهم.

إلى نقطة التفتيش يصل الشرطي “ميغل” ومعه أربعة كيلوغرامات من الكاكويين، وينتظر تعليمات الطرف الثاني، فيحصل على إشارة للانتقال إلى الخط المزدحم، ومن هناك يَعبر النقطة دون تفتيش، فقد سهل شرطي في الحدود الأمريكية مهمة دخوله مع “البضاعة” مقابل المال وسيبقى أمام الوثائقي المضي معه حتى نهاية رحلته إلى نيويورك.

في “إلباسو” يقابل الشرطي أحد تجار المخدرات الأمريكيين ويسلمه قسما من البضاعة. تصرفات الرجل لا تشي بخوف، فهو يقوم بعملية التبادل في بيته وداخل مرآب السيارات، ويشرح للصحفي المتنكر آلية بيعه للمخدرات وأساليب تضليله للشرطة. من هناك سيتابع المكسيكي رحلته إلى منهاتن ليبيع الجزء المخصص لها من حمولته. ومع طول الرحلة الممتدة آلاف الكيلومترات لم يقابل السائق أي صعوبات، فقد وصل إلى المدينة المزدحمة وأقام في فندق ومن هناك اتصل بالعملاء، وفي غضون ساعات باع ما قيمته ٥٠ ألف دولار وقرر العودة إلى سيوداد خواريز ليلاً.

وثائقي “سيوداد خواريز – نيويورك.. طريق الكوكايين الجديد” المنتج للعرض التلفزيوني، فيه الكثير من عناصر صناعة الوثائقي السينمائي

 

الأسلحة تَمُر.. المهاجرون يُمنعون

الشرطي الفاسد لا يكتفي بكونه وسيطاً مضموناً لتجار المخدرات، بل هو يعمل أيضا كناقل ومورد للأسلحة، فرجال العصابات في حاجة دائمة إلى تأمين كميات كبيرة منها.

يرافق الشرطي هذه المرة في رحلة شراء أسلحة من قرية مكسيكية نائية، فقد طلب من مهربي السلاح عددا من البنادق الأوتوماتيكية والمسدسات الأمريكية الصنع، وبعد ساعات حصل على كل ما أراد، وسَلّم البضاعة وقبض “أجره” من المحاسب.

سهولة نقل المخدرات والأسلحة دفعت الصحفي لطرح أسئلة على بعض ضباط الحدود عن تقييمهم لعملهم. ومن خلال إجابتهم يظهر أن تركيزهم الأساسي ينصب على المهاجرين المكسيكيين أكثر من أي شيء آخر، فالدوريات السيارة والحواجز السلكية والجدران الفاصلة يراد بها الحد من الهجرة.

وفي سؤال عما إذا كانت أعداد المتسللين عبر نقاط الحدود كثيرة، يعترف أحد الضباط بضآلة أَعدادهم، فهم يسلكون عادة الطرق الجبلية المجاورة وبالتالي يفقد التفتيش الدقيق معناه، لأن المخدرات في ظل وجود شرطة فاسدة ستجد طريقها إلى داخل البلاد، فيما تنجح دورياتهم في منع الفقراء المتطلعين إلى حياة أفضل لهم في الجهة الثانية من الحدود.

لا يريد الوثائقي خلق انطباع خاطئ عن الشرطة المكسيكية واتهامها كلها بالفساد، فيذهب لمقابلة ضباط منها يعملون بضمير حي، فمن المشاكل الجدية التي تواجه غير الفاسدين منهم هي عدم ثقة الناس بهم، فسمعتهم السيئة تلغي جانبا من تضحياتهم، وقسم غير قليل منهم تتم تصفيته من قبل تجار المخدرات.

ولتأكيد تلك الحقيقة ينهي الوثائقي زمنه بلقطة يظهر فيها شرطي يقف بجانب جثة زميل له قُتل برصاص مجهولين، وعلى مقربة منه رُفعت لافتة كتب عليها أسماء الرجال الذين سقطوا أثناء ملاحقتهم للعصابات، لكن الوثائقي ينتبه إلى وجود عبارة كُتبت فوق حافتها العليا باللون الأحمر، تُذكر الشرطة بقوة نفوذها وتنفيذ وعودها بالانتقام مِن كل مَن يقف في طريقهم: “طريق الكوكايين الجديد” الملىء بالفساد والآلام.