“طريق الكوكايين السريع”.. رحلة من الأمازون إلى باريس عبر القارات الثلاث

قيس قاسم

كرّس الصحفي الاستقصائي الفرنسي “تيري غاتيان” 15 عاما من عمره للكشف عن الأساليب والطرق السرية التي تمر بها عمليات تهريب المخدرات، وبشكل خاص “الكوكايين” الذي يصل إلى باريس ويُباع في شوارعها بأثمان غالية جدا تصل إلى آلاف الأضعاف عن سعر إنتاجه في الموطن الأصلي.

عملية بيع “الكوكايين” والاتجار به غدت عادية في باريس، فقد أضحت من أكثر المدن الأوروبية استهلاكا له، مما دفع الصحفي الذي نشأ في كولومبيا لتوثيق رحلة الكوكايين من منبته حتى وصوله إلى أوروبا عن طريق التسلل إلى أوكار المهربين، وذلك من خلال صديق طفولة له كولمبي الأصل احترف تجارة المخدرات ويحظى بثقة زعمائها، الأمر الذي شجع “غاتيان” على مفاتحته وطلب مساعدته للوصول إلى “المنبع”، على أن يلعب الصديق دورا ثانويا في عملية التوثيق تجنبه المخاطر، بينما سيتولّى هو بنفسه التصوير بكاميرا مخفية عن الأنظار.

 

باريس المدمنة.. استهلاك للكوكايين بسعر مُضاعف

يقرر الصحفي الشروع في وثائقيه “طريق الكوكايين السريع” بدءا من رصد عمليات البيع في مدينة باريس، حيث يتعرف على تاجر مخدرات يسميه “كيفن” للتمويه على شخصيته الحقيقية، ثم يرافقه بكاميرا خفية داخل نادٍ ليلي يوزع فيه تجارته على زبنائه، فيخبره التاجر أنه يبيع الغرام الواحد من الكوكايين بـ80 يورو.

بعد ساعتين يستنفذ “كيفن” كل بضاعته ويعود إلى بيته، فليس غريبا -وفق الإحصائيات التي يوردها الوثائقي- أن يبيع التاجر بضاعته بتلك السرعة، فهناك حوالي 2 مليون فرنسي جرب مرة على الأقل تناول نوع من المخدرات، وهناك 600 ألف مدمن مُسجل رسميا في الدوائر الرسمية، إلى جانب شدة الإقبال على استهلاكه؛ مما يضاعف سعر الكيلو الواحد منه إلى ما يقارب 3000 مرة عن سعر تكلفته الأصلية.

صورة لقلب أحراش منطقة “ميديلين” الكولومبية، والتي تُعد من أكثر المساحات زراعة لأشجار الكوكا في العالم

 

غابات الأمازون.. نقطة الانطلاق على خارطة التهريب

أول النقاط المُعلَمة على خارطة تهريب الكوكايين ستكون غابات الأمازون المطيرة، وفي قلب أحراش منطقة “ميديلين” الكولومبية، حيث تُعد هذه المنطقة من أكثر المساحات زراعة لأشجار الكوكا في العالم.

بالنسبة للجهات الرسمية هذه منطقة زراعية يعيش فلاحوها على زراعة أشجار الكاكاو، أما في السر وبعيدا عن أنظار رجال الشرطة فتجري زراعة الكوكا على نطاق واسع، وتجري عمليات تحويل أوراقها كيميائيا إلى خامة الكوكايين داخل غابات كثيفة لا يمكن الوصول إليها بسهولة.

يبيع المزارعون كيسا واحدا من أوراق الكوكا بسعر 10 يورو للتجار، ويُعد هذا مبلغا جيدا بالنسبة لفقراء المزارعين بالمقارنة مع بقية أسعار الغلات الزراعية.

في الطريق إلى الميناء الذي يُشكل موقعه مثلثا تجمع أطرافه ثلاث دول هي كولومبيا والبيرو والبرازيل، والمفتوح للمهربين

 

رحلة التهريب.. مغامرة نهرية على الحدود الثلاثية

يصور الوثائقي الفرنسي تفاصيل تحويل الأوراق الخضراء إلى طحين أبيض، ويكتشف خطورة المواد المستخدمة لإتمام عملية التصنيع، ففي المختبر البدائي داخل غابات الأمازون يُضاف إلى عُصارة الكوكا مادة “الإسمنت” المستخدمة في البناء إلى جانب البنزين، وللتخلص من رائحته يضيفون للخلطة مواد أخرى لا تقل عنها ضررا على صحة الإنسان، وبعد تحويله إلى طحين يُنقل الكوكايين إلى ميناء ليتشا النهري جنوب كولومبيا.

للوصول إلى الميناء -الذي يشكل موقعه مثلثا تجمع أطرافه ثلاث دول هي كولومبيا والبيرو والبرازيل- يسير ناقلو البضاعة عبر الغابات المطيرة ليلا، فالحمولة تصل أولا إلى البيرو، ثم تنتقل إلى البرازيل، وإلى البيرو تجري عملية النقل بالقوارب النهرية.

يلاحظ صانع الوثائقي سهولة تنقل المهربين وسط النهر في ظل الغياب الكامل للشرطة، أما على اليابسة فيقابل الوثائقي مُهرِّبا يُدعى “مانغويل”، ومهمته إيصال المخدرات من البيرو إلى البرازيل بعد تجميعها في قوارب، ورغم سعة الحمولة التي تصل إلى 500 كيلو غرام، فإنهم ينجحون في الوصول إلى مدينة ساو باولو.

طيلة الرحلة يرافق المهربين وسيط من قبل زعماء تجار المخدرات، ومهمته مراقبة سير العملية ومنع أي خطأ فيها، فثمن الخطأ فادح، وهو رؤوس المهربين دون تردد. يلاحظ في توثيق هذا المقطع المثير من الوثائقي استخدام صانعه العدسات الليلية حتى لا يفوّت أي تفصيل فيها، وأيضا ليعطي تسجيله مزيدا من المصداقية وقوة الحجة.

في شقق سرية تجري تعبأة المسحوق الأبيض في وسائط خاصة وحقائب سفر يجري تكييفها لنقل المخدرات داخل دعائمها الحديدية

 

شقق الدار البيضاء السرية.. محطة استراحة على مشارف أوروبا

بعد وصول البضاعة سالمة إلى ساو باولو يجري الإعداد لتهريبها إلى أوروبا عن طريق أفريقيا، وفي شقق سرية تجري تعبأة المسحوق الأبيض في وسائط خاصة وحقائب سفر يجري تكييفها لنقل المخدرات داخل دعائمها الحديدية.

يوثق فيلم “طريق الكوكايين السريع” عملية تهريب شحنة من المخدرات جوا بكاميرته الخفية، والناقلة لها اسمها المستعار “كارمن”، وتحمل جواز سفر أرجنتينيا مُزوّرا، وتنتحل شخصية سائحة في طريقها إلى مدريد عبر مطار محمد الخامس في المغرب، لكنها لا تشعر بالخوف من المغامرة، فقد سبق لها أن جربت التهريب ونجحت.

في الليل تصل “كارمن” إلى الدار البيضاء، وهناك يتوقف الوثائقي طويلا ليتعرف على أساليب الشرطة المغربية في مراقبة وتفتيش المسافرين المشكوك بهم، فيتحدث مع ضابط مختص للحديث عن جهود الجمارك في محاربة التهريب.

في المغرب تُجرى للمشتبه بهم عمليات تيتيش عن المخدرات من قبل رجال الجمارك هناك، حيث تُستخدم أشعة ليزر كاشفة للجسد

 

رجال الجمارك المغربية.. جهود مثمرة وما خفي أعظم

يقوم أحد رجال الجمارك المغربية باصطحاب صانع الوثائقي إلى غرف خاصة كُدّست فيها كميات كبيرة من المخدرات المصادرة، وعثر عليها في حقائب المهربين أو في أجسامهم. تجري للمشتبه بهم عمليات تفتيش دقيقة تستخدم فيها أشعة ليزر كاشفة للجسد، إلى جانب كلاب مدربة لغرض التعرف على المخدرات.

يكشف الوثائقي الجهد المبذول من قبل رجال الجمارك ووحدات مكافحة المخدرات المغربية في الحد من عمليات التهريب المارة عبر مطارات البلد، لكن من المؤكد أن قسما منها ينجح في العبور، وتجربة المهربة “كارمن” واحدة منها.

الوثائقي يحاول ملاحقة “كارمن” بكاميرا خفية عبر مصاحبة أحد المهربين يسمى المراقب في مدريد

 

تفتيش في مطار مدريد.. عقوبة التهريب على التراب الإسباني

يحاول الوثائقي في مدريد ملاحقة “كارمن” بكاميرا خفية عبر مصاحبة أحد المهربين يسمى المراقب، وتتمثل مهمته بالتأكد من سلامة وصول السائحة إلى الفندق بعد تجاوزها إجراءات التفتيش في المطار الإسباني من دون مشاكل.

تخرج “كارمن” وهي تجر الحقيبة الصغيرة التي خبأت داخلها مخدرات وزنها 800 غرام، بينما يتأكد المراقب من عدم ملاحقة الشرطة المدنية لها، ثم بعد ذلك يأخذ الحقيبة منها ليوصلها إلى باريس. تتقاضى حاملة الحقيبة مبلغا قدره 7000 يورو، وتنتهي مهمتها عند هذا الحد، أما المراقب فإنه يؤمن وصولها إلى نهاية خط سيرها.

يكشف الوثائقي أن سعر الكيلوغرام الواحد من الكوكايين يصل في إسبانيا إلى حدود 24 ألف يورو، لكن المراقب يخبره أن المخاطر المصاحبة لبيعها ليست قليلة، فقد ألقت الشرطة الإسبانية القبض على زوجته المُهرِبة وحُكم عليها بالسجن لمدة ٣ سنوات، ومعها في السجن ابنته (6 سنوات) التي حُرم من رؤيتها، كما تحطمت عائلته بأكملها.

“كيفن” يغش الكوكايين النقي بإضافة 20% من مواد كيميائية يدّعي أنها لغرض تقليل قوتها مراعاة لصحة المستهلك

 

رقيب باريس النائم.. وصول المخدر إلى أيدي المدمنين

نهاية السلسلة أن تصل المخدرات إلى “كيفن” الذي يتسلمها في باريس ويقوم بغشها من خلال إضافة 20% من مواد كيميائية يدّعي أنها لغرض تقليل قوتها مراعاة لصحة المستهلك، لأن الكوكايين النقي -حسب ادعائه- قوي لا تحتمله أجسادهم.

وبينما يدلي بمعلوماته للصحفي يتناول بنفسه جرعات من المخدر النقي، ويرتب مع زبناء يحجزون حصتهم عبر الهاتف مواعيد استلام طلباتهم، ومعظم الزبناء يتواصلون معه عبر مفاتيح خاصة (كودات) متفق عليها بينهم، وذلك تجنبا لمراقبة الشرطة وملاحقتهم.

يسأل الصحفي ما إذا كان “كيفن” يشعر بالخوف وهو يقوم بهذا العمل غير القانوني؟ فيجيب “أقصى عقوبة هي السجن، وقد جربته سابقا”. أما عن طبيعة زبنائه فيخبره أنهم من كل فئات الشعب من العمال والأثرياء ومن كل الطبقات.

إلى الشارع ينزل الصحفي ليلا مع المُهرّب ليصور عمليات البيع والشراء التي تجري بشكل اعتيادي، مما يثير لديه تساؤلا عن دور الشرطة ومكافحة المخدرات في كل ما يجري.

رغم أسئلته المشككة فإنه ينجح في وضع خارطة دقيقة لعمليات تهريب الكوكايين من المنشأ إلى المستهلك الأوروبي عبر القارة الأفريقية، وبها يُحيل المُشاهِد للتفكير بأهمية الوثائقي وقدرته على كشف الكثير من الخفايا والأسرار.