“طريق بوتين إلى الحرب”.. طموح القيصر الحالم باستعادة الأمجاد التاريخية

يقدم المخرج الأمريكي “مايكل كيرك” في فيلمه الوثائقي “طريق بوتين إلى الحرب” (Putin’s Road to War) وصفا تاريخيا وتحليلا لمسار صعود الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” إلى دفة الحكم، وبروز نزعته القومية التوسعية، وحلمه في استعادة مجد روسيا التاريخي، من خلال استرجاع مكانتها التي خسرتها بعد حرب باردة طويلة مع الغرب، وذلك عبر إخضاع بقية الدول التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي سابقا لسيطرته، وضمها مُجددا لروسيا التي يحلم أن يكون قيصرها الجديد، ويُلقب على غرار من سبقه من القياصرة بـ”العظيم”.

حلمه أن يكون “بوتين العظيم” هو ما أوصله إلى إعلان الحرب على أوكرانيا، بعد أن تيقن بأنه أضحى الحاكم الأوحد في روسيا، وأن باستطاعته تحقيق ما يريده بكل السبل بما فيها إشعال الحروب.

ينقل الوثائقي في مفتتحه المشهد الذي يظهر فيه الرئيس بوتين مجتمعا مع أعضاء مجلس الأمن الروسي في قاعة واسعة يجلس هو فيها بعيدا عنهم بأمتار. يبدو لحظتها وكأنهم تلاميذ يجلسون أمام مدير مدرستهم، حيث طلب منهم الموافقة على إعلان حربه على أوكرانيا، ولمعرفته بموقف مدير مخابراته المتردد من خوض مغامرة غير محسوبة العواقب، فقد تعمد إذلاله أمام عدسات كاميرات التلفزيون التي كانت تنقل الاجتماع.

في تلك اللحظة تيقن المحللون السياسيون بأن الحرب أضحت وشيكة، وأنها في حقيقة الأمر حربه الخاصة لا حرب الأمة الروسية كما يزعم.

بعد أيام شنت روسيا هجومها على أوكرانيا، وبدا واضحا أن الرئيس “بوتين” قد خطط لها منذ زمن بعيد، واضعا في حساباته أن نصره فيها سيكون الخطوة الممهدة لتحقيق حلمه في استعادة الإمبراطورية الروسية مجددا.

سقوط الاتحاد.. عودة ضابط المخابرات المثقل بأذيال الخيبة

لم يكن طموح بوتين في السيطرة والهيمنة وليد اللحظة. هذا ما يؤكده عدد من المشاركين في الوثائقي جُلّهم من المختصين بالشأن الروسي والمتابعين لمسيرته السياسية والمهنية التي بدأها كضابط في جهاز المخابرات السوفيتية “كي جي بي”، فقد تربى داخله على مراقبة الآخرين والعمل بكتمان وسرية دون فضح الأهداف علانية.

ومثل بقية المنضمين للجهاز كان على قناعة بأنه يدافع عن الدولة السوفياتية من خلال كشف المؤامرات والأخطار المحيطة بها. ولأهمية وتأثير وظيفته على مسار حياته، يرتب الوثائقي جزءا مهما من تاريخه الشخصي ومسيرته السياسية وفقها، فينطلق من الفترة التي عُيّن فيها عميلا سريا في الجهاز يراقب تحركات المعارضين للنظام السوفياتي.

في ألمانيا شهد فلاديمير بوتين بداية نهاية الاتحاد السوفيتي

وبعد فترة قصيرة من عمله داخل البلاد كُلف بالعمل كجاسوس في مدينة درسدن الألمانية. وفي نهاية ثمانينيات القرن المنصرم وخلال وجوده في ألمانيا الشرقية شهد بأم عينيه سقوط جدار برلين، وسمع بأذنيه أخبارا تفيد بانهيار الاتحاد السوفياتي والنظام الذي آمن بقوته، وحتمية انتصاره على الغرب.

رحلة التغلغل في دهاليز السياسة.. دهاء العميل الكاذب

يعود العميل السري “بوتين” محبطا إلى بلده، ومثقلا بشعور الإذلال الشخصي الذي سيرافقه طويلا ويدفعه للتفكير في العمل السياسي لإعادة بناء ما سقط، وتكشف الأيام عن قدرته في التوافق والعمل مع البيروقراطية الحزبية التي تَميز بها الحزب الشيوعي السوفياتي، وظل قادته ملتزمون بها.

يخطط “بوتين” بدهاء جاسوس سابق للتقرب من القادة الجدد الذين تبنوا خيار التغيير والسير في نهج الديمقراطية، حيث يعلن كذبا في الظاهر عن إيمانه بأهدافهم، وفي الباطن كان يكره هذا التوجه. كذبه وعدم إظهار ما يشعر به أمام الآخرين ساعده على التقرب خلال فترة تسعينيات القرن المنصرم من الرئيس الروسي “بوريس يلتسين”.

كان الرئيس “يلتسين” يريد التخلص من النظام الشمولي ومن الإرث الشيوعي بأسرع وقت، وقد أوحى له “بوتين” بأنه قادر على مساعدته لتحقيق تلك الأهداف، فصدقه وعيّنه رئيسا لجهاز المخابرات الجديد “إف إس بي”، وقد ساعده كذبه واحترافه العمل البيروقراطي على نيل ثقة الرجال المحيطين بالرئيس، ثم ثقة الرئيس نفسه، حتى عينه عام 1999 رئيسا للوزراء.

“من هذا؟”.. حرب وحشية للتعريف بالقائد الجديد

لم يكن “بوتين” معروفا للعامة كسياسي، ولم يسمع به أحد من قبل، لهذا لازم تعيينه سؤال واحد: مَنْ هذا؟

بوتين نجح في تقديم نفسه أمام الشعب عبر شاشات التلفزيون كقائد عسكري قادر على وضع حد للفوضى

إنه سؤال كان على “بوتين” مواجهته بجواب حاسم يقنع به الناس وقادة البلد.

يلاحظ المحللون السياسيون المشاركون في الوثائقي بروز ظاهرة الانفجارات التي ترافقت مع تعيينه ونُسبت إلى الانفصاليين الشيشان، فقد وجد في تحركهم ودعوتهم للاستقلال عن روسيا فرصة مناسبة لاختبار قدرته على قيادة البلد، حيث ظهر على شاشات التلفزيون متوعدا بالنيل من الإرهابيين كما يسميهم، وأمر الطيران الروسي بقصفهم دون رحمة، وبعد هجوم جيشه الوحشي على المنطقة وسكانها، نجح في تقديم نفسه أمام الشعب عبر شاشات التلفزيون كقائد عسكري قادر على وضع حد للفوضى، وتأمين سلامة المواطن الروسي.

وبعد مرور أشهر قليلة على تدخله العسكري في الشيشان أصبح رئيسا للبلاد.

عالم التلفزيون.. مسرح الديكتاتور المهوس بالظهور

يرى مشاركون في الوثائقي أن قساوة “بوتين” ووحشيته في التعامل مع الانفصاليين تشبه تعامل جيشه اليوم مع الشعب الأوكراني. لقد اتخذ من القوة والقسوة منهجا لتحقيق حلمه وبسط نفوذه. ويضاف إلى ذلك هوسه بالتلفزيون.

لمعرفته بقوة تأثيره راهن “بوتين” كثيرا على التلفزيون، فصار يُكثر من الظهور على شاشاته، يروج لشخصه من خلاله، ويقدم نفسه للجمهور الروسي كقائد مغيّر لواقعهم نحو الأفضل، ومنقذ للأمة الروسية المهددة من قبل الغرب بالذل والهوان.

وللسيطرة على البث التلفزيوني أمر بإيقاف قناة “إن تي في” المستقلة التي كانت تقدم برامج ساخرة تنتقد فيها السياسيين وهو من بينهم، فقد أمر باعتقال مسؤولها، وعيّن شخصا مواليا له مكانه.

إغلاق القنوات التلفزيونية المستقلة المنتقدة لبوتين المهوس بالظهور ولبقية السياسيين الروس

يشعر الرئيس “بوريس يلتسين” بعد كل ذلك بالندم على الثقة التي منحها لشخص خدعه وأوحى إليه بأنه ديمقراطي في أعماقه، لكنه يظهر الآن كديكتاتور لا يتحمل نقدا. يعترف الرئيس السابق بخطئه، لكن الوقت أصبح متأخرا لتصحيحه.

مجزرة بسلان.. فلسفة الحاكم الأوحد العنيف

تأتي حادثة رهائن مدينة بسلان أو “مجزرة بسلان” كما سميت لاحقا لتعزز الانطباع الذي راح يتشكل حول “بوتين” كرئيس ديكتاتوري عديم الرحمة، فقد أمر قادة الفرق العسكرية الخاصة باقتحام المكان بالقوة لتحرير الرهائن المحتجزين داخل بناية مدرسة، كما أمرهم بإطلاق النار من الأسلحة الثقيلة دون اعتبار لوجود مدنيين داخله.

وقد أدى الحريق الذي نشب في المدرسة بسبب نيران الأسلحة إلى وفاة أكثر من 300 رهينة بينهم أطفال.

وعلى المستوى السياسي يعمل “بوتين” على تغيير اللعبة الانتخابية ويحصر الترشيح وترتيبه بالكرملين، فقد أصبح البرلمان في عهده شكليا، والكرملين بقيادته هو الحاكم الفعلي للبلد.

قساوة تعامله مع المعارضة جانب آخر يهتم به الوثائقي، وعبر ممارساته الشنيعة ضدهم تتعزز صورته كرجل يستغل كل فرصة لتعزيز مركزه، ولا يتوانى عن قمع كل صوت يقف في وجهه. هكذا تعامل مع رغبات الشعوب والدول الراغبة في الاستقلال من الهيمنة السوفياتية، ووصفها استهزاء بـ”الثورات الملونة”.

اجتماع ميونيخ.. تهديدات تمهد لحروب جديدة

يتوقف الوثائقي عند تجربة جورجيا وأوكرانيا قبل الحرب، ويقدمها المشاركون كمثال ساطع على رفضه الاعتراف باستقلال تلك الجمهوريات، بل يعتبرها تابعة لروسيا التي يريد أن يعيد سطوتها التاريخية مجددا، كما يذهب الوثائقي لبلدان أخرى مثل سوريا التي لعب جيشه فيها دورا سيئا، مساندا لسلطة قمعية تقف ضد طموحات شعبها.

وعلى المستوى الأوروبي ودوره في الانتخابات الأمريكية التي أوصلت “ترامب” للبيت الأبيض؛ يقدم صانع الوثائقي -المعروف بقدرته على الإحاطة الكاملة بالموضوع الذي يتناول سينمائيا- صورة دقيقة عن كراهيته للديمقراطية وقيمها، وكيف يعمل على إظهار عيوبها وكأنها نتيجة منطقية لمسارها الأصلي.

صورة تجمع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” بالرئيس الأمريكي الأسبق “دونالد ترامب” الذي برأه من تهمة التدخل في الانتخابات لصالحه ضد الحزب الديمقراطي

لقد أراد مساواة ديكتاتوريته بها، وهذا ما ظهر جليا في اجتماع ميونيخ عام 2017 مع قادة الدول الصناعية، فقد هاجم خلاله أمريكا بقوة، وبدا وكأنه يُمهّد لحروب جديدة يريد إخافة الغرب ومنعه من الوقوف ضدها، لقد استغل رخاوة الرؤساء الأمريكيين في التعامل معه، وقد تجسد ذلك بشكل واضح في علاقته بـ”دونالد ترامب” الذي برأه من تهمة التدخل في الانتخابات لصالحه ضد الحزب الديمقراطي.

“الرجال الخضر الصغار”.. عملية تنتزع القرم من الجسد الأوكراني

سمح التساهل الأمريكي والأوروبي لـ”بوتين” بتقديم نفسه كزعيم عالمي قوي واثق من عدم وقوف الغرب الخائف على مصالحه الاقتصادية، وبشكل خاص المرتبطة بالنفط والغاز الروسي ضده، وأنها ستسكت عن كل اجتياح جديد يقوم جيشه به ضمن حدود جغرافية الاتحاد السوفياتي السابق.

“الرجال الخضر الصغار” من الجنود غير المسلحين يسيطرون على القرم

تجربته في اجتياح القرم زادت من قناعته تلك، فقد أنزل مجموعة صغيرة من الجنود غير المسلحين، سيطلق عليهم فيما بعد تسمية “الرجال الخضر الصغار”، وقد قاموا بالسيطرة على مقرات الوحدات العسكرية ومراكز القيادة فيها، ثم تبعها إعلان موسكو للقرم منطقة مستقلة عن أوكرانيا وتابعة لها.

كل ذلك شجعه على التفكير بضم أوكرانيا التي لم يرَ فيها أبدا دولة مستقلة، بل هي بالنسبة إليه مجرد جزء تاريخي من الأراضي الروسية.

تراخي الغرب.. إشارة خضراء لجيوش القيصر الطموح

في السياق الأوكراني يسلط الوثائقي الضوء على دوره في تشجيع الانفصالين في شرق أوكرانيا على إعلان استقلالهم عنها، مُدعيا كذبا عدم تورطه في هذا الأمر، وأن الرغبة في الانفصال ناتجة عن سياسة تمييز أوكرانية أساءت معاملة الأقلية الروسية في تلك المناطق.

يرصد الوثائقي ردود الفعل الأمريكية الضعيفة في عهد الرئيس “باراك أوباما” على تدخلاته السافرة في دول الجوار، واكتفاء إدارته بالعقوبات الاقتصادية غير المجدية، كما وجد في قرار الرئيس “جو بايدن” سحب جيشه من أفغانستان مؤشرا على عدم رغبته في التدخل العسكري ثانية في مناطق خارج الولايات المتحدة الأمريكية.

الموقف الأمريكي المتسم بالرخاوة هو ما يشجع بوتين على التوسع والسيطرة وإعلان الحرب

قراءة “بوتين” الخاصة للموقف الأمريكي المتسم بالتراخي، ورهانه على أنانية الدول الأوروبية، وبشكل خاص تلك المعتمدة بشكل كبير على النفط والغاز الروسي؛ حفزته على التدخل العسكري في أوكرانيا من دون خوف ولا خشية من ردود أفعال حادة ضده. لقد وجد في احتلال أوكرانيا فرصة سانحة لتحقيق حلمه الإمبراطوري.

يخرج الوثائقي بعدها باستنتاجات مخيفة تؤكد أن احتمال تراجع بوتين السريع عن حلمه في السيطرة على أوكرانيا غير وارد بسبب كل ما قدمه عن طبيعته كديكتاتور لا يعرف الرحمة.

إزاء هذا الاستنتاج والتوصيف الدقيقين يأتي السؤال التالي: ما هو الثمن الذي ستدفعه أوكرانيا والبشرية من أجل إيقاف طموح رجل لا تهمه أرواح الناس ولا مصائر الدول، بقدر ما يهمه أن يُسجل اسمه في كتب التاريخ إلى جانب أسماء القياصرة الروس العظام.