“طعم الأمل”.. ثورة عمالية تحرر المصنع من قبضة الرأسمالية

عبد الكريم قادري

عام 2010 دخل عمال مصنع الشاي “فراليب” (Fralib) جنوبي فرنسا إضرابا شاملا استمر 1336 يوما، وانتهى بانتصار الحركة العمالية على شركة “يونيليفر” (Unilever) المتعددة الجنسيات التي تملك المصنع، وأصبحوا المُسيّرين له بقوة القانون.

وعليه أسسوا تعاونية لإدارته واستئناف نشاطه من جديد، وهي سابقة في تاريخ المصانع الأوروبية التي تعتمد على مبدأ الرأسمالية، ليبدؤوا في إنتاج الشاي من جديد تحت رمز (1336) تيمنا بعدد أيام الإضراب، ليتحوّل الأمر إلى قدوة تُهدد المصالح الكبرى للشركات من طرف اليسار النقابي الذي بدأ التأسيس لمنهج جديد، فهل سينجحون في مواجهة تغوّل الرأسمالية؟

تناول الوثائقي السويسري الألماني “طعم الأمل” (Taste of Hope) -الذي أنتج عام 2019- هذا الموضوع بالتفصيل، بعد أن تتبعت المخرجة “لورا كوبينز” أحلام وكوابيس عمال المصنع لأكثر من سنتين، حتى ترى كيفية تعاملهم مع العراقيل التي تواجههم بعد أن أصبحت إدارة المصنع في يدهم.

 

نقص السيولة المالية.. عقبات في طريق الثورة

وقف الفيلم على جملة من الأسئلة المتعلقة بطبيعة مهنة عمال المصنع من جهة، ومن جهة ثانية طرح أسئلة في غاية الأهمية تتعلق بجوهر العمل وقيمة الإنسان وحاجته الماسّة إلى مُسيّر وموجّه يكون حاسما في اتخاذ القرارات بعيدا عن أي عاطفة يمكن أن تكبح هذه القرارات، وهو الأمر الضبابي في هذا المصنع، بحكم أن توجههم اليساري يعتمد على العمل الجماعي.

لكن الأسواق شرسة جدا تحتاج إلى يد من حديد، ومواقف جريئة جدا من أجل إيجاد طريق يوصل إلى تسويق هذا المنتج والعثور على حلول عملية لرفع الإنتاج لتسديد أجور العمال والاستمرار، خاصة وأنهم سيطروا كليا على المصنع والشركة وخطوط الإنتاج، وتجاوزوا فترة الاحتفال بنجاحهم على عنجهية شركتهم العملاقة المتعددة الجنسيات، وأصبحوا أسياد المصنع بعد سنوات من النضال المستمر.

لكن الإيمان بمبادئ معينة شيء وتسيير العمل وضمان استمراره شيء ثان، لهذا كان الرهان صعبا عليهم في ظل نقص السيولة المالية التي أعاقت سير مشروعهم وطموحهم، كما أن منتجهم مرتفع الثمن مقارنة بباقي المنتجات، لهذا يتعين عليهم أن يكونوا أكثر إبداعية إن أرادوا الاستمرار والمحافظة على رواتبهم.

كان على العمال أن يبحثوا عن طريقة جديدة لتغيير أشكال العلب، وابتكار نكهة جديدة للشاي وإقامة خط توزيع جديد والبيع بالتجزئة، وتلك تفاصيل يجب أن يخلقها مختصون في هذا المجال، وهو أمر لا تملكه هذه الشركة التي تبحث عن موطأ قدم لها في سوق لا يُحابي، ويملك قاعدة بيانات معينة يعتمد عليها المستهلك.

لهذا ذهبوا إلى الميدان ووقفوا بأنفسهم على ما يمكن أن يوفرونه لتغيير خارطة الإنتاج والمنتج، فبدؤوا ثورة التغيير التي أعقبت ثورة المقاومة، ليقوموا بتدويل قضيتهم إعلاميا، وفتح المجال أمام تقديم التبرعات لتوفير السيولة المالية المناسبة لتحقيق الأفكار الجديدة حول المصنع، وتسويق المنتج بشكل واسع يضمن لهم الربح حتى يستمروا في دفع الأجور وتوسيع دائرة العمل من جديد.

صورة لـ”تشي غيفارا معلقة على حائط الاستقبال في المصنع، وهو ما يدل على تبني العمال للفكر الاشتراكي والاتجاه الثوري

 

قاعة اجتماعات “كاسترو”.. مواجهة بين الاشتراكية والرأسمالية

يرتكز توجه عمال مصنع الشاي أيديولوجيا بعد نضالهم أربع سنوات كاملة على المبدأ الاشتراكي والفكر الشيوعي الذي أرسى قواعده المفكر “كارل ماركس”، فقد كان يدعو إلى العمل الجماعي والتساوي بين الأفراد، وذلك على عكس الرأسمالية التي تجاوزت هذا المصطلح ووصلت إلى “الإمبريالية”، وهي الكلمة التي كان يستعملها الثائرون في العالم من أجل مواجهة أولئك الذين يريدون الاستحواذ على خيرات الشعوب وقوتهم، وعلى رأسهم “تشي غيفارا” و”فيدل كاسترو” وغيرهم ممن أصبحوا رموزا لأي ثورة ومواجهة في العالم.

لهذا تزيّن المصنع بصور هؤلاء الرموز، إذ نرى صور “تشي غيفارا” في كل زاوية، كما سميت قاعة الاجتماعات على اسم الرئيس “كاسترو”، مما يؤكد بأن العمال يؤمنون فكريا بمبادئ الاشتراكية، ويريدون من النقابات العمالية الأخرى أن تتبنى هذا الخيار ليصبح نظاما اقتصاديا جديدا، بعد أن سلبت الشركات متعددة الجنسيات كل طاقاتهم وأعمارهم دون أن تقدم لهم الحقوق التي يستحقونها، لهذا حدث تجاوب كبير بين عمال المصانع الأخرى، حتى أنهم تبرعوا بمبالغ مالية كبيرة من أجل أن ينجح رهانهم، ليتحولوا إلى رمز ناجح يمكن أن يُعمّم.

وعليه فإن هذا الأمر تعدّى فكرة الصراع بين مجموعة من عمال مصنع الشاي ضد شركتهم التي تريد غلق المصنع إلى صراع على نظام اقتصادي جديد، ومواجهة محتدمة بين الفكر الاشتراكي والنظام الرأسمالي، لهذا توسعت الصراعات الخفية التي تحاول بشتى الطرق إجهاض أحلام هؤلاء الذي نجحوا في خلق تعاونية تسير المصنع، لكنهم لم ينجحوا كثيرا في تسويق منتج الشاي، لأن السوق يخضع لنظام توزيع واستهلاك ضبابي يلزمه الكثير من الوقت لفهمه والدخول له بأريحية، وهذا ما يسعى له العمال الذين يريدون فعلا أن يتحقق حلمهم في إعادة إحياء هذا المصنع من جديد.

لهذا بدؤوا في تسويق منتج محلي جديد وهو شاي الزنجبيل الذي يعكس هوية المنطقة، كما بدؤوا العمل على منتجات جديدة أكثر عضوية وبدون مواد كيميائية، بمعنى أنهم عرفوا جيدا مستوى المواجهة غير المتساوية بينهم وبين السوق، لهذا قرروا المنافسة والنجاح وإيجاد موضع قدم لهم في خارطة المستهلكين.

إحدى عاملات المصنع تتذوق نكهة الشاي الجديد الذي بدؤوا بإنتاجه في المصنع

 

فوضى القيادة المشتركة.. أصابع المخرجة الخفية

اعتمدت المخرجة “لورا كوبينز” في فيلمها “طعم الأمل” على منطلق المرافقة والمعايشة، ومن خلالها استطاعت توليد دلالات العمل ومنطلقاته الفنية التي تخدم التوجه الفكري للمخرجة، ومن جهة ثانية الفكرة التي عملت عليها، كما أنها فهمت شخصيات الفيلم وعرفت خياراتهم ووقفت عليها، ومن الغالب أن يؤمن المخرج بما يقدمه، وأكثر من هذا ينعكس توجهه في الفيلم.

وفي حالة هذا العمل فمن السهل معرفة عدم رضا المخرجة عن منطلق العمال وإيمانهم، وكأنها فقط تؤمن بنضالهم وحقهم في البحث عن طريقة أفضل للعمل، لكن ليس بتلك الطريقة، أي التسيير الجماعي، لهذا نجد الكثير من المشاهد والأحداث التي تستصغر ما يقومون به، مثل عدم مبالاة العمال وتهاونهم وعدم انضباطهم وبعض الفوضى، وذلك لعدم وجود مُسيّر قوي يصدر الأوامر دون تردد، وعدم وجود بديل في حالة مرض أي عامل أو توقف أي آلة، إلى غيرها من المعطيات السلبية التي لا تخدم العمال.

وإن كان تقديمها لهذه المعطيات جاء عن طريق المواربة والاختباء، لكن تلقف بعضها من المتلقي كفيل بأن يرسم صورة سيئة عن هذه التعاونيات، وبالتالي سيرفض منطلقها ومنطلق الاشتراكية التي تولد الفشل والفوضى وعدم المنافسة وقلة الكفاءة وضعف التسيير حسب هذا الطرح.

وكأن المخرجة تحاول أن تتعامل مع فكرة العمل بحيادية، وهو خيار سليم موجود في السينما الوثائقية، لكن هناك تغليب مدروس لجهة على أخرى، وتحريض على فكرة الابتعاد عن فكرة التعاونيات، لأنها أفكار عمالية عبثية لا تنعكس إيجابا على أرض الواقع، والدليل هذا ما يحدث في حالة وقعت أي مواجهة فكرية بين المنطلق الاشتراكي والمنطلق الرأسمالي.

 

كاميرا بين العلب.. تفاصيل صغيرة تصنع جمالية الفيلم

جاءت صور فيلم “طعم الأمل” منوعة ومختلفة، وقد استطاعت المخرجة “لورا كوبينز” أن تولّد منها جماليات ودلالات عميقة، خاصة من خلال اهتمامها بالتفاصيل الصغيرة التي سلطت عليها عدسة كاميراتها.

وأهم ما يمكن أن نذكره ونركز عليه في هذا الجانب هو بداية الفيلم التي قالت المخرجة من خلالها الكثير من الأشياء، ومهدت لموضوع الفيلم بطريقة ذكية، وهذا حين وضعت كاميرا التصوير على سكة المصنع التي تحمل علب التعليب.

حيث تنتقل الكاميرا من تفصيل إلى آخر وكأنها هي العلبة، وبالتالي عرف المتلقي الفضاء الذي ستدور فيه الأحداث، كما عرف طبيعة ووظيفة العمال وحاجتهم وعالمهم، فقط هذا الاستعمال الذكي للكاميرا وطريقة تموضعها وزوايا التصوير هو ما خلق هذه الجماليات.

مخرجة فيلم “طعم الأمل” لورا كوبينز خلال مشاركتها في مناقشة في مهرجان برلين السينمائي الدولي

 

“لورا كوبينز”.. مخرجة شابة تغلغلت في عالم السينما

عرض فيلم “طعم الأمل” أونلاين ضمن برنامج “قافلة بين سينمائيات” الذي امتد نشاطه من 3 إلى 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، وهو آخر عمل للمخرجة الشابة “لورا كوبينز”، وهي حاصلة على درجة الدكتوراه من برنامج أولوية البحث الجامعي في آسيا وأوروبا في جامعة زيوريخ في عام 2014، ومنذ ذلك الحين تعمل في جامعة برن كمساعد باحث، حيث تقوم بتدريس صناعة الأفلام الوثائقية.

وقد عرض فيلمها لنيل شهادة الدكتوراه (CHRILDREN OF SRIKANDI) لأول مرة في مهرجان برلين السينمائي الدولي، وفاز بعدة جوائز مثل جائزة لجنة التحكيم الدولية لأفضل فيلم وثائقي في مهرجان Identities Queer Film Festival لعام 2013 في فيينا.

وبعيدا عن التدريس وصناعة الأفلام عملت “لورا” أيضا كمبرمجة رئيسية لقسم جنوب شرق آسيا بالإضافة إلى قسم Queer Asia في ASIAN HOT SHOTS BERLIN، وهو مهرجان لفن الأفلام الآسيوية المستقلة وفن الفيديو في برلين بصفتها منسقة أفلام، كما عملت لورا في العديد من لجان تحكيم مهرجانات الأفلام، مثل لجنة تحكيم جائزة برلينال تيدي.