“طفح الكيل”.. المشاعر في العناية المركزة

عبد الكريم قادري

يتعامل المخرج المغربي محسن البصري مع أفلامه كما يتعامل عازف الكمان مع موسيقاه، يولّد منها شحنة كبيرة من المشاعر التي تلامس شغاف القلب وتستقر فيه، يبني جسر تواصل مع الجمهور ويجعله يتعاطف تلقائيا مع الفيلم.

هذا المخرج القادم من عالم الفيزياء والرياضيات بحكم دراسته للأولى وتدريسه للأخيرة، يتعامل مع نصوصه السينمائية كمصفوفة أرقام ورسوم هندسية، لها نتيجة معلومة مسبقا إن كانت طريقة الحساب صحيحة، وهي ما تفرزه أفلامه؛ دهشة يصنعها، مشاعر صافية يجعلها تنساب باتجاه المشاهدين، ويعود هذا بالدرجة الأولى لاهتمامه بالتفاصيل الصغيرة التي تصنع الكل، وحسن اختياره للمواضيع المعالجة، وحرصه في اختيار “الكاستينغ” الذي يتحول إلى عامل مهم في نجاح أو فشل الفيلم، وهي أكثر ما يميز أفلامه، خاصة آخر فيلمين له اللذين أنجزهما دفعة واحدة -وهي من الحالات النادرة- وهما فيلم “عزيزة” و”طفح الكيل”.

وقد سبق للمخرج أن عايش فترة بيات استمرت سبع سنوات كاملة بعد انطلاق باكورته “المغضوب عليهم” (2011) الذي تم عرضه في العديد من المهرجانات السينمائية الدولية، وفتح نقاشات مهمة بشأنه، ليعود من جديد بفيلمين شاركا منذ انطلاقهما في العديد من المهرجانات، وقد أثبت من خلالهما أحقيته السينمائية، وافتكّ حيزه المحترم في مساحات الإخراج الشاسعة.

في البدء كان الألم

فيلم “طفح الكيل” حط رحاله بآخر دورة لمهرجان وجدة للفيلم المغاربي الذي انعقدت فعاليته ما بين 11 و15 يونيو/حزيران 2019. بطل هذا العمل هو الطفل الصغير أيوب الذي لا يعرف من مآسي الدنيا وآلامها سوى ما يراه في عيون والديه، أو ما خبره من ألم جسدي، يقطن رفقة والده إدريس (أدى الدور رشيد مصطفى) ووالدته زهرة (فاطمة بن ناصر) في إحدى الضواحي المغربية.

وبعدما تكررت حالات ألمه قرر الوالدان أخذه للمعاينة في أحد مستشفيات مدينة الدار البيضاء، وقبل ذلك عرّجوا على أخو إدريس الأصغر (سعيد باي) ليرشدهما إلى المستشفى، حيث تنقلوا هناك، لتبدأ رحلة البيروقراطية في المرافق العمومية، فقد أجري كشف طبي لأيوب وأمر الطبيب بأن يبيت في المستشفى وأن لا يتحرك من على السرير لإجراء كشف أشعة على رأسه يوم غد، ليكتشف فيما بعد إصابته بمرض نادر يستوجب إجراء عملية جراحية مستعجلة وإلا فإن موته محقق.

من هنا تبدأ رحلة البحث عن طبيب جراح لإجراء العملية، لكن جراح المستشفى يرفض إجراءها في المستشفى العمومي، وهذا للضغط على العائلة من أجل تحويله إلى عيادته الخاصة، لكن هيهات، فالعائلة فقيرة جدا، وقد باعوا كل ما يملكون لتمويل علاجه وهو ما يكف حتى الأشعة والتحاليل، لهذا قرر عم أيوب أن يبيع جنينا في رحم صديقته لعائلة سويسرية، لكن موت الجنين ينسف كل شيء ويجهض هذا المشروع.

بطل هذا العمل هو الطفل الصغير أيوب الذي لا يعرف من مآسي الدنيا وآلامها سوى ما يراه في عيون والديه
بطل هذا العمل هو الطفل الصغير أيوب الذي لا يعرف من مآسي الدنيا وآلامها سوى ما يراه في عيون والديه

حين تمرض الصحة

عرّى المخرج محسن البصري عن طريق هذا الفيلم واقع قطاع الصحة في المغرب، وهو الأمر الذي تعيشه مستشفيات معظم البلدان العربية من محسوبية واكتظاظ ورشوة وسوء خدمة ومعاملة وابتزاز ونقص المختصين، وغيرها من قائمة المشاكل التي لا تنتهي، وهي من الأمور التي تتحدث عنها يوميا العديد من وسائل الإعلام، لكن أن تقدمها في شكل قالب سينمائي فهنا يكون الوقع مختلفا، حيث يصبح الافتراض واقعا معاشا عن طريق مشاركة الألم والفقد؛ الألم الذي عاشته أم أيوب ووالده وعمه وصديقة عمه والطبيب المعالج الذي ترك كندا من أجل أن يساهم في تطوير قطاع الصحة في بلده لكنه وقف عاجزا أما مرارة ما يحدث.

بات هذا الموضوع بالذات يشكل هاجسا كبيرا لدى المواطن صاحب الدخل الضعيف أو الذي لا دخل له أصلا، لذا فإن تسليط الضوء على هذه الفئة من المجتمع جاءت كصرخة من المخرج للوقوف على هذا الوضع كثيرا.

سبق للمخرج أن ربط مشكلة الصحة بالتعليم لأهميتهما في تطور أي بلد
سبق للمخرج أن ربط مشكلة الصحة بالتعليم لأهميتهما في تطور أي بلد

 

وقد سبق للمخرج أن ربط مشكلة الصحة بالتعليم لأهميتهما في تطور أي بلد عندما قال في أحد تصريحاته “حين وصلت إلى سويسرا قبل 24 سنة، كنت أتألم كثيرا وأنا أعقد المقارنة بين بلدي المغرب وهذا البلد الذي أتيته مهاجرا، وأتساءل وأنا أتأمل حياة الناس وشوارعهم: لماذا لا نحظى بمثل هذا في بلدنا أيضا؟ إلى درجة أنني كتبت رسالة طويلة أخاطب فيها أرضي المغرب، ومما قلته فيها: أنا خنتك بمغادرتك إلى بلد آخر حتى تشتعل الغيرة في قلبك وليس لتسعد بذلك. بهذه المشاعر عشتُ وكبرتْ بداخلي، وأنا أفكر كيف أعبر عنها وأترجمها في فيلم، وقبل ست سنوات جاءت فكرة الاشتغال على الموضوع وتناوله من زاوية واحد من عنصرين أساسيين بهما يقيّم مقدار تقدم بلد من عدمه، وهما التعليم والصحة، فاخترت موضوع الصحة”.

من هنا تظهر صدقيّة المخرج وجديته في معالجة هذا الموضوع المهم الذي يُعد مؤشرا حقيقيا في تطور أي بلد أو تخلفها.

حالة من الترقب والانتظار يعيشها كل من يشاهد الفيلم، حيث يحس بكم هائل من المشاعر المتناقضة التي تتلاعب بعاطفته؛ الغضب من المستشفى الذي هو على تلك الحالة، من الطبيب الجراح صاحب القلب الميت، من الإداري المرتشي.. والشفقة على حالة قطاع الصحة في المستشفى، الشفقة على الأم التي ستفقد طفلها، على الوالد الذي بقى مكتوف اليدين ولا يملك حلا، على الصديقة التي فكرت يوما أنها ستبيع جنينها لتحسين حالتها الاجتماعية.. والألم عندما تضطر أن تخرّ ساجدا أمام من يملك قرار إجراء العملية لكنه لا يجريها، أن تتذلل أمام الأجنبي كي يقدم لك مال العملية لكنه يرفض، أن تعلم بموعد رحيل ابنك الصغير ولا تملك ولا تحرك ساكنا.. والحزن على الواقع الذي نعيشه ونحياه، وكل الذنب أنهم فقراء معدمون، والحسرة كل الحسرة أن تشاهد هذا الفيلم في مكان ما وتعيش كل لحظاته، لأن لديك حالة مشابهة حدثت معك أو مع أحد أقاربك أو معارفك.

عرّى المخرج محسن البصري عن طريق هذا الفيلم واقع قطاع الصحة في المغرب
عرّى المخرج محسن البصري عن طريق هذا الفيلم واقع قطاع الصحة في المغرب

أن تكون جزءا من الحكاية

معظم مشاهد الفيلم جاءت داخلية في نطاق ضيق، صالة مرضى، رواق مستشفى، مكتب إداري، مخزن.. لكن عملية تنقّل الكاميرا بين هذه الفضاءات كان دقيقا ومنسجما، وآلف بينها البناء السردي العقلاني والذكي، حيث نجد مثلا قصة صغيرة تجري بين الإداري وأحد المرضى، حيث يأخذ منه رشوة لتسريع عملية إجراء الأشعة، وفي الرواق المكتظ بالمرضى نجد من حاول الانتحار يراقب الموقف، نخرج من الرواق لنجد الأم في صالة المرضى تتحسر على ابنها، وفي مدخل المستشفى الخارجي نرى الأب إدريس وأخاه يتحسران على ما حدث ويحدث لمريضهما أيوب، ويضاعف هذا الترقب صوت عويل نساء فقدن فردا من العائلة أمام مصلحة حفظ الجثث..

هذا التنقل السلس سمح بكسر الرتابة، وخلق جوا من حالة الانتظار المستمر لباقي القصة، مما جعل هناك معايشة حقيقية، وحوّل المُشاهد إلى جزء من الحكاية، وساهم في هذا الممثلون من خلال تقمصاتهم الحرفية، خاصة ملامح الممثل رشيد مصطفى المغلوب على أمره، والممثلة فاطمة بن ناصر التي عكست الحسرة والألم، فقد كسرت الفاصل بين الممثل والدور، تحس بأنك أمام مشاهد واقعية حقيقية وليست مؤداة.

الفيلم على عمومه يحمل في طياته الكثير من الجماليات
الفيلم على عمومه يحمل في طياته الكثير من الجماليات

 

من الجماليات التي خلقها المخرج في الفيلم أيضا واستطاع أن يجعلها تنسجم مع العنوان؛ افتتاحية الفيلم وختامه، حيث نجد في الأولى شابا يحاول الانتحار من على جسر، لكن هناك من يمر أمامه ويطلب منه ثيابه بطريقة عبثية، ليرمي بعدها نفسه، لكن تشاء الصدف أن يسقط فوق شاحنة محملة بالمواشي، ومن هنا تسير الكاميرا ببراعة، حيث تمر بين حشود كل فرد فيها يحمل خروفا، وآخرين يسردون حكايا مختلفة، إلى أن تصل إلى الشاب وهو في سيارة الإسعاف ليكون -فيما بعد المنتحر- صاحب دور مهم في المستشفى.

أما الاختتام فنجد العديد من الأشخاص فوق نفس الجسر وكأنهم ينوون الانتحار بعد أن طفح كيلهم مما يحدث، يرددون شعارات الظلم واليأس، وهو من المشاهد التي ذكرتني بفيلم “العصفور” ليوسف شاهين، حيث تخرج “بهية” الى الشارع وهي تردد كلمة “حنحارب.. حنحارب” لتلحقها جموع من الناس. من هنا يصبح الانتحار مبررا حسب مجريات ما يحدث، خصوصا وأن الفيلم لم يجب على سؤال: هل أُجريت العملية لأيوب أم لا؟ لكنه من خلال حركة بسيطة يقوم بها المخرج في الفيلم يرجَّح من خلالها موت أيوب، وهذا حين يُهدي الفيلم إلى أيوب.

والفيلم على عمومه يحمل في طياته الكثير من الجماليات، حيث تحس بأنك تشاهد أحد الأفلام الإيرانية من ناحية الشكل والمساحات الضيقة واللعب على المواضيع الحساسة والحزينة التي تولّد المشاعر وتجعل المُشاهد طرفا هاما في تركيبة الفيلم، وهذا بالاعتماد أيضا على قوة أداء الممثلين ووعيهم الكبير بما يقدمونه كقيمة إنسانية قبل أن يكون دورا سينمائيا يعكس قيمة مادية للممثل.