طِرْس.. مفقودو الحرب الأهلية اللبنانية يعودون عبر السينما

قيس قاسم

 

آلاف اللبنانيين اختفوا نهائيا من الوجود إبان الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، والكثير منهم أُخفيت جثثهم عمداً حتى لا يُستدلّ على قَتَلتهم، إلا أن السلطات الرسمية ورغم مرور عقود على غياب هؤلاء فإنها تصرّ على معاملتهم كأحياء باقين على قيد الحياة كما هو مثبت في سجلاتها المدنية. مُفارقة مؤلمة لذويهم وعوائلهم الذين يجدون في الأمر التباسا وغموضا مقصودا يُراد به ترك أمر البتّ في مصيرهم معلقاً دون مراعاة لحرمة موتاهم ولا لمشاعرهم، غير أن المطالبة بالكشف عن “المُغيَّبين” لم تتوقف، والمطالبة هذه المرة جاءت عن طريق السينما الوثائقية، وعلى يد المخرج اللبناني غسان حلواني.

يقترح حلواني في فيلمه “طِرْس.. رحلة الصعود إلى المرئي” إعادة الغائبين ومجهولي المصير ثانية إلى الوجود، وذلك عن طريق إعادة تكوين الصورة؛ صورهم الممحيّة بفعل عامل الزمن، وعنوان فيلمه يُحيلنا إلى مدلولاتها؛ فمعنى مفردة “طِرْس” كما جاء في كتاب الصحاح “الصحيفة، ويُقال هي الصحيفة التي مُحِيَت ثم كُتِبت، وكذلك الطلسُ، والجمع أطراس”.

يشتغل المخرج غسان حلواني طيلة زمن وثائقيّه على إعادة المفقودين، وذلك عبر تقشيط وإزاحة طبقات من الملصقات الورقية التي ثُبتت على جدران شوارع بيروت طيلة أكثر من ثلاثة عقود وضمت صورهم، ومع الوقت صارت شاهداً على وجود كل واحد منهم بشخصه، لا بوصفه رقماً مجرداً ضمن “جماعة” يمكن بسهولة إطلاق أي تسمية عامة عليها تُغيب بموجبها ملامحهم الشخصية وتُنزع عنهم هوياتهم الحقيقية بإرادة سلطوية وسياسية.

 

المغيّبون.. إعادة تشكيل “وسخ” بقلم رصاص

لتحقيق مهمة شبه مستحيلة -في الأحوال العادية تقوم بها مؤسسات ومنظمات كبيرة- استثمر حلواني مواهبه في التصوير والرسم، فراح ينتزع صورة كل شخص مُغيّب تظهر من بين الملصقات القديمة، ثم يذهب لإعادة رسمها بالقلم الرصاص، مستثمراً تقنية التحريك لبعث الروح فيها. جهد فردي مركب ومعقد يظهر في تفاصيل تكوينه المشهد الواحد بصرياً، وكما يتضح من اللقطة الأولى من مفتتحه الذي جمع فيه مصوراً صحفياً اشتغل في بيروت خلال الحرب الأهلية، وفي الفترة التي أُطلق عليها اسم “حرب المخيمات” أواسط الثمانينيات عرض عليه المخرج صورة التقطها المصور بنفسه، وذلك بعد أن قام حلواني توافقاً مع أسلوبه السردي بإزالة ملامح وجوه الرجال فيها حتى أجسادهم، تاركاً للمصور فرصة تشكيلها من جديد وفق ما يتذكره من تفاصيل رافقت زمن تصويرها. سيُعيد الحوار بينهما كتابة “الطِرْس” ثانية، وسيتضح من خلاله أن اثنين من مقاتلي المليشيات اللبنانية كانا يقومان لحظتها بخطف شاب لا نعرف هويته، وبدا فيها على وشك السقوط أرضا بعد تلقيه ضربة قوية من أحدهم.

“الطِرْس” أو إعادة التشكيل “الوسخ” للصورة كما يسميه صانع الوثائقي سيعتمده وسيلة لسرد الحوادث، وأيضاً منهجاً متفرداً لبناء درامي مثير للترقب والانتباه، وفي ظلّ مناخ مقتصد “الكلام” عوضت عنه العبارات المكتوبة التي كانت تظهر على الشاشة كلما همّ كاتبها بالولوج إلى فصل من فصوله المحكية بلغة سينمائية ملهمة بعيدة عن الأنماط التقليدية، الشخصي غير مقحم فيها ولا الموقف الأيدولوجي الدعائي.

ترك حلواني في البداية مسافة معقولة بينه وبين موضوعه مع أنه معني به شخصياً كون والده كان من بين الضحايا المُغيبين، والذي ما زال مسجلاً في سجلات الدولة اللبنانية كشخص حيّ يُرزق رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على رحيله، لهذا لا غرابة أن يُثمن اشتغاله وطريقة تناوله سينمائيا موضوعا شديد الحساسية بفوزه بجوائز مهرجانات عالمية وعربية آخرها “جائزة النقاد” في الدورة الأربعين لمهرجان القاهرة السينمائي.

صورة لأحد مفقودي الحرب الأهلية اللبنانية نٌقشت على إحدى الجدران في بيروت لإعادة إحيائه بعد ثلاثة عقود على الحرب

 

التنقيب في ضحايا الماضي.. لإعادة الإحياء

بصبر المنقِّب عن الآثار يحفر البطل/المخرج في الماضي ليستحضره، ويعيد من خلاله العلاقة المُختلة بين الضحية/المفقود وبين السلطات التي تريد سَدّ كل منفذ على الساعين لمعرفة ماذا حلّ به، وأين طمر جسده، وكيف السبيل إلى احترام آدميته عبر دفنه ثانية كما يليق بالكائن البشري؟

كل صورة معلقة على الجدار بالنسبة إليه هي أثر دالّ على ضحية بعينها، وكل تسجيل قديم يتعلق بموضوعه حرص على التمسك به وبنى عليه تصوراً، وفي أحيان كثيرة أحاطه بغموض ليقترب من تخوم المجرد الخيالي.

هكذا فعل مع شخصيته المتخيلة يوم أخبرنا أنه شاهد نفس الرجل الذي رآه يُقتل قبل عشر سنوات، وقد عاد للظهور في الشارع وعلى وجهه ما زالت آثار جروح عميقة. سيقول لنا إنه لم يره حقيقة إنما رأى صورته في ملصق معلق على جدار، وإنه راح يعيد صياغتها ويعيد الحياة إليها عبر رسمها بقلمه الرصاص، ثم القيام بتحريكها سينمائيا ليدخل عبرها إلى عمق أشدّ يجلّي موقفه من الضحية.

لم يعتنِ خلال عملية الإحياء كثيراً بانتمائها السياسي أو الطائفي، ففي الحروب الأهلية -كما صار معروفاً- فإنه غالباً ما تضيع الخطوط الفاصلة بين الكثير من القضايا، ويظل الإنسان هو الأكثر استحقاقاً للمعاينة والبحث عما آلت إليه حياته.

 

المفقودون.. ملف تطويه السلطات اللبنانية

هذا التصور السوي الإنساني كما يتبيَّن من مسار الوثائقي المحتاج من متابعه صبراً استثنائياً، يبدو متعارضاً بقوة مع رغبة السلطات اللبنانية والقوة السياسية المتنفذة فيها والساعية بكل قوتها إلى إغلاق ملف المفقودين بحجة الحفاظ على السلم الأهلي. في حين يمثل تدخلها السلطوي عملياً المعنى الحقيقي للسلم، فبعد دخول البلاد حرباً أهلية طويلة ومدمرة أحدثت شرخاً واسعاً في بنية المجتمع ومكوناته لردمها، كانت أحوج أكثر من أي وقت مضى إلى مراجعة حقيقية لها لا إلى التزام الصمت إزاءها، ولا لنكران الحقائق المدعومة بوثائق وتسجيلات فيلمية قديمة حرص الوثائقي على الإتيان بها والبناء عليها.

في كل المراحل التي أعقبت نهاية الحرب الأهلية كان الناس وفي مناطق مختلفة من البلاد يعثرون على مقابر جماعية عن طريق الصدفة. التسجيلات الفيلمية تشير إلى تهرب السلطات من مسؤولية الكشف عن مرتكبيها من خلال إعلانها المتكرر بأن عمليات بحثها وتحليلها للعينات المأخوذة منها أكدت بالدليل القاطع عائديتها إلى حيوانات سائبة لا إلى بشر، وعلى المستوى الرسمي أصدر مجلس الوزراء اللبناني تعليمات إلى الجهات القضائية تدعوها التزام الحذر إزاء أي مطلب يدعو إلى البحث عن المفقودين، وإدراجه ضمن الأفعال المهدد لاستقرار أمن البلاد. تهرب واضح يتوقف الوثائقي عند أكثر تجلياته ألماً؛ الجريمة والتستر على مرتكبيها.

الوثائقي يعيد رسم مخطط بصري لما جرى في الحرب الأهلية اللبنانية لمكبّ النفايات الذي تم طمر مئات الجثث تحتها

 

مقابر جماعية.. مشاريع نفايات على أنقاضها

بعد السؤال والبحث يتبيَّن أن هناك ما لا يقل عن 17 ألف مختفٍ في لبنان، فيما تُعلن السلطات عن عدد ضئيل بعيد كل البعد عن الرقم الصحيح. وبدلاً من تحمل مسوؤليتها الأخلاقية فإنها تُحيل القضية إلى الماضي وتدعو لطيّ صفحاته، وكأنها بذلك تُنهي معاناة أهالي المفقودين وعذاباتهم. وللمضي في مشروعها الإسكاتي تتحمس لتنفيذ مشروع بناء كورنيش الساحل المُقام فوق واحدة من أكبر مطامر النفايات في بيروت، والتي يُثبت الوثائقي بالصور والتسجيلات أنه قد تم طمر جثث مئات الأشخاص تحتها، أو تم التخلص من الكثير منها عبر رميها في مياه البحر.

يعيد الوثائقي رسم مخطط بصري لما جرى مدعوماً بتسجيلات قديمة تظهر فيها الشاحنات وهي تنقل الجثث إلى مكبّ النفايات. أما تلك التي رميت في عرض البحر ولن يجدها أحد فعمل على إعادة إحيائها عبر رسمه مخططاً مُتَصوراً للواجهة البحرية القديمة قبل أن تتحول ضفتها إلى كورنيش للعابرين يرقد تحته بشر يُراد لهم أن يتبخروا كلياً من ذاكرة أهاليهم. مهمة يتعذر تحقيقها بوجود مطالبين بحقوق أبنائهم وأحبائهم، وبوجود سينمائيين أخذوا على عاتقهم مهمة الكشف عن المخفي من البشر والحقائق.

رفض فكرة القبول بارتكاب فعل الجريمة والسكوت عن مرتكبها سيقود صانع الوثائقي خلال بحثه الدؤوب عن المشاكل المتعلقة بالمختفين والتعامل معهم رسمياً على أساس أنهم أحياء؛ ستقوده إلى حقائق مفجعة من بينها أن كل الجهات المتنفذة سياسياً استطاعت الكشف عن مصير أغلب مقاتليها المفقودين، ناهيك عن الخارجية التي كان الوصول إلى مواطنيهم المختفين أو إلى جثث الأموات منهم سهلا بسبب قوة ضغطها على المؤسسات القضائية والسياسية، فيما يظلّ البسطاء وعامة المفقودين من مقاتلين ومدنيين في حكم غير الموجودين أصلاً.

المفقودون.. إعادة إحياء واعتبار

يكشف صانع الوثائقي عند وصوله إلى تلك المنطقة المؤثرة من وثائقيه عن علاقته الشخصية بمنجزه، وأن كل المسافة التي حرص على إبقائها بينه بين موضوعه ستتلاشى حينما عاد إلى سجلات عائلته الإدارية ليرى كيف ظلّ والده فيها حياً رغم غيابه، ومطالبة والدته الملحاحة بالكشف عن مصير زوجها. علاقة ملتبسة تشي بصعوبة نسيان الماضي والحاجة إلى مراجعته عبر مكاشفة صريحة وبسط كامل للحقائق، بعدها يمكن الحديث عن فكرة التسامح والحفاظ على السلم الأهلي.

بعبارة ثانية أحيا الوثائقي ما يُراد السكوت عنه، وأرجع بعض المفقودين من الملصقات القديمة إلى الحياة تخيُّلاً، مبقياً في الوقت نفسه على جذوة الموضوع مشتعلة في انتظار مرحلة يقبل الجميع فيها البحث في الماضي بعين ناقدة، وإعادة الاعتبار للمفقودين لا عبر بناء نصب خجول لهم فوق المقابر الجماعية التي طمروا تحتها، لكن من خلال احترام آدميتهم وإعادة “الشخصية المعنوية” لكل واحد منهم.