ع السمسمية…عراقة آلة عراقة شعب

الحبيب ناصري

 فيلم ع السمسمية، لمخرجته المصرية، شيرين غيث، من الممكن  القول، إنه فيلم انبنى على رؤية إخراجية، واعية بأهمية الحكي والنبش في ذاكرة الشعب المصري الفنية، عبر أداة موسيقية شعبية عريقة، لها قيمتها الدلالية المستمدة من التراث الشعبي المصري العربي ككل.
السمسمية والسفر في الذاكرة
من الممكن القول، إن حكي المخرجة قد تم عبر تتبع وظائف هذه الأداة الموسيقية الشعبية بطرية فنية جعلتنا نستمتع،  ومنذ البدء بطبيعة الرقصات الجسدية الغنية والمستمدة من عالم البحار. كثيرا ما قيل، إن الإمساك بالعالمية، لابد من شرط المرور عبر المحلية. قولة من الممكن أن نجد لها العديد من العناصر الفنية في هذا الفيلم نقدمها بشكل مختصر على الشكل التالي.
1/ شخوص تحكي وترقص بشكل فطري.
   وأنت تتابع وتسافر صحبة المخرجة، في فضاءات عناصر المجموعة الموسيقية، تستنتج تماهي وتداخل المجموعة المنتمية لبورسعيد، بهذا الشكل الغنائي الشعبي، تماه وتغلغل حضر على امتداد كافة مكونات الأسرة الفنية والعائلية ككل.
2/ الطفل عبد الله وضمان استمرار “ع السمسمية”.
    الظاهرة/الطفل عبد الله، من الممكن الجزم، بأنه الشخصية القوية والمؤثرة جدا في المتلقي، طفل يراقص الأب ويستمتع ويتساءل ويحفظ كل الأغاني، لقد تشرب ورضع هذا الغناء من ثدي أمه، كان في الكثير من محطات الفيلم، الخيط الذي نجحت المخرجة في تتبعه وقولها ما تريد قوله لكل الأجيال عبر هذا الطفل، الذي به ضمنا جميعا استمرارية هذا الغناء وتجذره في الناشئة على الرغم من كل أشكال الغزو الموسيقي والغنائي في صفوف أبنائنا…لكن حينما يتعلق الأمر بالسمسمية، هنا تسقط  كل أشكال هذا الغزو.
إن رنين السمسمية، الشعبي العربي العريق، يعطيك انطباعا قويا تكاد دموعك تتراقص فرحة وألما وأملا…فرحة بعمق كينونة هذه الموسيقى الشعبية الأصيلة التي هي خلاصة تفاعل بين آلة الطنبورة الآتية من السودان الخ، وما جادت به قريحة هذا المصري العربي العريق في التاريخ والفنون والعلوم. فرحة تدفعك في اتجاه استحضار أشكال إبداعية عديدة سواء على مستوى فضاءات الأحياء الشعبية كما هي في نصوص نجيب محفوظ، أو في أفلام صلاح أبو سيف أو توفيق صالح الخ، فمن خلال هذه الأغاني نتماهى كمتفرجين مع كل أفراد المجموعة، وهو التماهي الحاضر فيما بينهم وبين السمسمية.
في دلالات السمسمية التاريخية
وأنت تتقوى بإيقاعات غناء المجموعة، يتمدد الزمن نحو مجريات الأحداث في مصر، في اتجاهين.

الاتجاه الأول

   مرحلة جمال عبد الناصر وما واكبها من أحداث تاريخية، أحداث تتجذر مع السمسمية و تتغلغل في  زمن حفر قناة السويس، والدور الذي لعبته هذه الآلة في تحقيق متعة السمر والغناء الجماعي المتنوع، وفق الجغرافيات البشرية المشتغلة في بناء هذه القناة .

الاتجاه الثاني

 ويتحدد في حضور المجموعة والسمسمية في ميدان التحرير، لكي تقول قولها الشعبي وتقوي العزائم من أجل تحقيق مبتغى الثورة المصرية.
 من خلال هذين الامتدادين التاريخيين،  أي بين ماض تاريخي عريق، وبين حاضر/مستقبل، لا زالت معالمه التاريخية ترسم بأشكال إبداعية عديدة، ومنها السمسمية، استطاع الفيلم أن يموقع هذه الآلة العريقة في سياقات سياسية/تاريخية/إنسانية.
  متعة الغناء والرقص
 قوة الفيلم، أيضا حاضرة في كونه ينقلك من المحكي الشفهي في فضاءات شعبية متعددة، ومن خلال حوارت كان فيها الطفل عبد الله، صانعها بامتياز، إلى فضاءات غناء ورقص السمسمية.     هنا  وكمتفرجين نصبح “مطالبين”، على الأقل بأن نستمتع بهذه الأغاني ذات الروح المصرية الوطنية العربية العريقة، بالإضافة إلى بعض المكونات الغزلية والاجتماعية، بل أحيانا وجدنا أنفسنا نرغب في أن نحقق فضولا جماليا آخر، وهو أن نقلد مكونات رقصة البحار، ولم لا، وللجسد جاذبيته بمفهومها الثقافي الفني الترفيهي الهادف، وتصل ذروة التماهي مع غناء ورقص المجموعة، بأن توقف زمن التلقي،  واستحضار كافة متع البهجة والاعتزاز بهذا العمق العربي العريق الجريح…
ع السمسمية… و”هذا أنا”
قدم الفيلم الوثائقي، ضمن ركن”هذا أنا”، وهو ركن خصصته قناة الجزيرة الوثائقية التي أنتجت هذا الفيلم، للإجابة عن سؤال تاريخي ثقافي وفني ورياضي وروحي الخ، سؤال، من أنا؟. هي إجابة بمقاربة فيلمية وثائقية فنية ثقافية جمالية راقية. ركن نحن في أمس الحاجة إليه لإعادة الاعتبار لذواتنا العربية والإسلامية الجريحة والمنهوكة. “هذا أنا” صرخة بلغة الفن والثقافة، لكل من تنكر لدورنا العربي العلمي والثقافي والفني والجمالي والإنساني، صرخة نحن في أمس الحاجة إليها في هذا الزمن الصعب الذي تعيشه مجتمعاتنا العربية والإسلامية ككل، في ظل “هيمنة سياسوية” على كل مناحي حياتنا. بهذا النوع من الأفلام الوثائقية، المدرجة في سلسلة”هذا أنا”، من الممكن أن نؤسس لرؤية ثقافية وفنية وجمالية، بلغة الصورة، بل هنا نؤسس لذاكرة فنية وثقافية مشتركة، من خلالها نحاور ذواتنا والآخر والعالم ككل. بل هذه الرؤية التي تبنيها قناة الجزيرة هنا، هي شكل من أشكال المثاقفة، وتصحيح التصورات الخاطئة عنا، والمروج لها بلغة الصورة من طرق الغير، ومن طرف بعض من بني جلدتنا لغايات، نعرفها جميعا.
على سبيل التركيب
ع السمسمية، فيلم وثائقي، له قيمته الإخراجية والفنية والثقافية، المبنية على عراقة آلة موسيقية شعبية دالة، مستمدة من عراقة شعب مصري، كان ولا يزال وسيبقى دوما، شعبا عريقا متجذرا في التاريخ، نشم رائحة عمقنا العربي والإفريقي والثقافي فيه.