“عازف البيانو”.. يهودي في يد النازية يكافح ألم الحرب بالعزف

المتمعن في السينما العالمية أو سينما الشعوب مثل السينما الإيطالية أو الإيرانية أو البرازيلية، يكتشف أن السينما الأمريكية أوغلت في كونها تجارية حتى فقدت بريقها أو كادت، وأصبحت سينما ربحية بدرجة أولى، خاصة مع بداية القرن الحادي والعشرين، وربما في كل عشرية يصعد فيلم أمريكي أو اثنان ليخرج عن الجانب التجاري ولو قليلا.

وإن كانت السينما الأمريكية صاحبة اليد العليا والمرجع الأهم في السينما، فقد نزلت من ذلك الصرح لتفسح المجال لمدارس سينمائية أخرى ابتعدت من دائرة الإنتاج السينمائي الهوليودي لتصنع أفلاما خالدة وتحفا فنية بحق، مثل فيلم “عازف البيانو” (The Pianist) الذي كان إنتاجا مشتركا بين بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبولندا سنة 2002، وهو فيلم من إخراج “رومان بولنسكي” البولندي الفرنسي الجنسية.

 

الفيلم عبارة عن قصة واقعية لعازف البيانو البولندي اليهودي “فلاديسلاف شبيلمان” الذي عاش في فترة احتلال النازيين لبولندا في الحرب العالمية الثانية، ومن عازف ماهر في الإذاعة البولندية يتحول البطل إلى معتقل مع آلاف اليهود لتبدأ الرحلة المأساوية.

“فلاديسلاف شبيلمان”.. فيلم مُقتبس عن مذكرات شخصية

الفيلم مقتبس عن مذكرات الشخصية الرئيسية في الفيلم، وهو عازف البيانو “فلاديسلاف شبيلمان”، وقد كتبها سنة 1946، أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بسنة واحدة. وقد تتالت الجوائز العالمية على الفيلم من الأوسكار إلى السعفة الذهبية وتكريمات أخرى عدة، حتى أن “بي بي سي” (BBC) صنفت الفيلم ضمن قائمة أفضل مئة فيلم في القرن الحادي والعشرين.

كل العناصر المحيطة بالفيلم جعلته بالفعل واحدا من أفضل الأفلام، ليس في القرن الحادي والعشرين فقط، بل في تاريخ السينما كلها، فقد نجح الفيلم في أن ينقل صورة طبق الأصل بمقاربة توثيقية للقصة الأصلية ولكل تلك الفترة، فالديكور مثلا لم يكن إعادة تهيئة لأستوديوهات هوليود، أو الأستوديوهات المختصة في ديكورات الحرب العالمية الأولى والثانية.

بعض المشاهد القليلة كانت داخل الأستوديو، والبقية كانت ديكورات حية وواقعية، فلقد اختار “بولنسكي” أن يكون التصوير في الأماكن الأصلية، مثل مدينة بوتسدام ومدينة بليتز الألمانيتين، والأهم هو التصوير في مدينة براغا البولندية في فارسوفيا التي عايشت الأحداث.

لهذا نلاحظ أن الفيلم انتقال حي ودقيق من سنة الإنتاج في 2002 إلى سنة 1943 زمن الاجتياح النازي.

“بولانسكي”.. حكاية المخرج المخبأة في ثنايا الفيلم

لا يمكن الحديث عن الفيلم إلا إذا تحدثنا عن المخرج “رومان بولانسكي”.

نتابع في الفيلم تفاصيل استثنائية من الديكور إلى اختيار الموسيقى إلى توجيه الممثلين، لنكتشف في الأخير أن كل هذه العناصر الفنية والجمالية نابعة حقا من تجربة المخرج نفسه، حتى أن المشاهد يلامس تماهيا كبيرا بين قصة “شبيلمان” وحياة “بولانسكي”، ليتحول الفيلم لسيرة ذاتية للمخرج تنكشف خباياها بمرور دقائق العرض.

“رومان بولانسكي” هو مخرج يهودي ولد في باريس لأبوين بولنديين سنة 1933، ومن هنا نبدأ في فهم براعة تفاصيل عناصر الفيلم التي سبق ذكرها، خاصة وأن “بولانسكي” عاد إلى موطنه في كاراكوفيا البولندية سنة 1937، أي قبل عامين من الاجتياح النازي لوطنه. وبدخول القوات النازية لبولندا في سبتمبر/أيلول عام 1939 كان المصير البائس في انتظار المخرج وهو طفل رفقة عائلته.

انتقلت العائلة إلى “كازيميارز” حيث تسكن جدته، هناك درس “بولانسكي” في المدرسة إلى أن منع أطفال اليهود من الدراسة، ثم رحلت العائلة مضطرة إلى معتقل “كراكوفيا”، حيث اشتغلت أمه كخادمة ووالده في مصنع، وفي تلك الفترة بدأ عشق “بولانسكي” للسينما يظهر.

لكن الحدث الأكثر قسوة والمدمر الذي عاشه “بولانسكي” هو إرسال أمه وجدته إلى المعتقل المرعب “أوشفيتز” في شهر فبراير/شباط من سنة 1943، وهناك اغتيلت والدته، وبعد شهر من ذلك جرت تصفية كل من في معتقل حي كراكوفيا.

عاش “بولانسكي” الطفل الشتات حتى عثر على أبيه مجددا في سنة 1945، أي بعد نجاة الأب من معتقل “موثوزن”، ولعل المشهد الشهير في فيلم “عازف البيانو” الذي يتمشى فيه البطل وسط خراب المدينة يحمل إحالة شاعرية لحياة “بولانسكي” الطفل.

المخرج ” رومان بولانسكي” يستكشف مكان تصوير مشهد سيصبح فيما بعد علامة فارقة في الفيلم.

نرى شخصيا أن تلك اللقطة هي “أنا” المخرج التي لم يستطع أن يعبر عنها خارج الفيلم، لكن أليست حياة “بولانسكي” حكاية فيلم؟ ربما لم يجد الشجاعة الكافية ليروي قصته فروى سيرة “شبيلمان”.

البيانو.. سطوة الموسيقى تكسر وحشية الضابط النازي

على امتداد الفيلم كانت الموسيقى حاضرة بقوة، ليس لاستعمالها كأداة نفسية تأثيرية للقطة ما، لكن باعتبارها تحوّلت من عنصر ثانوي إلى شخصية رئيسية في الفيلم.

رافقت الفيلم تحولات درامية عدة، لكن كان هناك تحول درامي هادئ ومبهر عبر الموسيقى، وذلك حين اكتشف ضابط نازي مكان اختباء “شبيلمان” في أحد المنازل المهدمة، فقد كان رثّا باردا وجائعا يحاول فتح علبة طعام، سأله الضابط بملامح باردة “ما الذي تفعله؟”، أجابه “شبيلمان” بتردد “كنت عازف بيانو”. اصطحبه الضابط لغرفة مخربة وطلب منه العزف، فجلس أمام البيانو خائفا بأصابع متسخة ونحيفة ومتجمدة، وبينما بدأت الحياة تسري في البطل وهو يعزف، تحولت ملامح الضابط النازي من القسوة للانبهار، وتلاشى عنه العنف الذي يطبع وجهه، وانهمرت الدموع منه.

لقد كسرت الموسيقى صورة الضابط النازي المتوحش، حتى أنه كان يزور “شبيلمان” أحيانا ليعطيه بعض الأكل، وهنا أصبح البيانو الأثاث الأهم دراميا.

 

وبالعودة إلى الموسيقى، نكتشف أنها لم تكن اعتباطية البتةـ وكان اختيارها محكما ونابعا عن معرفة كبيرة وإحساس عال لتوظيفها في المحل الصحيح، فقد كانت أغلب المقطوعات الموسيقية للمؤلف الموسيقي العبقري “فريديريك شوبان”، وكانت معزوفته “نوكتيرن” (Nocturne) الحزينة هي الأبرز والأكثر تعبيرا الأكثر في كل الفيلم.

“فريدريك شوبان”.. رسالة خفية في نفس المخرج

كان اختيار “بولانسكي” لمعزوفات المايسترو “فريديريك شوبان” في الفيلم يحمل رسالة خفية أراد المخرج بثها، ومن هنا كان لزاما علينا أن نتعرف على “شوبان” لنفهم وقع موسيقاه على نفسية المخرج والفيلم.

“شوبان” هو مؤلف موسيقي من أبرز المؤلفين في القرن التاسع عشر إن لم يكن أبرزهم، وهو بولندي الأصل، وبذلك نكتشف نوعا من التماهي بين “شوبان” و”بولانسكي”، فقد عاش “شوبان” في شتات بين عواصم أوروبا، وكان يحن لوطنه بشوق حارق، ورغم حالته الصحية التي بدأت تنحدر بشكل مميت وكأنه يحس بنهاية عمره، فقد حوّل عائدات حفله الأخير للاجئي بولندا.

فريديريك شوبان واحد من أهم مؤلفي الموسيقى الكلاسيكية في العالم

لفظ “شوبان” أنفاسه الأخيرة محاطا بعائلته، ويبدو أن تلك الفترة الحزينة أخرجت “شوبان” من جانبه الفني إلى جانبه الوجودي العميق واليائس، وكانت لوحة الفنان “فيليكس جوزيف بارياس” تعبيرا واضحا عن حالة “شوبان” النفسية، وذلك في لوحته الشهيرة “موت شوبان”، فقد كان يحتضر وبجانبه ملاك يعزف على البيانو.

“أدريان برودي”.. عبقري عايش واقع الشخصية ونال الأوسكار

ليجد الممثل المناسب لدور “شبيلمان” الشخصية الرئيسية قاد “بولانسكي” سباقا محموما، فقام بأكثر من ألف تجربة أداء دفعته أخيرا لاختيار الممثل “أدريان برودي” الذي تقمص الدور بواقعية، وأخرج الشخصية ببراعة، وهو ما جعله يحصل على أوسكار أفضل ممثل، ليكون بذلك أصغر ممثل يحصل عليها.

نكتشف أن “برودي” قبل التصوير استنسخ تجربة “شبيلمان” في حياته الشخصية ليعيش فعلا القصة. ففي مقال نشرته “بي بي سي” سنة 2003 يقول “برودي”: لقد تخلصت من شقتي، بعت سيارتي، أغلقت هاتفي وحملت حقيبتين وبيانو صغيرا وانتقلت إلى أوروبا، لقد اشتقت لأي شخص وأي شيء، وهذا ما وضعني داخل الشخصية، وبعد انتهاء التصوير استغرقت أشهرا لكي أعود إلى طبيعتي.

كان هناك تحول كبير للشخصية من بداية الفيلم إلى نهايته، حتى فيما يتعلق بوزن الممثل الذي عاش تجربة الجوع ليحس بما أحسته الشخصية الرئيسية.

المخرج اليهودي رومان بولانسكي مع أدريان برودي في كواليس التصوير

تبين مشاهد كثيرة لا يمكن حصرها عبقرية الممثل، خاصة في عزفه وتقاسيم وجهه التي كانت تتحول من الحزن والخوف إلى السعادة والحياة. الأمر نفسه في مشهد خروج “شبيلمان” من مخبئه بعد انتصار الحلفاء في الحرب بمشيته العرجاء ولحيته الكثيفة، وذلك ليعانق أول شخص يلتقي به.

كسر النمطية والإخلاص للقصة الأصلية.. واقعية السينما

لطالما كانت السينما الأمريكية سينما تزويق بالأساس، ونقصد هنا بالتزويق العمل على تلوين البنية الدرامية والمشهد بعناصر كلاسيكية بحتة بلزوم ما لا يلزم، وفي كثير من الأحيان لا يؤتى هذا التلوين أكله.

فعلى سبيل المثال، حتى وإن استعملت السينما الأمريكية التحول الدرامي في الأحداث (Twist)، فإن صورة البطل الكلاسيكية في أغلب الأحيان تكون البطل الأبيض الأمريكي الذي يحارب الشر، في مقابل عدو سوفياتي أو ملتحٍ أو مختل، لكن “رومان بولانسكي” خالف هذه القاعدة الأمريكية التي ترسم ملامح البطل النفسية والأخلاقية بقوالب جاهزة.

نلاحظ هنا أن المخرج بكل خلفياته المأساوية كيهودي عاش تحت مظلة البطش النازي قد تجرد من تلك العقدة بكيفية بارعة، فلم يصور الشخصيات بقالب جامد تجعل اليهودي المضطهد المظلوم دائما من النازي الشرير المتحجر دائما، وهي نقطة انتصر فيها المخرج فعلا على أغلبية المخرجين الأمريكيين اليهود مثل “ستيفن سبيلبرغ”، أو المخرجين السود مثل “سبايك لي”، ممن كانوا يتعاملون مع أفلامهم بعقدة بادية للعيان ونوع مبطن من الانتقام. ولقد رأينا في الفيلم صورة اليهودي الذي خان أبناء عرقه ودينه وتلبس صورة الشرير المطبع مع النازية.

لكن الأبرز في قطع المخرج مع القوالب الجاهزة هو قصة الضابط النازي “ويلم هوزنفيلد” الذي خرج من صورة النازي المتوحش إلى كائن حساس وطيّب، وهي صورة غير واردة في الأفلام عادة، حتى أن البعض يقول إن هذه القصة جنت على كتاب “شبيلمان” الذي اقتبس منه الفيلم ومنع الكتاب من النشر في بولندا.

ومن المهم القول إن “بولانسكي” كان قادرا على إخفاء “النازي الطيب” في الفيلم، لكنه كان وفيا للقصة الأصلية، ولم يؤثر فيه تاريخه المؤلم مع النازيين.

“عازف البيانو”.. تحفة فنية خالية من المبالغات الدرامية

بالعودة إلى مسألة التزويق التي تحدنا عليها سابقا، نجد أن المخرج قطع أيضا وبصفة بارعة مع الموسيقى التي تزين المشهد بطريقة تأثيرية وتجارية بحتة.

أولا نعلم أن من عادة المشاهد التشويقية التي يكون فيها البطل في مواجهة خطر ما، تكون هناك موسيقى مصاحبة في الخلفية ذات طابع مخيف لكي تزيد من إضفاء طابع التشويق، وهذا لم يكن موجودا في الفيلم، وذلك مثل اللقطات الأخرى ذات الطابع الحزين أو المأساوي، حيث تكون الموسيقى في الخلفية حزينة، وكالعادة تجاوز “بولانسكي” تلك التقنيات التجارية والنفسية ليصور المشهد بحزنه وألمه وخطورته بطريقة جافة خالية من التزويق البليد، لكن بطريقة راقية وفنية.

لم يكن فيلم “عازف البيانو” فيلما بكائيا، ولم يكن دراما تأثيرية ولا دراما انتقامية من المخرج اليهودي على معاناته وأعدائه، لقد كان فيلما مختلفا وكان تحفة فنية، وها نحن أولاء في انتظار أن تكون هناك تحفة فنية على نفس القدر أو أكثر لتصوّر نكبة فلسطين وألمها.