“عالم القذافي السري”.. جوانب مثيرة من حياة الزعيم الباحث عن الخلود

 

“لا بياض في عيني القذافي، سواد مُعتم فقط، عبثا تحاول أن تبحث عن حياة في عينيه، وكأن لا روح هناك، أو ربما غادرت للأبد”. هكذا يصف المُصور الفوتوغرافي البريطاني الشاب “بلاتون” زعيم ليبيا السابق الذي كان على بُعد خطوة واحدة منه، عندما صوره في أحد أروقة مبنى الأمم المتحدة في نيويورك، المدينة الأمريكية التي حلَّ بها القذافي في زيارة خاطفة شهيرة في عام 2009.

وقد أبى وقتها أن تمر دون ضجيج أو فضائح، فطلته في ممرات مبنى الأمم المتحدة حولت الانتباه عن المؤتمر الصحفي للرئيس الأمريكي “باراك أوباما” المُنعقد وقتها في نفس المبنى، وكان ضجيج المصورين المحيطين بالعقيد القذافي مسموعا من خارج القاعة في التغطيات التلفزيونية الأرشيفية لمؤتمر الرئيس الصحفي.

حتى أن بعض الصحفيين والمصورين تركوا مؤتمر الرئيس الأمريكي، وانشغلوا بـ”ملك أفريقيا”، أحد الألقاب المُحببة للقذافي في سنواته الأخيرة، عندما غضب على العرب، فوجود القذافي في أي مناسبة كان حدثا فريدا، وأحيانا الحدث الوحيد.

رفض التخدير.. شبح القتل يطارد الزعيم في قصره

في صورة “بلاتون” الفوتوغرافية الشهيرة التي تميزت بتصويرها وجه القذافي من مسافة قريبة جدا، ولم تخضع لبروتوكولات تصوير الزعماء المهوسين بأنفسهم وصورتهم المُقدمة للإعلام، تبدو بوضوح آثار العمليات الجراحية التجميلية المتعددة لوجه الزعيم الليبي. وسيمر عليها الفيلم الوثائقي البريطاني “كلب مسعور.. عالم القذافي السري” (Mad Dog: Gaddafi’s Secret World)، الذي عُرض على شاشة القناة الرابعة لهيئة الإذاعة البريطانية.

وقد سبقت عرض الفيلم دعاية كبيرة في الإعلام البريطاني، وسيحظى بمقابلة مع جراح القذافي الخاص، وهو جراح برازيلي ترك منذ سنوات تحسين وجوه نساء يبحثن عن جمال غارب، وانشغل بتجميل زعماء يبحثون عن الخلود من أمثال القذافي ورئيس الوزراء الإيطالي السابق “سيلفيو برلسكوني”.

يصف الجراح البرازيلي غرفة عمليات الرئيس القذافي، بأنها تقع في طابق سريّ تحت قصره في العاصمة طرابلس، وهي مُجهزة بكل المُعدات الحديثة، لكن القذافي رفض تخديره بشكل كامل في تلك العمليات، فهو لا يريد أن يغمض عينيه بين يديّ غريب، ومن دون الاحتياطات المُعتادة الخاصة بأمنه، فشبح القتل كان يُطارده في كل لحظة من يومه.

تقلبات الحقب.. بحث بلهفة عن دور في العالم

يقسم الفيلم التسجيلي البريطاني زمنه إلى فترات، تُعالج كل منها حقبة من عصر القذافي، فيبدأ من صعوده إلى السلطة، وتقلبه بين الأفكار القومية والعالمية، وانشغاله بالبحث عن دور في حروب الشيوعية والرأسمالية، ثم مرحلة تصادمه الأقوى مع الغرب الذي وصل إلى ذروته بتفجير المخابرات الليبية للطائرة الأمريكية فوق إسكتلندا عام 1988، وما تلاها من رد غربي قوي.

ثم اتجاهه إلى أفريقيا، بعد أن نفض يديه من العرب، وتقربه المُثير للجدل من الغرب في السنوات الأخيرة من حكمه، وينهي الفيلم زمنه بالربيع العربي الذي حمل النهاية للزعيم الليبي، وهي لا تقل جدليّة ووحشية وفوضوية عن حياته نفسها.

كثير من التفاصيل السياسية التي مر عليها الفيلم، معروفة للمتابعين للشأن الليبي، إذ تكشَّف الكثير منها في العامين المواليين لمقتل القذافي.

جرائم الاغتصاب.. هوس جنسي ونهايات وحشية

يركز الفيلم بشكل كبير على تقديم العالم السري الشاذ للزعيم الليبي، فيفرد أوقاتا طويلة للتحري عن ما يُقال حول هوسه الجنسي، فيقدم شهادات لليبيات من ضحايا ذلك الهوس، وكيف كان يزور مدارس فتيات مثلا، لاختيار ما يشاء منهن، وإنه ابتكر شفرة سريّة لمعاونيه، بأن يضع يده فوق رأس فتاة ما، وهي تبدو نوعا من التحية الشائعة، لكنها عنت لحراسه، بأنه قد حدد الفريسة، وأن عليهم ترتيب التالي.

صورة تظهر تفاصيل القذافي وملامحه المتأثرة بالعمليات

تروي امرأة ليبية تقول إنها تعرضت لاعتداء جنسي من القذافي، أن السلطات الأمنية أودعتها بعد اغتصابها في مستشفى للمجانين، لمنعها من التواصل الطبيعي مع أهلها أو محيطها خوفا مما قد تفشيه، وهي تُعتبر محظوظة للغاية، فكثير من ضحايا القذافي من النساء، انتهين في مقابر جماعية أو في غرف عمليات أثناء إجهاض أجنتهن بعد حملهن غير الشرعي.

وسيكشف مقربون من القذافي للفيلم عن ولع لا يقل شذوذا للقذافي بالصبيان الصغار، وينقلون قصصا عن هذا الجانب أيضا.

عنصرية وتقرب.. تناقضات ترصّع الطريق نحو عرش أفريقيا

يحظى توجه القذافي لأفريقيا بمساحة مهمة في الفيلم، فقد نجح بأمواله في تكريس مكانة مُعتبرة له ولنظامه هناك، في غضون سنوات قليلة فقط، بعد أن تحالف مع أكثر المليشيات والحكومات الأفريقية قسوة ووحشية، ويعتبر مسؤولا بشكل غير مباشر عن مجازر معروفة في القارة السوداء.

كان القذافي في قرارة نفسه يحتقر الأفريقيين لأسباب عنصرية بحتة كما نقل مقربون منه، لكنه كان في حاجة إليهم في خطته الجديدة لبلوغ المجد الذي كان يبحث عنه في حياته كلها، خاصة بعد أن ترك العرب ومشاكلهم. وفي السنوات التي أعقبت فك الحصار الغربي عن ليبيا، وتصاعد شعبيته في أفريقيا، بدا القذافي قوة لا تُقهر. وغاب الليبي العادي خلف صورة زعيمه بالكامل.

القذافي في جولاته الأفريقية

لم يكن وقت الفيلم (ساعة ونصف) كافيا إلا للمرور سريع على أبرز محطات سيرة القذافي، وهو يُعد المحاولة الوثائقية الأولى لسبر أغوار التاريخ السريّ للديكتاتور، وستعقبه بالتأكيد أعمال عدة قادمة، فهناك ما يكفي لملء ساعات تلفزيونية عدة، خاصة مع وجود الشهود الأحياء من الليبيين وغيرهم، ومسارح الأحداث.

نزق الزعيم.. غرائب رجل يشتت الانتباه حيا وميتا

اختار الفيلم البريطاني -على خلاف تقاليد هيئة الإذاعة البريطانية المُنتجة العريقة- المُقاربة المثيرة التي تقترب من أسلوب صحافة “التابوهات” للتاريخ الليبي الحديث، وهو أمر يسهل الوقوع فيه عند التعرض لشخصية جدليّة وغريبة الأطوار مثل القذافي.

وقد اختار الفيلم هذه الزاوية من التناول على تقديم تحقيق يتعرض للمحنة الطويلة التي عاشها الليبيون في العقود التي عاشوا فيها تحت حكم العقيد، فقصص هؤلاء مرت بعجالة في الفيلم، مقارنة بالمساحة التي استحوذت عليها قصص الجنس للزعيم الليبي، أو شق نزقه الغريب في تعامله مع الحكومات الغربية.

وكأن القذافي، الذي استطاع أثناء حياته بغرابة أفعاله وهيئته، أن يحول الانتباه عن سجلّه الداخلي تجاه الليبيين، ما زال رغم موته يبعد الاهتمام عن ما اقترفه ضد شعبه الذي عاش حصارا مرعبا لأكثر من 30 عاما، وما زلنا بعيدين جدا عن الإحاطة بكل أبعاده وآثاره.