عشّاق كوريا في بغداد.. يقاطعون الثقافة العراقية

عدنان حسين أحمد

يبحث فيلم “عشّاق كوريا في بغداد” في الأسباب الكامنة التي تقف وراء هَوَس شريحة واسعة من الشباب العراقيين بالثقافة الكورية الجنوبية

 

ينطوي فيلم “عشّاق كوريا في بغداد” للمخرجة العراقية أريج السلطان على عناصر جذب وتشويق كثيرة تثير فضول المتلقّي، وتؤجج رغبته لمعرفة الأسباب الكامنة التي تقف وراء هَوَس شريحة واسعة من الشباب العراقيين بالثقافة الكورية الجنوبية، رغم أنّ هذا البلد يقع في شرق القارة الآسيوية بينما يسترخي العراق في غربها تماما.

لم تَحتل كوريا الجنوبية العراق كما فعلت بريطانيا العظمى أو الولايات المتحدة كي يكون الاحتلال ذريعة مَرَضيّة لتعلّق المُستعمَر بمُستعمِره أو الضحية بجلادها، كما لم تكن كوريا قِبلة للموضة والعطور والصرعات الحديثة مثل باريس التي كان الأثرياء العراقيون يتوقون لزيارتها والتبضّع من متاجرها الباذخة، ولم تكن “سول” منارة للفكر الشيوعي مثل موسكو التي يؤمّها اليساريون العراقيون ويقتفون أثرها في كل شيء تقريبا.

وبما أنّ “أريج السلطان” مُخرجة محايدة لا تروّج لهذا الطرف أو ذاك، توجّب علينا أن نتلمّس بأنفسنا أسباب هذا الشغف بالثقافة الكورية الجنوبية، وولع الشباب العراقيين بالأفلام والمسلسلات والأغاني الشعبية الكورية، وإعلان قطيعتهم التامة للثقافة السمعية والبصرية العراقية والعربية أيضا.

وأكثر من ذلك فإن الكثير من العراقيين لم يكتفوا بالترويج للثقافة الكورية وتمجيد منظومة القيم الأخلاقية والاجتماعية الإيجابية كالصدق والإخلاص وإتقان العمل ورِقّة التعامل بين الجنسين، وإنما ذهبوا أبعد من ذلك، وخاصة الفتيات اللواتي أعلنّ عن رغبتهنّ في الزواج من رجال كوريين جنوبيين، والعيش في رحاب المدن الكورية، على الرغم من بعض السلبيات التي لم تركّز عليها ثيمة الفيلم الرئيسية.

تتمتّع أريج السلطان بقدرة فذّة على رصد والتقاط الموضوعات المثيرة التي قد تمرّ مرور الكرام من دون أن يلتفت إليها أحد، وهذه بحد ذاته ميزة لا تتوفر إلا لدى المخرجين من ذوي البصائر الثاقبة الذين يعرفون القيمة الدرامية التي تنطوي عليها الثيمات الغريبة التي لم يألفها المُشاهد من قبْل، وفيلم “عشاق كوريا في بغداد” ذكي في تشخيصه، مثير في ثيمته، وحصيف في معالجته الفنية.

بسماية.. لمسة كورية

لم يكن الاستماع إلى “كي بوب” (K- pop) ومشاهدة الأفلام والمسلسلات الدرامية الكورية هو السبب الوحيد في التعلّق بالثقافة الكورية، فقد وفدت بعد الاحتلال الأمريكي للعراق العديد من الشركات الكورية الجنوبية المتخصصة بتشييد المدن وتوليد الطاقة الكهربائية وتكرير النفط وما إلى ذلك. وربما تكون “بسماية” المدينة التي بنتها شركة “هانوها” الكورية هي الشرارة الأولى التي نبّهت العراقيين وبقوة إلى وجود الثقافة الكورية بلمستها المعمارية الرصينة التي تتمثل بهذا المجمّع السكني الكبير المشيّد بنفس معايير الجودة والسلامة والإتقان التي يتّبعونها في بلدهم.

كما أنّ القنوات التلفازية والصالات السينمائية العراقية استقبلت كمّاً غير مسبوق من الأفلام والمسلسلات والأغاني الكورية التي تركت تأثيرها الواضح على الشباب العراقي من كلا الجنسين، فراحوا يقلّدون الكوريين الجنوبيين في المأكل والملبس والثقافة، وصاروا يحلمون بالسفر إلى منتجعاتهم السياحية الآسرة، ويتمنون العيش في مدنهم الجميلة النابضة بالحياة.

ونتيجة لهذا الاهتمام المُفرط بالثقافة الكورية نشأت تجمعات ومنظمات عراقية تحتضن الشباب العراقيين من عشّاق الثقافة الكورية. وقد لعبت أنشطتهم الاجتماعية وفعالياتهم الفنية دوراً مهماً في استقطاب أعضاء جُدد يأخذون على عاتقهم إشاعتها في أوساط المجتمع العراقي.

نتيجة للاهتمام المُفرط بالثقافة الكورية نشأت تجمعات ومنظمات عراقية تحتضن الشباب العراقيين من عشّاق الثقافة الكورية

هبة.. مهووسة بكوريا والكوريين

يتكئ الفيلم على شخصية رئيسية واحدة وثماني شخصيات مؤازرة. تُرى، هل تمتلك “هبة” مواصفات الشخصية الدرامية كي تُهيمن على الفيلم من مُستهلّه إلى منتهاه؟

لم تكن هبة مواطنة عادية، وإنما هي مهندسة كهرباء تعمل في إحدى وزارات الدولة العراقية من دون أن تحدّدها، وتعيش مع أمها “افتخار” وشقيقتها “فاطمة”، ولديها ثلاث أخوات متزوجات سنتعرف على إحداهن فقط وهي “شَهْد”، وهناك خمس شخصيات أخرى سنأتي عليها تباعاً.

تسكن هبة مع أمها وأختها في شقة بمدينة “بسماية” التي تتسم بالهدوء، وتمنح ساكنيها الشعور بالحرية حيث صار بإمكانهم أن يتنزهوا أو يمارسوا الرياضة في الهواء الطلق أو يتجولوا على أرصفة الشوارع إلى وقت متأخر من الليل، وهذا ما تحتاجه معظم الأُسَر العراقية.

تبدو هبة شخصية حيوية لم تجتز عامها الثامن والعشرين، ممتلئة طموحا، وترغب في دراسة اللغة الكورية، ومواصلة دراستها العليا في سول، والحصول على شهادة الماجستير، والعيش في العاصمة أو أي مدينة كورية أخرى، وقد تعلمتْ شيئاً من اللغة الكورية بواسطة قنوات يوتيوب.

 لم ينبثق اهتمام هبة دفعة واحدة، وإنما جاء نتيجة تأمل طويل لشخصية الإنسان الكوري الذي لم يسقط في اليأس والقنوط رغم أنه خاض حروبا عديدة، بل نفض عن نفسه غُبار الحروب وخرج من الأزمات قوياً بعد أن ضمّد جراحه وأنعش اقتصاده الوطني شيئا فشيئا.

لقد أحبّت هبة هذا الإنسان الكوري الناجح، وقررت أن تعمل على نفسها، وتطوّر شخصيتها بغية تحقيق أحلامها، فقد كانت مهووسة أول الأمر بزيارة كوريا ومشاهدة أماكنها السياحية والترفيهية والتعرّف على الحياة اليومية للمجتمع الكوري، لكنها ما إن اكتشفت أمر المنحة الدراسية حتى فكرت بطلب التأشيرة ومحاولة السفر على نفقتها الخاصة.

العراقيين لم يكتفوا بالترويج للثقافة الكورية وتمجيد منظومة القيم الأخلاقية والاجتماعية الإيجابية كالصدق والإخلاص وإتقان العمل وإنما ذهبوا أبعد من ذلك

لقطات واقعية

تلعب الشخصيات المؤازرة دوراً مهماً في تعزيز الثيمة الرئيسية وهي الهَوَس بالثقافة الكورية، وأول هذه الشخصيات هو “اليوتيوبر” إبراهيم المتزوج من امرأة كورية ويعيش هناك، ويسأل الناس عن لقطات محددة من الدراما الكورية إن كانت واقعية أم لا، من بينها: هل يخرج الرجل مسرعاً إن أمطرت السماء حاملاً مظلته أم لا؟ فتأتي الإجابة غالبا بأنّ هذا الشيء واقعي ويحدث باستمرار في الحياة اليومية الكورية بينما لا يحدث في العراق، بل بالعكس فإنّ أي نوع من الاهتمام يُبديه الرجل العراقي قد يُساء فهمه ويُشكّك في نواياه، كما تذهب شقيقة هبة “فاطمة”.

تحتاج ثيمة الفيلم إلى آراء متعددة تؤازر القصة السينمائية، وربما يكون “زياد” هو الشخص الوحيد الذي يلامس الموضوع الرئيسي ويخرج عنه قليلاً، فهو يرى أن أعضاء تجمّع “عشّاق كوريا” لا يعلنون عن أنفسهم جهاراً لأنهم يخشون من المجتمع العراقي الذي قد ينظر لهم بعين الريبة والشك، ويتمثّل خروج زياد عن الموضوع في رسالته البسيطة التي يدعو فيها العراقيين إلى نبذ الطائفية والتوحّد وحُب العراق والتعايش مع الآخر بغض النظر عن قوميته ودينه وقناعاته الشخصية.

لم ينبثق اهتمام هبة دفعة واحدة، وإنما جاء نتيجة تأمل طويل لشخصية الإنسان الكوري الذي لم يسقط في اليأس والقنوط رغم أنه خاض حروبا عديدة

عشّاق كوريون.. احتضان طويل

ثمة طالب عراقي آخر يُدعى “رمّاحي” يدرس في كوريا ويعرب عن دهشته لوجود هكذا أناس يعيشون معنا على هذا الكوكب، فهو معجب بطريقة تفكيرهم، والنظام الدقيق لحياتهم اليومية، وطبيعة مشاعرهم الجيّاشة، فهو يقول: إن العُشّاق الكوريين حينما يلتقون يحتضنون بعضهم بعضاً لمدة طويلة جداً، لدرجة أن الأوروبيين يعتبرون هذه اللقاءات الحميمة مبالغا فيها وتخرج عن الحدود المألوفة. وبما أنّ رماحي مقيم في هذا البلد منذ مدة طويلة نسبياً فإنه ينصح هبة -إذا قررتْ المجيء مرة ثانية- بدراسة اللغة الكورية، واختيار الجامعة المناسبة من حيث التكاليف المادية.

لم تكن الأسرة متضامنة مع هبة تماما، فالأم “افتخار” لا تحبِّذ فكرة السفر والدراسة في كوريا الجنوبية لأن فرص العمل فيها قليلة ومحدودة جداً للطلاب الوافدين، وتتمنى عليها أن تتزوج وتبني أسرة بدلاً من خوض مغامرة السفر والدراسة في بلد غريب.

تركّز قصة الفيلم على شروط القبول، وملء الاستمارات العديدة، والمقابلات التي تُجرى في السفارة، ثم تندهش هبة حينما تكتشف أنّ حصة العراق هي طالبين اثنين فقط من بين 670 طالباً من مختلف أرجاء العالم. وبما أنّ مدة الإعلان عن المنحة الدراسية كانت قصيرة جداً فإنها لم تتمكن من تقديم أوراقها الرسمية هذا العام الأمر الذي يدفعها للسفر إلى كوريا وتتبّع شأنها الدراسي هناك.

وبعد صعوبات جمّة في الدخول إلى المنطقة الخضراء، تحصل هبة على تأشيرة السفر وتغادر إلى سول، وبين مشاعر الفرح للوصول إلى كوريا ودموع الحزن على فراق الأهل والأحباب تصل هبة إلى ربوع البلد الذي كان تحلم فيه لتؤكد ذاتها، وهذا هو عصب الفكرة الأساسية، فهي تريد أن تعتمد على نفسها، وتعيش الحياة التي تريدها من دون وصاية الأهل، وها هي تجرّب حياة الكوريين اليومية لأول مرة بإيجابياتها وسلبياتها، وتحاول أن تقرأ تاريخهم، وتتعمق في ثقافتهم التي أحبتها وانجذبت إليها سنواتٍ طوال. مع ذلك ثمة مشاعر مختلطة تخالجها تجمع بين الخوف والقلق والسعادة التي لا تُوصف.

يتكئ الفيلم على شخصية رئيسية واحدة وثماني شخصيات مؤازرة

هبة في كوريا.. تنزع الحجاب

تبدأ الرحلة من مطار إنتشون إلى مناطق متفرقة حيث تلتقي بعدة أشخاص أولهم المذيع في القسم العربي في الإذاعة، ثم المُرشدة السياحية الكورية “مديحة”، واللقاء برمّاحي وجهاً لوجه، وأخيراً مقابلتها للدكتور غيو تاي كيم الأستاذ في الجامعة الكورية.

 كانت هبة تتمنى أشياء عديدة مثل رؤية أشجار الكرز، وهطول المطر بوجود شخص كوري ينتظرها وهو يحمل المظلة.. تبدلت شخصية هبة في مظهرها الخارجي حيث نزعت الحجاب، وقصّت شعرها على الطريقة الكورية، وصبغته بلون أشقر رمادي. كما وجدت نفسها في هذا البلد حينما قالت بما معناه “أنا أشعر بأنني أنتمي إلى هذا المكان”.

يرصد الفيلم في جانب منه الفروق بين الإنسان العراقي الذي حاصره النظام السابق وحرمه من حق السفر ومعرفة ما يجري في العالم الخارجي، فهبة تقول إنها تسافر لأول مرة بالطائرة، وتتسلّق الجبال وتستعمل قطارات الأنفاق، لكنها في المقابل ترصد الفروق بين عالَمين ومجتمَعين، ولعلها أول مرة تنتقد فيها المجتمع الكوري الجنوبي الذي تمحضه الحب من نوع خاص، فتتحدث عن انعدام التواصل بين الناس، فالكل مشغول بهاتفه النقّال ولا أحد ينظر إلى الآخر، وحتى لو جاءت امرأة كبيرة في السن فلن ينهض لها أحد.

لم يكشف اللقاء الإذاعي الكثير من رغبات هبة، فالمُشاهد يعرف سلفاً أنها ذهبت إلى كوريا بهدف الدراسة، وأن حلمها الوحيد هو أن تعيش بين أوساط المجتمع الكوري الذي تحبه جداً.

لعبت الأنشطة الاجتماعية للتجمعات المهتمة بالثقافة الكورية وفعالياتهم الفنية دوراً مهماً في استقطاب أعضاء جُدد يأخذون على عاتقهم إشاعتها في أوساط المجتمع العراقي

الكوري يدلّل المرأة ويحملها

اللقاء بمديحة الكورية يسلّط الضوء على جوانب مهمة، فهي تتكلم اللغة العربية بشكل معقول، وتعمل مرشدة سياحية في شركة “يلا كوريا”. ومن خلال الحوار الذي يدور بين هبة ومديحة نفهم أن كوريا تفتقر إلى المصادر الطبيعية مثل النفط والغاز، لكنها تمتلك موارد بشرية وتستثمرها بشكل ممتاز.

تؤكد مديحة أن الرجل الكوري “يُدلّل” المرأة، وأنه يحملها إذا كانت متعبة، بينما لا نجد هذه الظاهرة في العراق.

درست مديحة اللغة العربية في الكويت، وتَعتبر العمل جزءاً أساسياً من حياتها، وهو لا يتعلّق بالحصول على النقود فقط، وإنما هو وسيلة لتحقيق الأحلام والطموحات.

وفي ختام اللقاء تنصحها مديحة أن تتعلّم اللغة الكورية، وتتعرّف على ثقافة البلد لأن الدارسين لهندسة الكهرباء لهم مستقبل مضمون في هذا البلد.

يرصد الفيلم في جانب منه الفروق بين الإنسان العراقي الذي حاصره النظام السابق وحرمه من حق السفر ومعرفة ما يجري في العالم الخارجي

صورة مُحبِطة

تلتقي هبة بالدكتور غيو تاي كيم ويخبرها بأن القبول يعتمد على التمويل المالي، كما أحاطها علماً بالمختبرات العلمية المتطورة في جامعاتهم، وأن الطالب لن يمرّ ما لم يبذل قُصارى جهده في القراءة والبحث العلمي.

أما رمّاحي الذي التقتهُ وجهاً لوجه أول مرة بعد أن كانت تشاهدهُ على شاشة الحاسوب فقد قدّم لها صورة واقعية مُحبِطة بعض الشيء، فالطالب في الجامعات الكورية لا يحظى بساعات كافية من النوم، كما أن طلبة الدراسات العليا يذهبون إلى مقاعد الدرس حتى في يومي السبت والأحد، وأن العمل الجزئي ممنوع، وإن وجد فلابد أن يكون مرتبطاً بالشخص المسؤول عنهم مباشرة.

وتتوصل هبة في نهاية المطاف إلى خيارين لا ثالث لهما، فإما أن تحصل على المنحة الكاملة التي تتضمن دراسة اللغة والتخصص معاً، أو تدرس على نفقتها الخاصة التي تكلّفها من 50 إلى 60 مليون دينار عراقي، وهو مبلغ يكفيها لشراء بيت أو شقة في العراق. لكننا نعرف سلفاً بأن ما تطمح إليه هبة ليس تأمين هاجس السكن رغم أهميته، وإنما تأكيد ذاتها وتحقيق طموحاتها الشخصية التي تتمثل في مواصلة الدراسات العليا، والعيش في كوريا، والزواج من كوري.

تشعر هبة بأنها تمتلك طاقة إيجابية كبيرة، وتتوفر على قدر كبير من التحدي. ورغم أنها تختار الطرق الصعبة فإنها ستصل في النهاية وتحقق ما تصبو إليه.

وفي الختام لابدّ من الإشارة إلى أنّ المُخرجة أريج السلطان لا تختلف كثيراً عن المخرجين الفرنسيين الذين يقدّمون في أفلامهم الوثائقية “الحقيقة” كما هي من دون رتوش، ولا يُقحمون فيها آراءهم الشخصية كما يفعل المخرجون البريطانيون الذي يدسّون أنوفهم في كل شيء، فلا غرابة أن ترى آثار المصورين، وبصمات كتّاب النصوص، وأنفاس المخرجين البريطانيين وهي تعبق من أفلامهم المحلية أو العالمية التي أنتجوها خارج حدود المملكة المُحتفية بعزلتها الأبدية.